لا يوجد يوم ممل في تركيا، هناك يوميًا حدث هنا أو تقدم هناك، في سوريا، العراق، قطر، الصومال، ليبيا، قبرص، توجد قوات أو قواعد عسكرية تمثل الوجود التركي، يرافقها غالبًا ظهور ناعم لمؤسسات الإغاثة والثقافة، حضور حديث نسبيًا لم يكن موجودًا – ولا مطروحًا – في السابق، فمالذي دفع تركيا للدخول في سباق النفوذ المحموم في منطقة مليئة بالألغام؟
قوس في الشرق، سهم نحو أوروبا
حين تأسست الجمهورية التركية الحديثة، كانت أنظارها ترنو نحو أوربا كنموذج ثقافي واجتماعي للدولة التي قامت على أنقاض الدولة العثمانية بموجب معاهدة لوزان عام 1923، سياسيًا، كان الاهتمام بالشأن الداخلي أكبر منه نحو السياسة الدولية، كما أن المسرح الغربي نفسه لم يكن قد استقر بعد في فترة ما بين الحربين، وهكذا قامت الحرب العالمية الثانية.
مع تولي عصمت إينونو الحكم خلفًا لكمال أتاتورك عام 1938، ثم اندلاع الحرب في أوروبا، كان هناك جدال بشأن إمكانية دخولها مع أحد الأطراف، لكن ما منع ذلك وفق البروفيسور ويليام هيل مؤلف كتاب “السياسة الخارجية التركية بين 1774-2000″، التجربة المريرة التي خاضتها تركيا في الزمن العثماني خلال الحرب العالمية الأولى، “كان أغلب القادة الأتراك ممن شهدوا الحرب الأولى، وهم يعرفون مالذي يعنيه الدخول في نزاع طاحن كالذي شهده العالم، ورغم وجود اتفاقية بين تركيا وبريطانيا وفرنسا عام 1939، إلا أن تركيا لم تدخل فعليًا للحرب إلا عندما تبين لها نصر الحلفاء، وخرجت من حيادها وأعلنت انضمامها إليهم في فبراير عام 1945”.
تعطي تلك الفترة، نظرة واسعة على التحديات التي واجهتها الجمهورية الحديثة وتمثل أهم تحديات الأمن القومي حتى يومنا هذا، وتتمثل في أمرين:
– تحدٍ اقتصادي: في وقت نهاية الحرب العالمية الثانية وصل معدل التضخم في تركيا إلى مستويات خرافية بـ354%، ثم تناقص ليصل إلى 60% في الثمانينيات، ليعاود الارتفاع في التسعينيات بوصوله إلى 70%، (ثم انخفض دون الـ10% مع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002).
– تحد أمني: تقع تركيا على عقد مواصلات دولية (تملك ممرين دوليين: البسفور والدردنيل)، كما أنها برزخ بين عوالم وثقافات وقارات: بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي، بين الكتلة الشرقية والمعسكر الغربي، بين آسيا وأوروبا، وهو ما دفعها للانضمام لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ثم الانضمام لحلف الناتو عام 1952 للحصول على مظلة أمنية تمنحها الاستقرار في عالم يموج بالصراعات.
كان الدخول التركي في المعسكر الغربي النواة الأولية لتحقيق مطالبها القومية، فشاركت في الحرب الكورية وانضمت لحلف بغداد وكانت الخط الأول في مواجهة الاتحاد السوفيتي مع قربها الشديد من خاصرته الجنوبية الرخوة، وطوال تلك الفترة كانت تركيا تستند على دعم الناتو أمنيًا، ملحوقًا بالمساعدات الاقتصادية الأمريكية بدءًا بحزمة مشروع مارشال وانتهاءً بالمساعدات الأخرى.
لكن المعادلة برمتها تغيرت مع سقوط الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991، انتهت المعركة بسقوط العدو الرئيس الذي كانت تركيا خط المواجهة الأول فيه، وهذا لم يكن يعني فقط أن تركيا فقدت شيئًا من قيمتها الجيوسياسية، وإنما أن معركةً كبيرةً انتهت دون أن تحصل منها تركيا على ما تستحق: رُفض انضمامها للاتحاد الأوروبي عام 1989، وعارضت أمريكا تدخلها في قبرص قبل ذلك وسياستها مع الأكراد بعدها، وأكثر من ذلك خفض الكونغرس المساعدات العسكرية إلى 150 مليون دولار أواخر الثمانينيات.
في ذلك الوقت، كان هناك عالم جديد يتشكل، لم يعد المعسكر الغربي جبهة واحدة، كما أن واشنطن، قائدة ذلك المعسكر، لم تعد القوة العظمى الوحيدة في العالم، فهناك الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الصين، ثم التحقت روسيا بالمجموعة، وكان علامة قيامها ظهورها القوي في الشرق الأوسط، ساحة الصراع الجديدة بعدما انتقلت المواجهة من حرب باردة بين كتلتين، إلى قوس أزمات يمر بقلب العالم العربي وصولًا إلى أفغانستان على حد وصف مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق زبنجيو برجنسكي.
مع صعود حزب العدالة والتنمية وتحقيقه نموًا اقتصاديًا واستقرارًا سياسيًا في فترة وجيزة برزت نظرية جديدة للأمن القومي التركي، يعبر عنها رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أغلو في كتابه “العمق الإستراتيجي”: “إمكانات تركيا أكبر من مكانتها، وأنه ما دام الصراع قد وصل إلى العمق التركي، فإن إمكاناتها يمكنها أن تعطيها دور القيادة الإقليمية، فمقولة إن تركيا بحاجة للغرب أثبتت خطأها، وما يحصل الآن هو العكس تمامًا، والاتحاد الأوروبي الذي رفض تركيا، لن يصبح قوة عظمى دونها”.
صناعة النفود الخارجي ليست كلامًا يُقال في الاجتماعات ولا أماني في رؤوس حامليها، لكنها توازنات تصنعها معادلات القوة والتأثير
هكذا إذن تحول الدور التركي من باحث عن الدعم في الحرب الباردة، إلى باحث عن دور مؤثر في قوس الأزمات (يُشد القوس في الشرق، فيصيب السهم هدفه في الغرب) وكان لهذا التحول أسباب عديدة:
1. أن تركيا نفسها واقعة في ذلك القوس، وبالتالي تحتم عليها مصلحتها بالدرجة الأولى أن تتدخل وأن تفعل، ليس بالقواعد القديمة المحكومة بالقوتين العظمتين، وإنما بقواعد جديدة تحركها دوافع جديدة تخرج تركيا من كونها مجرد “بلد يحرس الحدود الملاصقة للمعسكر الشيوعي في تخوم القارة” على حد تعبير صامويل هنتنغتون مؤلف كتاب صدام الحضارات.
2. أن جزءًا كبيرًا من ملفاتها الداخلية متأثر بما يحدث وما سيحدث في الشرق الأوسط: الملف الكردي في العراق وسوريا، الثورة السورية، اللاجئون، داعش، وبالتالي لا يمكن لها أن تنتظر ما يقرره الآخرون في ملف سيؤثر على المعادلة الداخلية نفسها.
3. إنها الأولى بالتدخل من الدولة الغربية “المسيحية”، وهو تدخل يعيد في ذاكرته حروبًا صليبية تذكي داوفع الجهاد ضده، بينما يستحضر التدخل التركي في الذاكرة، إمبراطورية عثمانية يعتبرها جمع كبير من المسلمين مظلة عسكرية حمت الإسلام – وحملته – لخمسة قرون.
3. العنصر الإيراني يصول ويجول في المنطقة، يصنع حكومات ويُسقط دول، رغم عنصريته القومية وتطرفه الطائفي، وهو – أي النفوذ الإيراني – جعل منها قوة أجلست الاتحاد الأوروبي وأمريكا معه للتفاوض بشأن البرنامج النووي، وحصل بذلك ضمنًا على اعتراف بنفوذه في المنطقة.
4. لا تمارس أغلب دول المنطقة دورها كلاعب رئيسي رغم أن أرضها تحولت إلى ملعب دولي واكتفت بالاعتماد على معادلات الحرب الباردة والنفط في حفظ أمنها رغم تغير المعطيات كلها.
بين “الستنغر” و”البيرقدار”.. هكذا تُخاض الحروب!
لكن صناعة النفود الخارجي ليست كلامًا يُقال في الاجتماعات ولا أماني في رؤوس حامليها، لكنها توازنات تصنعها معادلات القوة والتأثير، وهي في المنطقة العربية تحمل طابعًا مسلحًا باستخدام القوة العسكرية، وهذا يعني أن أي تدخل عسكري يجب أن يكون “متمكنًا” يساند حليفًا هنا أو صديقًا هناك، و”مؤثرًا” يغير موازين القوى على الأرض، وإلا تحول إلى وبال يرتد بآثار عكسية كما هو حاصل مع التحالف السعودي الإماراتي أو إلى شلال دم كما هو حاصل مع إيران.
منذ العام 2003، مع التدخل الأمريكي في العراق، وتحول المنطقة إلى صفيح ساخن، كان النفوذ التركي يتصاعد تدريجيًا، بالقوة الناعمة أول الأمر ثم بالوجود العسكري المباشر بعدها بحكم ضرورات المواجهة عقب الربيع العربي والثورة السورية.
لكن الظهور التركي لم يكن في أغلبه إلا إظهار للقوة والوجود، كما هو حاصل مع القوات التركية في العراق وقطر والصومال، ومع احتدام المعارك في سوريا ووصول الحزب الديمقراطي الكردستاني في سوريا إلى الحدود التركية واتصاله مع حزب العمال الكردستاني في تركيا، كان التدخل المباشر حاجة تفرضها وقائع الأرض، فدخل الجيش بنفسه للقتال في عفرين ومناطق أخرى في عملية غصن الزيتون، وهنا برزت المشكلة: الدخول في حرب عصابات توقع الكثير من القتلى بين الأتراك، ما يعني نعوش وأعلام في المدن التركية، يُمكن استغلالها سياسيًا في الداخل، وهو ما لا يريده حزب العدالة والتنمية.
وكان الحل البديل استخدام الطيران الحربي بصورة مكثفة، تفاديًا لسقوط ضحايا في القوات البرية، لكن هذه الإستراتيجية مكلفة جدًا مع ساعات القتال الطويلة، فمثلًا تكلف ساعة الطيران الواحدة للمقاتلة الأمريكية F-16 نحو 8000 دولار، بينما تصل تكلفة الساعة الواحدة لطائرة F-15C نحو 23 ألف دولار، دون احتساب تكاليف الصيانة والأعتدة والذخائر، ومع طبيعة الحرب غير التقليدية، يصبح استخدام هذا النوع من المقاتلات عبثًا لا طائل منه خاصة أن الأهداف المعادية لا تبلغ كلفتها ربع كلفة الطلعة الجوية الواحدة! مالعمل إذن؟ لا بد من سلاح يغير موازين التكلفة الباهضة للحرب غير المتوازية “asymmetric warfare” التي يلعب فيها الاستطلاع الجوي والانقضاض على الأهداف الأرضية بطريقة غير مكلفة دورًا فعالًا.
وكانت هذه المشكلة هاجسًا أرّق الأمريكان طويلًا خلال الحرب في العراق وأفغانستان، حتى ظهر أول الحلول مع الطائرات دون طيار “الدرونز” التي أثبتت كفاءة كبيرة في أفغانستان – وإن لم تغيير موازين المعركة هناك -، وتحولت إلى السلاح الأكثر استخدامًا في العمليات الأمريكية، حتى أصبحت تشكل 31% من القوة العاملة في القوات الجوية الأمريكية، وهكذا فعلت تركيا.
الشاهد أن ظهور سلاح ثم تغييره سير المعارك وموازين القوى في معركة ما أمر ليس جديدًا، على الأقل في قوس الأزمات، ولعل صواريخ ستنغر الأمريكية التي ظهرت في أفغانستان عام 1986 وأدت لإسقاط 270 طائرة هيلكوبتر سوفيتية، كان له الأثر الكبير في تغيير سير القتال الأرضي ثم انسحاب السوفييت من أفغانستان كلها عام 1989.
فالمجاهدون الأفغان كانوا يستخدمون أسلحة من بقايا الحرب العالمية الثانية على حد تعبير جاك ديفاين المسؤول السابق في فريق وكالة المخابرات المركزية العامل في أفغانستان، وهم رغم إقدامهم الشديد، عانوا كثيرًا من طائرات الهيلكوبتر Mi-24 المعروفة باسم “Hind”، ثم قررت الولايات المتحدة بقرار من الرئيس رونالد ريغان تزويدهم بصورايخ أرض – جو محمولة – كانت ولا تزال قيد التطوير ولم تدخل الخدمة للجيش الأمريكي بعد -، حيث تم إرسال ما يقارب 2500 قطعة منها لأفغانستان، وكان أثرها مدويًا بعد إسقاط 3 طائرات “هايند” خلال أول موجة تعرض في 26 من سبتمبر 1986 قرب مدينة جلال آباد، استخدم فيها 4 صواريخ من هذا الطراز.
يقول البروفيسور آلان كوبرمان أستاذ العلوم السياسية في جامعة تكساس: “التفكير في الانسحاب لدى القيادة السوفيتية، ظهر بعد اليوم الأول من ظهور صواريخ الستنغر، ويمكن القول إن قرار الانسحاب كان نتيجة عدة عوامل أهمها فقدان السيطرة الجوية ثم احتدام الاشتباكات الأرضية بعدها نتيجة هذا السلاح”.
ليس ببعيد عن أفغانستان، وفي الشرق الأوسط، شكل ظهور الطائرة المسيرة التركية “TB2-بيرقدار” وهي الجيل المطور من الطائرات المسيرة “ANKA” عاملًا مهمًا في تغيير الموازين في سوريا وليبيا، ورغم أن ظهورها على ساحة المعارك جاء متأخرًا بعض الشيء عقب دخولها الخدمة عام 2015، فإن ظهورها المكثف خلال عامي 2019 و2020، ساهم كثيرًا في تغيير الوقائع على الأرض، لكن الأهم من هذا أنها غيرته بكلفة رخيصة.
يقول الكاتب ميتشيل بروثيرو وهو كاتب متخصص في مكافحة الإرهاب والجرائم الدولية: “الاستخدام الفعال لطائرات البيرقدار في سوريا، سيفرض حقيقة أن الروس لن يفكروا بمواجهة تركيا مباشرة، وكما يقول مسؤولون في الناتو، إن صوارايخ MAM-L التي تستخدمها تركيا فعالة بشكل كبير، فهي لا تخطئ، والأهم أنها رخيصة”.
في لييبا، وحيث كان دخولها هو الأكثر فاعلية كون المعركة لم تحسم هناك بعد، ساهم ظهورها بتحويل الكفة لحكومة الوفاق الوطني بالكامل، حيث لم يبق لقوات حفتر في كل الغرب الليبي بعد تحرير كل الساحل الليبي وصولًا إلى تونس، إلا ترهونة وقاعدة الوطية وهما محاصرتان بالكامل ومقطوع عنهما الإمدادت، مرة أخرى، بسبب البيرقدار.
إن امتلاك سلاح تكتيكي فعال غير مكلف أضاف قيمة إستراتيجية كبيرة للوجود التركي في المنطقة الذي تعطي قيمة إستراتيجية عالية حسب قول السفير الأمريكي السابق في تركيا روبرت بيرسون: “بالنظر للقواعد التركية، فقد تم اختيارها بعناية، هناك واحدة في قطر، تقول للسعوديين والإيرانيين إننا موجودون هنا، وهناك قاعدة في الصومال، وضعت فيها تركيا قدمًا في إفريقيا قبالة اليمن المشتعل، كما أنها حاولت الحصول على قاعدة في السودان لمراقبة البحر الأحمر قبالة السعودية، ولا ننسى القواعد في شمال العراق والوجود في سوريا”.
ورغم أن مجموع ما يملكه الجيش التركي من طائرات بيرقدار هو 120 طائرة، لكنه استطاع بهذا العدد المحدود تثبيت السلام في إدلب وقلب المعركة في ليبيا وإضعاف حزب العمال الكردستاني شمال العراق ونظيره الكردستاني في سوريا، هذا غير العقود التي بدأت تنهال على تركيا لشراء الطائرات وأولها أوكرانيا وقطر وتونس.
إن دراسة التجربة التركية في الخروج من عباءة الناتو وظلال القوى العظمى ثم الدخول في لعبة النفوذ – وتهيئة مستلزماته محليًا -، يدفع للتساؤل عن سبب تقاعس الدول العربية – وكل الأحداث واقعة في أرضها – عن التخلي عن السياسة التي عفا عليها الزمن بالاعتماد لدرجة العجز على الدفاع الأمريكي رغم تغير كل الموازين الاقتصادية والأمنية الدافعة له أيام الحرب الباردة.
وبغض النظر عن السياسة التركية ودوافعها، تدعو تجربتها للتفكير ولو قليلًا في الإرادة التي نقلت بلدًا غير نفطي كان يعاني من صراعات داخلية إلى مصاف الدول الإقليمية التي تناطح القوى العظمى وتفرض سياستها واتفاقياتها – فرضًا – بالأمر الواقع؟
لقد أسمعت لو ناديت حيًا!