يفتقد الكثير من الجزائريين في رمضان هذا العام الحلوى رقم واحد في قائمة الطلبات خاصة بوسط البلاد، ألا وهي زلابية بوفاريك، بسبب إجراءات الحجر الصحي التي فرضتها تدابير الوقاية من انتشار فيروس كورونا، ورغم غزو العديد من الحلويات الشرقية والغربية الجزائر بسبب العولمة في السنوات الأخيرة، فإن زلابية بوفاريك حافظت على مكانتها المميزة بين مائدة الجزائريين، فما قصة هذه الزلابية وحكايتها مع الجزائريين؟
تاريخ
تتمثل مكونات الزلابية كما هو معرف من الدقيق الناتج عن طحين القمح اللين وحتى الصلب والزيت والماء والسكر، وقد تضاف لها بعض العطور المنكهة وبعض الملونات التي تختلف من منطقة إلى أخرى ومن طاهٍ إلى آخر، وكذا حسب مدة ترك العجينة للتخمر.
ورغم عدم وجود رواية رسمية عن أصل الزلابية التي تعد من الحلويات الأكثر شعبية وطلبًا في الجزائر والمغرب العربي خاصة في الشهر الفضيل، توجد روايتان أقرب للإجماع بين المهتمين بالمطبخ الجزائري: الأولى تقول إن اسم الزلابية يعود إلى اسم زرياب الذي ابتكر هذه الحلوى عندما سافر إلى الأندلس ثم المغرب العربي، أين حرف اسمه من زرياب إلى زلياب.
يقول فوزي سعد الله مؤلف كتاب “الشتات الأندلسي: “الزلابية شهدت النور في الربوع الأندلسية واسمها ذاته مشتق من اسم الفنان زِرْيَاب (أبو الحسن علي ابن نافع) مُغني بلاط قرطبة الأموية خلال العقود الأولى من القرن التاسع الميلادي”، ويعتقد سعد الله أن اسم الزلابية هو تحريف لكلمة “الزِّرْيَابِيَة” الذي يشير إلى أن أساس حلوى الزلابية لم يتغير رغم مرور 10 قرون على عصر زرياب.
أما الرواية الثانية فتقول إن أحد التجار أمر طباخه بطهي الحلوى، غير أنه لم يكن موجودًا إلا الزيت والسكر والدقيق في المطبخ، فعجنها وقلاها، وعندما رأى الشكل النهائي للزلابية، قال مستنكرًا: إنها زلَةٌ بيَ ، وطلب عفو مسؤوله، لتصبح من تلك اللحظة اسمها “زلةُ بي” أو زلابية.
ثلاث عائلات
ظلت الزلابية لقرون ضمن قائمة الحلويات المفضلة للجزائريين في مختلف المناطق، إلا أن مدينة بوفاريك بولاية البليدة المحاذية للجزائر العاصمة استطاعت أن تشتهر بهذه الحلوى، فزلابية بوفاريك ذاع صيتها في الداخل وحتى الخارج بأوروبا وسط الجالية الجزائرية في المهجر.
وتحتفظ ثلاث عائلات بالوصفة السرية لزلابية بوفاريك، التي توارثتها جيلًا بعد جيل دون أن يفشي أي أحد الوصفة النادرة لهذه الزلابية التي تظل فريدة من نوعها رغم محاولة الكثيرين تقليدها.
ذوق زلابية بوفاريك لا يقبل التقليد ولا يعرف ميزتها الفريدة إلا من تناولها من مصدرها الأصلي
وتحافظ هذه العائلات على صناعة الزلابية ببوفاريك التي بدأتها عام 1989 عائلة عكسيل التي تصاهرت فيما بعد مع عائلتي لوكيل وشنون لتحافظ الأسر الثلاثة على سمعة منقطعة النظير في صناعة الزلابية إلى اليوم، ليصبح بذلك اسم مدينة بوفاريك مرادفًا للزلابية، رغم أن بعض السكان الآخرين يرفضون هذا الربط الوحيد، كون بوفاريك تنتمي إلى سهل متيجة المعروف بإنتاج مختلف الخضر والفواكه خاصة البرتقال بكل أنواعه، ويفضلون أن تربط المدينة أيضًا بهذه المنتجات الفلاحية.
ولعل هذا التنوع في المحاصيل الزراعية خاصة الفواكه كالبرتقال والليمون وغيرها هو الذي ساهم في أن تكون زلابية بوفاريك بنكهات وألوان متعددة.
مفقودة
لا يخف مختار في حديثه مع “نون بوست” شوقه هذه السنة لتذوق زلابية بوفاريك، فبسبب إجراءات الحجر الصحي المطبقة على ولاية البليدة التي تضم مدينة بوفاريك، لم يستطع هذا العام التنقل إلى عاصمة الزلابية التي تبعد نحو 54 كيلومترًا عن عاصمة البلاد التي يقطنها.
ويروي مختار أنه كان ينتقل يوميًا هو وعدد من أصدقائه إلى مدينة بوفاريك لاقتناء الزلابية التي لم تستطع تعويضها باقي الزلابيات حتى تلك التي تصنعها عائلته هذا العام في البيت، لاتقاء العدوى بفيروس كورونا لو تم شراؤها كما كان سابقًا.
وبسبب إجراءات الحجر الشامل التي طبقت على ولاية البليدة، وبعدها الحجر الجزئي بالسماح بالتجوال من السابعة صباحًا إلى الثانية زوالًا فقط، لم تعرف مدينة بوفاريك هذا العام زيارة مواطنين لها من باقي ولايات الجزائر، خاصة أنها معروفة أيضًا بـ”الشربات”، وهو عصير يكون في الغالب بالليمون، وتشتهر المدينة به أيضًا، غير أن شهرته لم تستطع أن تضاهي شهرة الزلابية التي تبقى وصفتها السرية علامة مسجلة للعائلات الثلاثة التي تصنعها.
ومنذ دخول شهر رمضان هذا العام، افتقد الكثير من المواطنين زلابية بوفاريك، وتم تداول عدة تغريدات ومنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها ركزت هذه المرة على التحذير من تسبب طوابير انتظار الحصول عليها في انتشار أكبر لفيروس كورونا في البلاد، خاصة أن مدينة بوفاريك تنتمي لولاية البليدة التي صنفت كأخطر بؤرة لفيروس كورونا في الجزائر.
فغرد موزاوي جمال قائلًا: “رمضان بلا زلابية بوفاريك.. معندوش بنة (أي ليس له ذوقًا)”، وكتب الممثل يوسف زروطة محذرًا من التدافع الكبير والطوابير أمام محلات بيع الزلابية قائلًا: “الموجة الأولى من كورونا كان سببها الخفاش، الموجة الثانية ستكون بسبب الزلابية”.
وبسبب الحجر الصحي ومثلما كان البعض يفعل سابقًا، ذهب البعض في الولايات الأخرى إلى الادعاء أن ما يبيعونه هو زلابية بوفاريك، إلا أن كل هذه المحاولات للتقليد والتحايل تفشل كل مرة لأن ذوق زلابية بوفاريك لا يقبل التقليد ولا يعرف ميزتها الفريدة إلا من تناولها من مصدرها الأصلي، ليبقى التمتع بمذاقها المميز مؤجلًا إلى موعد آخر مرتبط بتخطي الجزائر أزمة جائحة كورونا.