فيديو لحرق علم الاتحاد الأوروبي في أحد الشوارع العامة وفيديو آخر لاستبدال العلم الصيني الأحمر بالعلم الأوروبي الأزرق في إحدى الساحات، هذا ما شاهدناه خلال الأسابيع الماضية مع بلوغ وباء كورونا ذروته في إيطاليا (من حيث عدد الإصابات والوفيات) وذلك بسبب غضب بعض الإيطاليين من الاتحاد الذي اتهموه بالتخلي عنهم وقت الأزمة وعدم تقديم المساعدات الطبية لهم بالمستوى المطلوب.
سخط شعبي ترجمته التصريحات الرسمية لبعض المسؤولين الإيطاليين بمن فيهم رئيس الوزراء جوزيف كونتي الذي حذر من “فشل الاتحاد الأوروبي كمشروع “، وهو أطلق تساؤلات حول ما إن كانت هذه التطورات تمهد لانسحاب إيطالي مماثل لنظيره البريطاني من الاتحاد الأوروبي.
ثمّة أسباب ووقائع عديدة تجعل انسحاب إيطاليا من الاتحاد أمرًا مستبعدًا جدًا، وسنحاول في هذه العجالة تقديم المؤيدات التي تدعم وجهة النظر هذه وتفند ما ذهب إليه البعض من تكهنات بانسحاب إيطالي مرتقب وربما حتى انهيار الاتحاد الأوروبي نفسه.
طبيعة علاقة كل من بريطانيا وإيطاليا بالاتحاد الأوروبي
تنطلق إجابتنا على السؤال المركزي لهذا التقرير من العودة إلى الجذور وبالتحديد للحظة التأسيس، فقد شكلت السوق المشتركة للفحم والصلب تحت مسمى “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب” التي أسست بموجب معاهدة باريس سنة 1951 النواة الأولى لما عرف بعدها بالاتحاد الأوروبي، وكانت إيطاليا آنذاك من بين الدول الستة الموقعة على المعاهدة وقد جددت التزامها عبر الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية من خلال التوقيع على معاهدة روما سنة 1957، وبالتالي تعتبر إيطاليا من الدول المؤسسة للاتحاد.
فقد كان الإيطاليون كغيرهم من الأمم الأوروبية جد متحمسين لبناء فضاء قاري موحد عبر انضمامهم لجل المعاهدات والاتفاقيات المشتركة لما في ذلك من فوائد اقتصادية وترسيخ لحالة السلم التي عرفتها القارة العجوز منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بعد قرون طويلة من الحروب والاقتتال على أساس ديني وقومي.
في المقابل نجد أن بريطانيا لم تلتحق بالسفينة الأوروبية إلا سنة 1973 وذلك بعد رفض مطلبها للانضمام في مناسبتين (1963 و1967) بسبب الفيتو الفرنسي الذي مثله آنذاك موقف الرئيس شارل ديغول، حيث لم يكن يرى الأخير بريطانيا أوروبية بما فيه الكفاية، بالإضافة إلى توجسه من كون المملكة المتحدة ستكون أولًا معيقًا للمشروع الأوروبي (أي على مستوى الاندماج والتكامل) وثانيًا حصان طروادة أمريكي داخل الاتحاد.
وقد صدقت رؤية ديغول إلى حد ما، فبريطانيا لم تكن يومًا كاملة العضوية داخل الاتحاد الأوروبي (مثل فرنسا أو ألمانيا) فهي لم تنضم إلى منطقة شنغن للتنقل الحر أو منطقة اليورو بسبب تمسكها بحدودها الوطنية بالنسبة للأولى وعملتها الوطنية (الجنيه الإسترليني) بالنسبة للثانية، وقد كانت غاية هذه السياسة الحفاظ على حد من الاستقلالية تجاه بروكسل وعدم السماح بذوبان الكيان البريطاني بالكامل داخل الكيان الأوروبي، وذلك على عكس وضعية إيطاليا داخل الاتحاد وهو ما سيجعل أي عملية انسحاب إيطالي أصعب من نظيرتها البريطانية التي دامت لأكثر من 3 سنوات.
وجهة نظر مؤيدي مغادرة الاتحاد الأوروبي بدت أنها قادرة على التحول إلى واقع عملي مع طرح إدارة ترامب إمكانية إبرام اتفاق تجاري كبير ومنفصل مع بريطانيا
الفضاء الإستراتيجي البديل
المعطى الثاني الذي يدفعنا إلى استبعاد حصول سيناريو ”البريكست” هو معطى ثقافي – تاريخي – سياسي جد مهم، فكل من بريطانيا وإيطاليا كانتا ضمن القوى الاستعمارية الأوروبية خلال القرنين الـ19 و20، لكن الأولى كانت متفوقة على الثانية سواء من حيث المساحات الشاسعة التي سيطرت عليها أم عدد الدول التي وطئتها أقدام جنودها أم البحار التي غزتها أساطيلها، حتى لقبت بريطانيا في يوم ما بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
هذا الإرث الاستعماري العظيم من حيث إشعاعه المادي والروحي، بالإضافة إلى استيطان الإنجليز فيما عرف آنذاك بالعالم الجديد (أمريكا الشمالية وأستراليا) وفر اليوم لبريطانيا فضاءً حيويًا إستراتيجيًا يمكن أن يشكل بديلًا عن الفضاء الأوروبي ألا وهو الفضاء الأنجلوساكسوني أو ما يعرف بالأنجلوسفير.
فبالإضافة إلى رابطة دول الكومنولث التي تنضوي تحت مظلتها 53 دولة من بينها قوى اقتصادية آسيوية صاعدة مثل الهند وماليزيا وسنغافورة، ما زالت المملكة المتحدة ترتبط بعلاقات إستراتيجية وتاريخية خاصة مع كل من الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا سواء على المستوى السياسي أم الاقتصادي أم الثقافي أم الأمني أم العسكري.
إذ لطالما حاجج الساسة البريطانيون المؤيدون لمغادرة الاتحاد الأوروبي من أمثال زعيم حزب الاستقلال السابق نايجل فاراج ورئيس الوزراء الحاليّ بوريس جونسون بأن الأنجلوسفير هو فضاء بريطانيا الطبيعي، فقد وصف جونسون سنة 2013 التحاق بريطانيا بالاتحاد بأنه كان بمثابة الخيانة لعلاقات الأخيرة مع دول الكومنولث مثل أستراليا ونيوزيلندا، بينما صرح وزير البريكست السابق ديفيد ديفيس في خطاب له سنة 2016 بأن “هناك فرصة لتجديد علاقاتنا مع دول الكومنولث والأنلجوسفير. هذه الأجزاء من العالم تنمو بوتيرة أسرع من أوروبا. نحن نتقاسم التاريخ والثقافة واللغة، لدينا علاقات أسرية، ونحن أصلًا نتقاسم أنظمة قانونية مماثلة، والحواجز التجارية المعتادة غائبة إلى حد كبير”.
رغم الانتقادات والاتهامات لهم بالغرق في اليوتوبيا والأوهام الاستعمارية، فإن وجهة نظر مؤيدي مغادرة الاتحاد الأوروبي بدت أنها قادرة على التحول إلى واقع عملي مع طرح إدارة ترامب إمكانية إبرام اتفاق تجاري كبير ومنفصل مع بريطانيا قد يشكل اللبنة الأولى لتعاون أعمق بين دول العالم الأنجلوساكسوني على مختلف المستويات.
استعراض هذه المقارنة لا يلغي، أولًا حقيقة وجود أزمات هيكلية تؤرق الاتحاد الأوروبي يضاف إليها ما يعانيه حاليًّا جراء أزمة وباء كورونا، وثانيًا واقع تنامي الشكوكية لدى شعوب القارة تجاه الاتحاد
في المقابل، نجد أن الاستعمار الإيطالي في العصر الحديث لم يمتد إلا لثلاث دول هي ليبيا وإثيوبيا والصومال، لكن بخلاف ذكرى جرائمها الدموية التي ارتكبت بحق شعوب هذه الدول خلال الحقبة الفاشية، لم تخلف إيطاليا وراءها إرثًا إداريًا أو قانونيًا أو لغويًا ثمينًا تحفظ به اليوم نفوذها وقوتها الناعمة مثلما هو الحال مع فرنسا في إفريقيا، وبالتالي لا يبدو أنه يتوافر لإيطاليا مجال حضاري بديل يغنيها عن ارتباطها ببروكسل، وهذا يشكل عاملًا آخر قد ينفر النخبة السياسية الإيطالية من الدفع باتجاه مغادرة الاتحاد خاصة إذا فكروا بشكل براغماتي.
أخيرًا، أود الإشارة إلى أن استعراض هذه المقارنة لا يلغي، أولًا حقيقة وجود أزمات هيكلية تؤرق الاتحاد الأوروبي يضاف إليها ما يعانيه حاليًّا جراء أزمة وباء كورونا وثانيًا واقع تنامي الشكوكية لدى شعوب القارة تجاه الاتحاد الذي أضحى يراه طيف من الأوروبيين كمصدر تهديد لأمنهم ومصالحهم الاقتصادية وكيانهم الهوياتي، شكوكية ترجمتها الخيارات الانتخابية لشعوب أوروبا وصعود نجم الأحزاب اليمينية الشعبوية خلال السنوات الماضية بما في ذلك إيطاليا التي لا يزال حزب رابطة الشمال اليميني المتطرف يتصدر استطلاعات الرأي فيها.