حين يغيب دور الدولة ويتنحي القانون عن العدل وتنتشر الفوضى، لا يجد الناس بدًا من خلق زعيم محلي أو قائد شعبي، يكون حصنهم في مواجهة البطش والطغيان، يدافع عن حقوقهم، ويزود عنهم وعن أرواحهم وممتلكاتهم، وفي الغالب يكون من بين عامتهم، يشعر بآلامهم ويتجرع مرارة فقرهم.
وفي التراث المصري انتشرت هذه الظاهرة بصورة كبيرة على مدار قرنين كاملين، الثامن عشر والتاسع عشر، وكان يلقب القائد الشعبي الجديد باسم “الفتوة”، حيث انتشرت في معظم ربوع مصر وضواحيها الفتوات، فنسمع عن فتوة بولاق والحسينية، فتوة الحارة، فتوة المولد، وغير ذلك من المسيمات التي لا تزال عالقة في أذهان الكثير من المصريين حتى اليوم.
وكان للفتوات محامد ومكارم كثيرة، بعيدًا عن التشويه الذي تعرضوا له إعلاميًا وسينمائيًا على مدار سنوات طويلة مضت، وهو ما أوضحه سيد صديق عبد الفتاح في كتابه “تاريخ فتوات مصر“، فكانوا يحمون الضعيف ويجيرونه من بطش القوي، وينتصرون للمظلوم في وجه الظالم، بل إن الواحد منهم قد يضحي بحياته من أجل الدفاع عن المقهورين.
ويزخر التاريخ المصري بعشرات القصص والروايات عن الفتونة ورموزها وتأثيرهم المجتمعي في إحداث التوازن وتعويض الخلل الذي أحدثه غياب السلطة الرسمية لا سيما في أوقات تفشي الفساد والإفساد، هذا بخلاف دورهم الوطني الكبير في الزود عن البلاد في مواجهة الاستعمار، وإن حاد بعضهم عن الطريق بعض الوقت وتحولوا شيئًا فشيئًا تحت سلطة المال إلى عصا في أيدي المحتلين والحكام الفاسدين لتقليم أظافر الشعب وضمان ولائهم ووأد أي صوت معارض.
نشأة تاريخية
في كتابه “حكايات الشطار والعيارين” يذهب المؤلف محمد النجار إلى أن نشأة الفتوة في مصر تزامت رسميًا مع ميلاد دولة المماليك (1250-1517)، فحين انتقلت الخلافة العباسية إلى القاهرة 1261، ألبس الخليفة العباسي، المستنصر بالله، ثياب الفتوة للظاهر بيبرس، ومنذ هذا الوقت درج سلاطين المماليك على إلباس الأمراء والأعيان ثوب الفتونة حتى القرن الرابع عشر.
وظلت الفتونة حكرًا على الأعيان وعلية القوم خلال العصرين المملوكي والعثماني، حتى ظهرت الجماعات الشعبية وتراجع دور الدولة فيما ظهر داخل الأحياء كيانات بديلة لحماية الناس، إلا أن هذا الأمر كان على مرأى ومسمع من السلطات والحكومات التي ساعدت على انتشار تلك الظاهرة.
ففي عام 1481 أنشأ الأمير المملوكي يشبك الدودار القبة الفداوية في القاهرة، التي تحولت مع مرور الوقت إلى مقر لاجتماع الفتوات، ورغم تصاعد شوكتهم يومًا تلو الآخر، فإن الحكومة لم تتمكن من السيطرة عليهم، بل على العكس من ذلك كان الحكام يلجأون إلى فتوات المناطق في بعض الأوقات للحصول على دعمهم ومساعدتهم في وأد بعض الحركات أو في أثناء الحروب والمنازعات.
الدكتور سيد عشماوي في كتابه “الجماعات الهامشية المنحرفة في تاريخ مصر الحديث” يرى أن ظاهرة الفتوة كانت محصلة لظروف وأوضاع المجتمع السياسية والاقتصادية، لا سيما في نهايات العصر المملوكي، وظلت على وضعيتها تلك حتى عصر محمد علي، الذي استطاع أن يحجم تلك الظاهرة بقوة القانون.
غير أن الظاهرة عادت مرة أخرى في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، مع نمو الجماعات الهامشية، حيث كانت تستعين بهم قوات الأمن المصرية للقبض على اللصوص والخارجين على القانون، غير أن العلاقة تبدلت بعد ذلك جراء بعض المذابح التي وقعت في مناطق بالقاهرة فقررت الشرطة قمع الفتونة والقضاء عليها بصورة كاملة.
في التراث الشعبي
التراث الشعبي العربي يزخر بالعديد من نماذج الفتونة، فنجد ذلك في سير علي الزيبق والظاهر بيبرس وألف ليلة وليلة، وإن تغيرت المرادفات المتعلقة بالفتونة مثل الشطار والعيارين وغيرهم، غير أن العامل المشترك بينهم هو التمتع بالحذق والبراعة وخفة الحركة وقوة البنيان.
ومن هنا يمكن القول إن الفتونة تعد صفة جامعة لأخلاقيات ابن البلد من حيث الكرم والإقدام ومساعدة الغير والزهد في الحياة، فهي تدل منذ البداية على أخلاقيات الفرسان والمجاهدين الذين يحملون هم فقراء مناطقهم ويضعون الحق نصب أعينهم، فلا يحيدون عنه مهما كانت المغريات، هذا بالطبع قبل أن يتغير الحال كما سيأتي ذكره لاحقًا.
وتعد سيرة علي الزيبق على سبيل المثال واحدة من أكثر السير تجسيدًا لتلك الظاهرة، فالرجل الذي يتسم بالقوة والمهارة والحيلة، متفوقًا على أقرانه من شطار بلدته، كان نصيرًا للمظلومين، لا يسكت عن الحق، ولا يداهن الظالم حتى إن كان من أهل السلطة، فتحول إلى بطل مرموق يتحاكى الصغار والشباب ببطولاته.
مقاومة الاستعمار
لم تقف مآثر الفتوات عند الدفاع عن المظلومين من بني الأحياء التي يقطنونها، بل شاركوا في حماية الوطن بعد ذلك، في مواجهة الاستعمار والمحتلين، حيث حملوا لواء المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي عام 1798، حين قادوا الهبة الشعبية للتصدي لجنود نابليون بونابرت الذي ضاق بهم ذرعًا، مما دفعه لأن يطلق عليهم اسم (الحشاشين البطالين).
وحين اشتعلت ثورة القاهرة الأولى ضد الاستعمار الفرنسي، كانت معظم أحياء العاصمة المصرية تخضع لسلطة وإمرة الفتوات الذين أظهروا مقاومة باسلة، سواء في ثورة القاهرة الأولى أم الثانية، وهنا يذكر المؤرخ علي مبارك في كتابه “الخطط التوفيقية” أن الفتوات أصابوا نابليون بالجنون بسبب كثرة الشغب والمقاومة ضد جنوده، وكان يتربص بهم لكنهم كانوا على قدر كبير من الحنكة والذكاء.
أما عبد الرحمن الجبرتي فيروي في مذكراته أن أماكن إقامة الفتوات في الأحياء الشعبية في القاهرة بالإمام الشافعي والسيدة زينب، تحولت في زمن الحملة الفرنسية إلى معقل للثوار والمقاومة، كما كانت نقطة انطلاق لتخطيط وتنفيذ العديد من العمليات الثورية ضد المحتلين.
وشيئًا فشيئًا تبدل سلوك الفتوات وتغيرت ملامحه، مع بداية الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882م، حيث تحولوا من مدافعين عن الفقراء في مواجهة بطش السلطة إلى عصا بيد الحاكم لتأديب الشعب، فعندما أيقن الإنجليز خطر الفتوات ودورهم في وأد الحملة الفرنسية، سعوا إلى السيطرة عليهم عبر شرائهم بالمال.
وبالفعل نجحت تلك الإستراتيجية في نزع الشرعية الشعبية للفتوات، وتحولوا إلى أذناب للإنجليز في الأحياء، فبدأوا في فرض الإتاوة على المعدومين، ومارسوا البطش والطغيان، وظلوا هكذا حتى رحيل الإنجليز، وحينها بدأت السلطات المصرية في ملاحقتهم والقضاء عليهم مرة أخرى.
الفتوة في السينما
ما كان لظاهرة كتلك أن تمر مرور الكرام على السينما المصرية، فما تحمله من قصص مشوقة وحكايات مسلية تعد مادة خصبة لإنتاج العشرات من الأعمال الفنية، أفلام ومسلسلات، تتطرق إلى هذه المرحلة الثرية من حياة المجتمع المصري، ومن ثم استمرت تلك الأعمال حتى وقتنا الحاليّ، فهناك أعمال درامية في الموسم الرمضاني الحاليّ تتناول ذات المرحلة على رأسها مسلسل “الفتوة” الذي يعرض على قناة “الحياة” المصرية.
ومن أبرز الأعمال التي زخرت بها سجلات السينما المصرية عن الفتونة: “الشيطان يعظ” بطولة نور الشريف وفريد شوقي وعادل أدهم، الذي تم إنتاجه عام 1981، و”المطارد” بطولة نور الشريف ومجدي وهبة وأُنتج عام 1985، و”سعد اليتيم” بطولة أحمد زكي وفريد شوقي وأنتج 1985.
هذا بخلاف العديد من الأعمال الأخرى منها “شهد الملكة” 1985 و”الحرافيش” 1986 و”التوت والنبوت” 1986 و”الجوع” 1986 و”أصدقاء الشيطان” عام 1988، إضافة إلى بعض المسلسلات والأعمال الدرامية والروايات الأدبية التي تناولت تلك المرحلة التاريخية والمجتمعية المهمة كذلك.
اللافت للنظر في تلك الأعمال جميعها أنها التزمت بنسيج درامي واحد، يعتمد على فساد الفتوات، فتبدأ بحالة القهر والذل المفروضة على الفقراء، الأمر الذي يستفزهم فيخرج من بينهم رجل قوي ينتصر لحقوقهم في مواجهة البطش، فيتحول إلى فتوة المنطقة وزعيمها الشعبي، لكن سرعان ما يتسلل الفساد والاستبداد إليه بعد ذلك حتى يأتي غيره ويكمل المسيرة وهكذا.
وهكذا تمثل الفتونة أحد أبرز مكونات الوجدان المصري في القرنين الثامن والتاسع عشر، تلك الظاهرة التي ما زالت تأسر أسماع وقلوب المصريين حتى يومنا هذا رغم مرور تلك السنين، حيث يجد فيها الشعب العديد من القيم والمعاني المفتقدة في الواقع المعاش الذي تبدلت خريطته بصورة دفعت الكثير للحنين للماضي.
غير أنه في العقود الأخيرة انحدرت الفتونة من عرش المعاني السامية والرسائل النبيلة إلى مستنقع البلطجة وابتزاز الناس عبر ترهيبهم واستغلال نقاط ضعفهم، فظهرت جيوش عدة من البلطجية تتجاوز أعدادها الآلآف، ومع الوقت تم توظيفها لخدمة أهداف سياسية وأمنية للنظم الحاكمة… وهذا ما سيتم التطرق إليه تفصيلا في مادة قادمة.