“لا توجد الكثير من الديانات في العالم، لكن هناك العديد من العقائد، فالعقيدة تعني حجابًا وُضع فوق الدين، هناك دينٌ واحد، وعقائد عدة، كل هذه العقائد (الإسلام، المسيحية، البوذية، الدين العبري) عندما نزيل هذا النقاب عنها، ستجد دينًا واحدًا فقط، هذا الدينُ هو دين الرجل الصوفي”، بهذه العبارة جسّد المتصوف الهندي عنايت خان، رؤيته للدين والعقيدة.
يعد حضرة عنايت (1882-1927) كما يلقب في بلاده (Hazrat Inayat Khan) المؤسس الأول لحركة “التصوف العالمي”، قدم من شمال الهند متوجهًا إلى بلاد الغرب في ثياب الموسيقى، لكن مع مرور الوقت تحول إلى زعيم روحي وقطب يدخل الفكر الصوفي للغرب حتى بات علمًا يستقبله العديد من الأتباع في مختلف دول العالم.
تمحورت رسالة خان الصوفية في مسألة الوحدة الإلهية على عدد من المرتكزات التي استطاع من خلال توظيفها الجيد كسب ثقة وحب المجتمع الغربي، على رأسها الحب والوئام والجمال، حيث ربط شغفه بالموسيقى بمساره الصوفي، وباتت لحركته فروع مختلفة في العديد من الدول منها ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة.
عائلة موسيقية صوفية
نشأ عنايت المولود في 5 من يوليو 1882 بولاية “بارودا” بالهند لأسرة موسيقية من الطراز الأول، فبداخل البيت الذي ترعرع فيه كانت ترتفع أصوات الآلات الموسيقية الممزوجة بالأناشيد الصوفية المعروفة آنذاك، ما كان لهم أبلغ الأثر في تكوينه الفني والديني إلى أن بات أحد الأعلام في هذا المجال.
فوالده رحمة خان سليل إحدى أكبر العائلات الإقطاعية في الهند، ويندرج من فروعها العديد من أولياء الصوفية والموسيقيين والشعراء، كما أن والدته “ختيجة بي” هي ابنة الموسيقار الهندي الشهير ماولا بخش (1833- 1896) الذي كان له دور كبير في رسم مستقبل حفيده عنايت.
البيئة التي نشأ فيها عنايت كان لها دور كبير في تعميق شغفه بالموسيقى، فكان بيته الذي ولد فيه يقع على أحد جوانب الطريق في بارودا الهندية وكان ملتقى للشعراء والمريدين والملحنين على مختلف عقائدهم وشرائعهم الدينية، وهو ما ساعد على اكتشاف كوامن النبوغ الموسيقي بداخله.
فبداخل هذا البيت كانت تعقد حلقات الذكر الليلية التي كان يحضرها الكثير من عاشقي الموسيقى والتصوف، وتحول بيت والد عنايت وجده إلى قبلة لدراويش الصوفية، المولعين بموسيقاها التي تسلبهم الأرواح والأسماع، فكان كثير منهم يجلس في منزل خان أكثر مما يجلس في بيته.
وفي التاسعة من عمره ظهر ولع عنايت بالموسيقى، حيث غنى أول أغنية له في حفل رسمي، وكانت عبارة عن ترنيمة “Sanskrit” الشهيرة، ونظرًا لبلائه الحسن وعذوبة صوته كافأه الحاكم الهندي آنذاك، كما كرمه بمنحة دراسية على نفقة البلاد، ليضع الفنان الصغير أول أقدامه على طريق أسلافه.
وحين أتم عامه الـ14، نشر أول كتاب له عن الموسيقى وكان يحمل اسم “Balasan Gitmala” وما إن أكمل سن العشرين حتى سلك العمل الأكاديمي، فأصبح أستاذًا في أكبر أكاديميات الموسيقى بالهند في هذا الوقت، تلك الأكاديمية التي أسسها جده عام 1886، وتعرف الآن بكلية بارودا للموسيقى.
من المحنة إلى المنحة
تعرض عنايت في عام 1896 لصدمة نفسية غيرت مسار حياته، حيث فقد معلمه الروحي وأستاذه الذي لم يبخل عليه بفنه ولا علمه، مات جده بخش، ولم تمر أربعة أعوام على تلك الصدمة، حتى توفى شقيقه الأصغر كرامات وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، الأمر الذي أحدث جرحًا غائرًا في نفس الموسيقار الشاب.
وفي هذه المرحلة لم يجد عنايت بدًا من الخروج عن طريق العمل، فأثرى المكتبة وقتها بعشرات الأعمال الفنية والموسيقية التي لاقت رواجًا كبيرًا في هذا الوقت، وبعدها انتقل إلى حيدر أباد التي شهدت مرحلة فاصلة في مسيرته الفنية، ففي الأشهر الست الأولى له فيها قدم العديد من المؤلفات، أشهرها كتابه الأخير عن الموسيقى “the Minqar-i Musiqar” الذي أورد به خلاصة تجاربه مع جده.
قادته الصدفة في حيدر أباد أن يقابل الزعيم الصوفي الشهير محمد أبو هاشمي المدني الملقب بـ”مولانا الهاشمي” وعلى يديه تلقى تعاليم الطرق الصوفية المختلفة، أبرزها الشستية والقادرية والنقشبندية، حيث كان مولانا باحثًا مخضرمًا في الأدبين العربي والفارسي وله باع طويل في دراسة الفرق الصوفية المختلفة، متأثرًا بجذوره العربية في المدينة المنورة.
تلقى الموسيقار الصوفي في منزل الهاشمي الكثير من علوم الميتافيزيقا والتصوف، إلى الحد الذي دفعه لأن يعلن مولانا مرشدًا له في طريقة البحث عن الفلسفة والتوحيد، وكان لهذه العلاقة تأثير كبير على الموسيقار الهندي في مسيرته بعد ذلك، وهو ما تجلى في كتاباته عن إشكالية العلاقة بين المريد ومرشده ودور ذلك في الحياة الروحية للفرد وغيرها من المسائل الصوفية الشائكة.
التوجه للغرب
لم يمكث عنايت كثيرًا مع مرشده الأول، إذ داهمه الموت عام 1908، وبعدها بعامين فقط، اضطر خان إلى السفر بعيدًا عن الهند، فرافق أخوته في رحلة طويلة لدول الغرب، وكانت فرنسا محطته الأولى التي مكث بها قرابة 8 سنوات من 1912 – 1920، انطلق من خلالها إلى بقية العواصم الأوروبية بعدما فرض حضوره الموسيقي المميز.
الموهبة المثقلة بالعلم والدراسة التي أثقل بها عنايت قدراته عززت مكانته في مسيرته بالغرب، فأقام الحفلات الموسيقية ذات الطابع الهندي، وبداخلها بدأ في نقل الطقوس الصوفية وتثقيف المريدين بتفاصيل حركاتها وكيفية أدائها، فتنقل من بريطانيا إلى سويسرا ومنها إلى الولايات المتحدة، ثم العودة إلى باريس مرة أخرى.
ومن قلب العاصمة الفرنسية كان انطلاق عنايت لتعليم الصوفية للغرب، فأنشأ الحركة الدولية الصوفية التي بات لها عدد من الأفرع الآن في بعض العواصم الغربية، تنقل علمه وتدرس تعاليمه، هذا بخلاف عشرات الندوات التي قام بها ولاقت جماهيرية كبيرة لدى الأوروبيين بوجه عام والفرنسيين بوجه خاص.
وخلال تلك المسيرة الحافلة أثرى عنايت المكتبة الفلسفية الصوفية بالعديد من الكتب على رأسها “the heart of Sufism”، و”the message of Sufism”، و”the mysticism of sound and music”، و”the inner life”، و”the way of illumination” وغيرها من الكتب المتعددة التي ما زالت تحقق رواجًا حتى الآن.
وكما نشأ عنايت لأب مهتم بالصوفية وجد عالم في الموسيقى، حرص الموسيقي الهندي على ترك ذرية مؤهلة لاستكمال مشواره الصوفي، فكان من بينهم ابنه الأكبر Pir Vilayat Inayat Khan المولود في 1916 ليقود الحركة الصوفية الدولية في الفترة من 1956 حتى وفاته عام 2004.
أما أشهر أبنائه فهي الأميرة نور التي أثير بشأنها الكثير من الجدل، إذ رفضت ممارسات النازية الألمانية فانضمت إثر هذا التوجه إلى المخابرات البريطانية لتعمل جاسوسة لديهم، غير أن نتيجة الوشاية من بعض زملائها قُبِض عليها ثم أُعدمت عام 1944، إلا أنه نتيجة لما فعلته تم تكريمها ببناء تمثال لها وسط حديقة “جولدن سكوير جاردنز” بلندن.
وبعد أن أكمل عنايت رحلته نحو تعليم الصوفية على ألحان الموسيقى في الغرب ارتأى لنفسه أن يعود إلى بلاده مرة أخرى، وبالفعل عاد إلى نيودلهي عام 1926، إلا أنه وبعد أقل من عام على عودته وافته المنية هناك، في الـ5 من فبراير 1927، ليذهب الرجل تاركًا خلفه إرثًا كبيرًا من الأعمال الفنية التي خلدت اسمه في الأوساط الصوفية والموسيقية في الشرق والغرب.