في ظل نظام اقتصادي عالمي جديد يرى السيادة الوطنية حجر عثرة أمام تقدم القانون التجاري الدولي ويدعو إلى التحول من المفهوم التقليدي إلى المفهوم المعاصر للسيادة الذي يتسم بالمرونة بما يكفي لاستيعاب المتغيرات، يُشدد البعض على أن الأوضاع الاقتصادية المتردية واللجوء إلى الممولين الأجانب، يدفع بالضرورة إلى الخضوع للإملاءات الخارجية وشروط الدول الداعمة، وعلى رأسها التحكم في المنوال التنموي والحرمان من تنويع الشركاء الاقتصاديين والمستثمرين أو البحث عن أسواق جديدة، وهو عين انتهاك سيادة القرار الوطني.
قضية السيادة في تونس، أُثيرت مجددًا على خلفية مشروعي قانونين يتعلقان بالتبادل التجاري والاستثمار المشترك بين تونس وكل من تركيا وقطر، ما تسبب في جدل سياسي كبير داخل البرلمان التونسي ولدى النخب السياسية في البلاد، فبينما رحب البعض بأهمية الاتفاقيتين في دعم الاقتصادي التونسي المتعثر، اعتبر آخرون أنهما ترسخان التبعية وتستهدفان السيادة الوطنية، ورافقت الاتفاقيات الكثير من التساؤلات عن جدواها للاقتصاد ومدى استفادة التونسيين منها.
ويتمثل مشروعا القانونين في اتفاقية أولى بين الحكومة التونسية وصندوق قطر للتنمية، تسمح بفتح مكتب للصندوق القطري في تونس، أما الاتفاقية الثانية مع تركيا فتتمثل في التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمار بين الجمهوريتين التونسية والتركية.
قراءة في الاتفاقيتين
في تصريح لـ”نون بوست”، قال الخبير الاقتصادي ووزير التجارة السابق محسن حسن: “بالنسبة لمشروع القانون المتعلق بتشجيع وحماية الاستثمارات بين تونس وتركيا، أود أن أشير إلى أنه تربط تونس وتركيا اتفاقية مماثلة تعود إلى سنة 1991 ويعتبر مشروع القانون المعروض محاولة لتطويرها بما يتماشى والقانون الدولي للاستثمار وكذلك قانون الاستثمار في تونس، لا بد من التذكير أيضًا بأن تونس وقعت ما يزيد على 50 اتفاقية ثنائية مشابهة لنفس الغرض، ولا علاقة لهذه الاتفاقية الثنائية باتفاقية التبادل التجاري الحر المبرمة بين البلدين التي دعوت إلى تطويرها ومراجعتها بما يمكن من الحد من العجز التجاري بين البلدين، وتعتبر هذه الاتفاقية أحد الحلول لدفع الاستثمار التركي في تونس والحد من تأثيرات ارتفاع العجز التجاري بين البلدين وتحويل تونس إلى منصة للصناعة التركية الموجه خاصة للدول الإفريقية”.
وأضاف: “لا تشمل هذه الاتفاقية العمليات التجارية وكذلك الاستثمارات والمساهمات التي تقل عن 10% من رأسمال الشركات، وبالتالي فهي تخص الاستثمارات في القطاعات المنتجة والمشغلة، ولا تمنح هذه الاتفاقية المستثمرين الأتراك امتيازات استثنائية، حيث إن قانون الاستثمار التونسي لا يسمح بالتمييز بين المستثمرين الأجانب والمحليين وكذلك بين المقيمين وغير المقيمين”.
وشدد وزير التجارة السابق على أن الاتفاقية “لا تمس السيادة الوطنية بأي حال من الأحوال ولا تعطي للمستثمرين الأتراك الحق في تملك العقارات إلا بما يسمح به القانون التونسي الحاليّ الذي يمنع تملك الأجانب للأراضي الفلاحية بصفة قطعية ويسمح بتملك عقارات في المناطق الصناعية ويخضع تملك بقية العقارات لترخيص الوالي”.
وفي حال نشوب نزاعات، أشار الخبير الاقتصادي إلى أن”الاتفاقية تنص على اللجوء للتحكيم التجاري ثم بعد ذلك القضاء وهذا التوجه معمول به في جل الاتفاقيات ذات البعد الاقتصادي والمالي الدولي وليس فيه أي مساس بالسيادة الوطنية أو استنقاص من دور القضاء التونسي. أعتقد أنه من الضروري التحلي بالمسؤولية والعمل على الاستفادة من هذه الاتفاقية لدفع الاستثمارات التركية في تونس بعيدًا عن كل توظيف سياسي وإيديولوجي”.
وفيما يخص الاتفاقية بين تونس وصندوق قطر للتنمية، قال الخبير الاقتصادي التونسي: “وجب الإشارة إلى أن جل مؤسسات التمويل والتعاون الدولي المنتصبة في تونس أمضت اتفاقيات مماثلة شكلًا ومضمونًا وحصلت على نفس الامتيازات المتعلقة بطرق التسيير والانتداب وتحويل المرابيح، ومن هذه المؤسسات الفاعلة أذكر وكالة التعاون الأمريكية وكذلك الوكالة الألمانية كما حصلت جل الشركات الخليجية كسما دبي وكذلك مشروع بوخاطر على نفس الامتيازات المذكورة في نص الاتفاقية. ينتظر أن يساهم الصندوق القطري في تمويل مؤسسات القرض الصغير والمؤسسات المالية بما يمكن من خلق فرص عمل وتوفير التمويلات الضرورية لدفع الاستثمار في المشاريع الصغرى خاصة”.
الوزير السابق قال في معرض حديثه لـ”نون بوست”: “درست بكل تدقيق مشروع هذه الاتفاقية ولم أجد ما يمس سلبًا من سيادتنا المالية أو الاقتصادية بل بالعكس، أعتقد، أن بلادنا في أمس الحاجة إلى وجود كل الصناديق السيادية الخليجية لدفع الاستثمار وتمويل الاقتصاد وتطوير التعاون العربي في هذا المجال. آن الأوان أن تتنازل الطبقة السياسية عن كبريائها وتقتنص كل الفرص المتاحة لتطوير التعاون الدولي والمساهمة في خلق النمو الاقتصادي الدامج بعيدًا عن الصراعات الوهمية”.
بدوره، أكد النائب عن التيار الديمقراطي محمد عمار في تدوينة على موقع فيسبوك أن حزبه ممثل في جميع اللجان البرلمانية، وعند دراسة الاتفاقيات داخل اللجان تغيب عنده العاطفة الجياشة ويتناول الاتفاقية المعروضة بكثير من البراغماتية السياسية وماذا ستضيف لتونس، مشيرًا إلى أن الاتفاقية مع قطر فيها منفعة للبلاد وللشعب وأن الامتيازات التي يحصل عليها مكتب الصندوق القطري في تونس هي امتيازات عادية ومثل بقية المنظمات عكس ما تروج له بعض الأحزاب الأخرى.
التنمية والإيديولوجيا
وفي الإطار ذاته، أكد الصحافي التونسي ورئيس تحرير صحيفة الرأي الجديد صالح عطية، في تصريح لـ”نون بوست” أن الضجة التي تدور ضد الاتفاقيتين القطرية والتركية ليست الأولى من نوعها وترتقي إلى العبث السياسي بمصالح الدولة الاقتصادية وعلاقاتها الخارجية في هذا الظرف بالذات، مشيرًا إلى أنه كلما يُطرح الموضوع القطري والتركي على الساحة يرافقه جدل ونقاش بيزنطي وغير موضوعي، ويرجع ذلك إلى وجود علاقة بين حركة النهضة وتركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان وباتت هذه العلاقة تُقلق الكثير من السياسيين في تونس الذين يعتبرون التقارب نوعًا من المساندة لهذا الحزب وتغليبه على باقي المكونات السياسية التي لم تقدر على بناء علاقات مع أنقرة.
وأوضح عطية أن العلاقات الدولية تُبنى على أساس الإيديولوجيا وهو الأمر الذي لم تفهمه بعض الأحزاب في تونس والنخب، متابعًا القول: “الذين يتحدثون عن المساس بالسيادة الوطنية من خلال هذه الاتفاقات هم في الحقيقة لم يفهموا معنى السيادة والمصالح الاقتصادية العليا للدولة وكيفية صياغتها وترتيبها مع الدول، فالسيادة الوطنية تُبنى وفق القانون الدولي والمصالح المشتركة بين طرفي أي اتفاق، وكذلك على أساس القضايا المشتركة والمواقف”، مشيرًا إلى أن بعض الأحزاب التونسية لم تستوعب إلى الآن أن تركيا أصبحت قوة اقتصادية صاعدة إقليميًا وفاعلة على مستوى التوازن الدولي وجزء من المعادلة الدولية.
وفي مسألة العلاقات الدولية والإيديولوجيا، أكد الصحافي التونسي أن الرؤية والتصور الفكري لهذه العلاقة عفا عليه الزمن ولم يتجدد وبقي مرهونًا بتشبيهه بالحرب الباردة والحرب الإيديولوجية بين الرأسمالية والاشتراكية، مضيفًا أن روسيا في قلب الرأسمال العالمي وفي قلب الليبرالية الدولية والصين أصبحت جزءًا في هذه المقاربة الدولية، والحرب الأمريكية الصينية على الأسواق والمصالح وليس على المقاربة الإيديولوجية، وهذا ما فات الأحزاب التونسية التي تعتمد التصور الصنمي لبنية العلاقات الدولية وما زالوا يعتبرون أن الإيديولوجيا هي تلك الأصنام التي يقرأونها في بعض الأدبيات الماركسية القديمة.
متابعًا: “أعتقد أن الفكر السياسي الكلاسيكي أو المحنط لبعض الأحزاب وعجزها عن تجديد خطابها وتعاطيها مع المتغيرات الدولية ساهم بشكل كبير في تعطيل عجلة التنمية في تونس، والنخبة التونسية عجزت أيضًا عن استثمار ما يجري الآن من أفق جديدة ولم تستوعب أن الإيديولوجيا مجرد أداة حزبية وسياسية لبناء الأفكار والمقاربات والمواقف وليس لتحنيط الأفكار”.
وشدد عطية على أن الاتفاقيات ستمر بسبب هبة بعض النخب السياسية التونسية من دوائر الحكم وخارجه من أجل التمييز بين الخلافات السياسية والحزبية بين حركة النهضة وباقي الأطياف السياسية، ومصالح الدولة التونسية التي تحتاج لمثل هذه الاتفاقات والاستثمارات لبناء اقتصاد جديد ومنوال تنموي قادر على تخطي الصعاب وإيجاد فرص عمل للتونسيين وتحويل الانتقال السياسي الذي حققته تونس بعد الثورة إلى انتقال اقتصادي وتنموي حقيقي.
الصراع الإيديولوجي ومعارك كسر العظام بين الأحزاب السياسية متعددة ومألوفة في العشرية الأخيرة في تونس، ويُمكن اعتبار رفض المصادقة على الاتفاقيتين يصب في لعبة الاصطفاف في المحاور الإقليمية دون مراعاة المصلحة الوطنية، أي أن بعض الوجوه السياسية لعبت منذ 2013 (تاريخ إسقاط الرئيس الراحل محمد مرسي عن حكم مرسي وبداية تشكل المحور الإماراتي السعودي المصري)، على تعطيل استثمارات تركية قطرية بحجة أخونة المجتمع والاقتصاد التونسي وأصبح أي تقارب بين تونس وهاتين الدولتين بمثابة فوبيا ساهمت في تعطيل عجلة التنمية وحالت دون تنويع الأسواق وانفتاح البلاد اقتصاديًا على عوالم أخرى كالصين والهند وروسيا وغيرها من القوى الصاعدة كبلدان إفريقيا.
اللي ضد الإستثمارات القطرية و خايفين على الإقتصاد التونسي من الإستعمار هوما بيدهم اللي يدافعو على الاستثمارات الاماراتية والسعودية والفرنسية في تونس و مبعد يجيو يحكيو على السيادة الوطنية و كذا.. نخب سياسية عفنة مجبولة على النفاق..اخر شيء يهمهم هو السيادة الوطنية و رب الكعبة.
— Ghazi mhimdi (@mhimdi_ghazi) April 29, 2020
المعارضون للاتفاقيات مع قطر وتركيا يتحججون في كثير من المناسبات باختلال الميزان التجاري لصالح أنقرة والحال أن التوزيع الجغرافي يُبين أن عجز الميزان التجاري الجملي لتونس في ديسمبر 2019، يأتى أساسًا من العجز المسجل مع الصين (5.822 مليون دينار) تليها الجزائر (3038 مليون دينار) ثم إيطاليا (667 2 مليون دينار) فتركيا بـ(2466 ملايين دينار).
اتفاقيات ومشاريع معطلة
رفض الاتفاقيات في البرلمان التونسي ليس بالأمر المستجد، فقد أسقط مجلس الشعب في وقت سابق مشروع قانون أساسي يتعلق بالاتفاق المؤسس لمنطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، بعد أن حصل على 106 أصوات من 127 نائبًا فقط حضروا الجلسة، من إجمالي عدد النواب البالغ 217 نائبًا، وكان المشروع بحاجة إلى 3 أصوات فقط ليدخل حيز التنفيذ.
مجلس الأعمال التونسي الإفريقي سارع على لسان نائب رئيسه أنيس الجزيري بالتنديد بإسقاط المشروع واعتبر غياب نواب الحزام السياسي بأنه يعطي صورة سيئة مفادها عدم المسؤولية وعدم الاهتمام بمصالح الدولة داخل البرلمان الذي يتم تمويله عبر ضرائب المواطنين، وأكد في تصريح أن هذا القانون وطني وخال من كل الحسابات الأيديولوجية والسياسية، وهو يعني مصلحة وطنية عامة ولا يفتح أي جدال ليبرالي أو اجتماعي أو يساري بين الأحزاب ليتم رفضه أو الاختلاف بشأنه، مستغربًا عدم التصويت عليه، مشيرًا إلى أن التجاذبات السياسية في تونس باتت تعرقل المشاريع الوطنية.
الاتفاق يهدف الى وضع إطار شامل ومتبادل المنفعة للعلاقات التجارية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي وتعزيز القدرة التنافسية للمؤسسات (تبعًا لتخفيف تكاليف المعاملات التجارية) والتقليص من الارتباط بصادرات السلع الأساسية وتعزيز التحول الاقتصادي والاجتماعي لتحقيق النمو الشامل والتصنيع والتنمية المستدامة تمشيًا مع “الأجندة 2063” للاتحاد الإفريقي.
وتعد منطقة التجارة الحرة الإفريقية الأكبر في العالم حيث تضم 1.2 مليار شخص بحجم مبادلات تتجاوز 3000 مليار دولار وستمكن من رفع نسبة المبادلات التجارية بين الدول الإفريقية من 16 إلى 33%.
من بين المشاريع الأخرى المعطلة، المشروع الصيني بالجنوب المتمثل في إنجاز الخط الحديدي الذي سيربط بين قابس ومدنين وجرجيس، وإنجاز قنطرة جربة التي ستربط بين الجيم والجرف، وإقامة المنطقة الصناعية في جرجيس، وكان النائب عن حركة الشعب في البرلمان سالم لبيض قد اتهم اللوبيات الجهوية والمسؤولين بتعطيل المشاريع الوطنية الكبرى، واعتبر أن غياب إرادة سياسية قوية وصادقة فوت على الجنوب التونسي إنجاز مشاريع مهمة، مؤكدًا أن الأمر بإنجاز سكة حديد تربط ميناء جرجيس بمدينة قابس وقعه الرئيس الحبيب بورقيبة منذ سنة 1983 لكن غياب المسؤولية السياسية والأخلاقية للأنظمة المتعاقبة والحكومات المتتالية حالت دون إيفاء الدولة بعهودها في إنجاز مشروع صناعي تنموي بهذا الحجم.
تمهيدًا للأليكا؟
كل السيناريوهات والفرضيات مطروحة في ظل المشهد الضبابي والشبهات التي تحوم حول تعاطي السياسيين والمشرعين التونسيين مع أهم قضية بعد الانتقال السياسي الذي نجحت فيه تونس نسبيًا عقب ثورة أسقطت نظام بن علي، فالحكومات المتعاقبة بعد 14 يناير عجزت على إرساء منوال تنموي قادر على تجاوز المطبات ومعالجة الأزمات المتمثلة في ارتفاع نسب البطالة والمديونية وعجز الميزان التجاري.
ويُمكن القول إن أدوات وآليات الاستعمار ما زالت تنخر الاقتصاد وتسيطر على الفعل السياسي والاجتماعي في تونس من خلال نخب متجاوبة مع مشروعه ومستعدة للتعاون مقابل تلبية تطلعاتها المتمثلة في العودة إلى الحكم، رغم أن الشريك التقليدي يُعاني من تقهقر ملحوظ على المستوى الاقتصادي ومكانته في خريطة الاستثمار العالمية وبالتالي فهو غير قادر على أن يكون قاطرة لتعزيز الاقتصاد المحلي التونسي.
وكان وزير التجارة السابق محسن حسن قد أكد في تصريحات صحفية سابقة أن “مرحلة اعتماد تونس والدول المغاربية على فرنسا والدول الأوروبية بنسبة تقارب 75% من علاقاتها الخارجية توريدًا وتصديرًا وسياحةً واستثمارًا ولت إلى غير رجعة”، ويبدو أنه السيناريو الذي تتخوف منه باريس في ظل تداعيات جائحة كورونا الاقتصادية، خاصة بعد انكماش اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 3.8% في الربع الأول من العام، وقد تضررت فرنسا وإيطاليا وإسبانيا بشكل خاص من جائحة كورونا، كما انخفض الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا بنسبة 5.8% وإسبانيا بنسبة 4.7%، ودخلت البلدان في حالة ركود، حسب التعريف الاقتصادي، بما أنه ثاني تقلص متتالي (الربع الأخير 2019) للناتج المحلي.
لذلك قد يدفعها الأمر إلى محاولة تثبيت نفوذها في المنطقة التي سيطرت عليها عبر الوصايا الاقتصادية والثقافية واستنزفت من خلالها الثروات الطبيعية بعقود وُصفت بالمذلة (اتفاقية الملح تونس)، من خلال اتفاقيات جديدة تخدم مصالحها وتمتص حالة الركود التي تعيشها على غرار اتفاقية الشراكة المعمقة الأليكا.
ورغم أن الاتحاد الأوروبي الشريك الأول لتونس منذ سنوات عديدة، حيث يستقبل نحو 74% من الصادرات التونسية وتونس تستورد تقريبًا 53% من حاجياتها من الاتحاد الأوروبي، فإن موازين القوى بين الطرفين تبدو غير متكافئة لعقد شراكات تبادل حر خاصة في الوقت الحاضر، لا سيما أن الاقتصاد التونسي ما زال في طور التشكل وإعادة الهيكلة، إضافة إلى عدم تقييم الحكومات المتعاقبة لاتفاق الشراكة الأولى لسنة 1995 الخاصة بالقطاع الصناعي قصد التأكد من الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية على تونس.
وبحسب تقرير سابق أعده “نون بوست” فإن مسودة اتفاقية الأليكا تتكون من 14 فصلًا وتدور مضامينها حول 5 محاور رئيسية في قطاعات أهمها الخدمات والفلاحة والطاقة والتنمية المستدامة، الهدف منها ضمان الاندماج التدريجي للاقتصاد التونسي في السوق الداخلية الأوروبية ومواءمة تشريعاتها مع تشريعات الاتحاد الأوروبي وتتبنى معاييره ضمن قواعد إجرائية موحدة تحت مسمى “التنسيق التنظيمي” الذي لا يستثني أي نشاط أو قطاع.
ويتخوف التونسيون من مخاطر الاتفاقية المتمثلة في:
- المنافسة غير المتكافئة للمنتجات الفلاحية ومشتقاتها.
- خطر الاستيلاء على الأراضي وتهميش صغار الفلاحين.
- فقدان السيادة الغذائية لتونس.
- زيادة الضغط على الموارد الطبيعية وتهديد التنوع البيولوجي.
- الامتثال للمعايير الأوروبية: معايير لا يمكن الوصول إليها.
- الصحة غير متاحة للجميع.
- خطر السيطرة على الصفقات العمومية.
- آلية التحكيم تسمح للشركات بمقاضاة الدول ولكن ليس العكس.
- التفاوض القسري واللامتكافئ.
فئة من التونسيين تعتبر أن إحجام النواب التونسيين عن المصادقة على بعض الاتفاقيات التي عُرضت عليهم يعود أساسًا إلى تحكم المستعمر الفرنسي في مفاصل الاقتصاد والإدارة وأن بعضهم يأتمر بأوامر باريس وهم وكلاء المشروع الاستعماري في البلاد.
بعض صفحات موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” ذهبت بعيدًا واتهمت فرنسا بممارسة ضغوطها من أجل إسقاط اتفاقية منح مقر لصندوق قطر للتنمية وذلك من أجل إبقاء تونس تحت سلطة باريس وصندوق النقد الدولي.
وكتب أحد النشطاء على موقع فيسبوك معلقًا على الحملة التي استهدفت مشاريع الاتفاقيات بالآتي: “عندما استوردت تونس الحافلات المستعملة من فرنسا لم يُعلق أحد، وحين ترسل تركيا شاحنات جديدة تُفتح الأفواه وتتعالى الأصوات”، مضيفًا “الاتحاد الأوروبي وفرنسا يعملان على توقيع اتفاقية الأليكا لتدمير المنتوج والصناعة التونسية ولا ينطق أحد وفي المقابل يتداعون في حال هناك اتفاقية مع تركيا وقطر”.
شراكة دون تنمية
يُشكك بعض الخبراء والمختصين التونسيين في قدرة الشراكة التونسية الأوروبية على رفع قاطرة التنمية، وذلك بسبب الإحصاءات المغلوطة والمزيفة عن حجم الصادرات التونسية والمغاربية نحو أوروبا، ويؤكد هؤلاء أن الأمر يتعلق بشركات مشتركة أوروبية – تونسية، أو تونسية – عربية، معظم رأسمالها أوروبي، وتستفيد من الإعفاءات الجبائية والجمركية التي تمنح للشركات المحلية، وتصدر بضاعتها، ثم تحتفظ بمرابيحها في البنوك الأوروبية، فيما يذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، باتهام الشركات التصديرية التونسية الأوروبية بتبييض أموالها في شمال إفريقيا، ثم تهريب مرابيحها بطرق قانونية، وبتزييف الإحصاءات الرسمية عبر الخلط بين صادرات المؤسسات الوطنية التي تعيد مرابيحها إلى البلاد والعمليات التجارية للمؤسسات الأجنبية التي يكون لديها شركاء محليون.
وفي هذا الإطار، أكد الخبير الجبائي التونسي لسعد الذوادي لـ”نون بوست” أن غياب الكفاءة والمسؤولية طيلة سنوات ما بعد ثورة يناير ساهم في تردي الاقتصاد وضعف الاستثمار، مشيرًا إلى أن هذه الحكومات لم تتعظ من توصيات البنك الدولي الواردة بتقريره المعنون “الثورة غير المكتملة” بخصوص انعدام مردودية الاستثمارات الأجنبية المبنية على رخص اليد العاملة والامتيازات (الشريك الأوروبي).
وأكد الخبير، أنه ثبت من خلال تقرير دائرة المحاسبات المتعلق بالتصرف في الامتيازات المالية من وكالة النهوض بالصناعة والتجديد أن نسبة الاستثمارات المنجزة لم تتجاوز 3% من الاستثمارات المصرح بها لدى وكالة النهوض بالصناعة والتجديد وهذا يستلزم فتح تحقيق بهذا الخصوص بالنظر لعشرات آلاف ملايين الدينارات التي نهبها أشباه المستثمرين على مر السنين، مشيرًا إلى أن القوانين الفاسدة التي تم سنها بتعلة تنمية الاستثمار وتطهير محيطه وتقديم فروض الطاعة للأوروبيين والجهات الأجنبية الأخرى التي صنفت تونس كوكر للتهرب الجبائي الدولي وتبييض الأموال، تدل على تخبط الماسكين بالسلطة وتندرج ضمن سياسة الهروب إلى الأمام وفقدان البلد لسيادته نتيجة إغراقه في المديونية وتخريب مؤسساته العمومية.
بالمجمل، فإن الوضع السياسي في تونس يبعث على القلق في ظل التجاذب السياسي وتناطح الأحزاب حد المجازفة باقتصاد البلاد من أجل تسجيل النقاط وضرب الخصوم، وهو أمر بات مكشوفًا للعيان خاصة أن التونسيين أدركوا جيدًا أن النواب تحت قبة البرلمان في كثير من المناسبات جمعتهم القروض التي أغرقت البلاد في المديونية وفرقتهم مشاريع الاستثمار وهي قاطرة التنمية، فهل تكون تداعيات كورونا الاجتماعية والاقتصادية نهاية طريق التصدع والانقسام وميلاد براغماتية واقعية نفعية تخدم المصلحة الوطنية وتُعليها؟