أثار مسلسل “أم هارون” الكويتي الذي يعرض على قناة “إم بي سي” السعودية موجة من الجدل بين فريقين: الأول يتهم العمل بالترويج للتطبيع مع “إسرائيل” من باب التعايش الإنساني، فيما اعتبره الفريق الآخر توثيقًا لمرحلة مهمة من تاريخ الأقليات في منطقة الخليج العربي.
ورغم أنه لم يكن العمل الوحيد الذي يروج للتطبيع، فإن إصرار القناة السعودية على بثه رغم كل تلك الانتقادات التي وجهت له وطالبت بوقف عرضه ودفاعها المستميت عنه، قصة وأداء ورسالة، أثار الكثير من التساؤلات عن الدوافع الحقيقية وراء تبني هذا الموقف.
وهنا معضلة يجب التوقف عندها قبل الولوج في هذه الجدلية التي خيمت على الشارع العربي منذ إعلان برومو المسلسل قبيل رمضان، وهي التي تتعلق بالصدق التاريخي لما تم تناوله في العمل، وبعيدًا عن الانقسام السياسي بشأن المسلسل المثير للجدل، دعونا نضع أنفسنا في ناحية الفريق المدافع عنه ونتساءل جميعًا: هل يوثق العمل فعلًا لمرحلة تاريخية محددة؟
انطلاقًا من رؤية المدافعين فإن التاريخ لا يمكن الافتئات عليه لاختلافات سياسية، فالأحداث موثقة وثابتة مهما كانت الرؤية السياسية لها، فالألمان رغم ما وصلوا إليه من تقدم لم ينكروا مذابح هتلر كونها تاريخًا لا يمكن تجاهله، وكبريات الإمبراطوريات الاستعمارية في العالم لم ينكروا الجرائم التي ارتكبوها حين يواجهون بها، إيمانًا منهم بأن التاريخ لا يتغير بالأهواء والميول السياسية.. فهل كان “أم هارون” أمينًا فعلًا في توثيقه للتاريخ؟
هذا ما يقوله المسلسل؟
بداية المسلسل إنتاج كويتي إماراتي سعودي مشترك، بين شركة شركة الفهد المملوكة للفنانة حياة الفهد وشركة جرناس المملوكة للإماراتي أحمد الجسمي وكلاهما منتج منفذ لصالح MBC، أما الإخراج فهو للمصري محمد العدل الذي أخرج مسلسل “حارة اليهود” الذي عُرض في رمضان 2015، كما جرى تصوير العمل بالكامل داخل الأراضي الإماراتية.
العمل يتناول بوجهة نظر اجتماعية، تاريخ الجالية اليهودية في منطقة الخليج، وذلك عن طريق سرد قصصي لحياة سيدة يهودية من أصول تركية تنقلت بين إيران والعراق قبل أن يستقر بها المطاف في البحرين لتعمل لسنوات طويلة في التمريض وتوليد النساء، لتواجه موجة من الاضطهاد بسبب يهوديتها، وهنا محور العمل.
المسلسل يداعب في المشاهد العربي معاني الإنسانية والقيم من خلال تأكيد رفض الاضطهاد بسبب الدين، أي كان هذا الدين، في محاولة لتعزيز معاني الاحتواء للآخر، وامتصاص تلك الفوراق المذهبية في نسيج مجتمعي واحد، تكون فيه الإنسانية معيار التقييم الأول.
العديد من النقاد دافعوا عن المسلسل، متبنين فكرة أنه توثيق لتاريخ أقلية دينية لا أكثر من ذلك
الغريب أن العمل ومع أول حلقة تم عرضها وقع في خطأ تاريخي لا يغتفر، أثار الشكوك بشأنه مرة أخرى، وذلك حين تحدث في أحد مقاطعه عن تأسيس دولة “إسرائيل” عقب إنهاء الانتداب البريطاني على “أرض إسرائيل” عوضًا عن فلسطين، وهو ما أثار حفيظة المغردين الذين اتهموا العمل بـ”تشويه الحقائق التاريخية”.
العديد من النقاد دافعوا عن المسلسل، متبنين فكرة أنه توثيق لتاريخ أقلية دينية لا أكثر من ذلك، وهو ما أشار إليه الناقد الفني عبد الستار ناجي الذي لفت إلى أن الضجة التي صاحبت العمل سببها وجود ما سماه “تابوهات”، لم يكن مسموحًا بالاقتراب منها في الخليج والمنطقة العربية عمومًا.
ومن بين تلك التابوهات (الممنوعات) حضور الإنسان اليهودي العربي، مؤكدًا في حديثه للجزيرة إلى أن “تلك الشريحة من حقها اجتماعيًا وسياسيًا أن تقدم كما كانت سواء في الكويت أم العراق أم اليمن أم غيرها من الدول، فمن المعروف أن من أسس الموسيقى في الكويت والعراق هما الأخوان صالح وداود الكويتيان، ولهما فضل كبير على الأغنية في البلدين خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي”.
وهذا ما يثبته التاريخ
تاريخيًا.. تمتع اليهود في منطقة الخليج العربي بمميزات لم يتمتعوا بها في أي بلد آخر، وهو ما تؤصله العديد من الدراسات التاريخية التي تطرقت إلى تأريخ وجودهم في تلك المنطقة، وعلى رأسها الدراسة المعنونة بـ”اليهود في الخليج” للباحث يوسف علي المطيري التي تكشف التاريخ المسكوت عنه والمتعلق بتاريخ الأقلية اليهودية في منطقة الخليج العربي في العصر الحديث.
وتناولت هذه الرسالة التي هي في الأصل دراسة أكاديمية حصل من خلالها الباحث على شهادة الماجستير من جامعة الكويت في العام2011 الفترة الزمنية بين القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، كونها الفترة الزمنية التي عادت فيها الأقلية اليهودية للاستقرار في منطقة الخليج العربي.
المطيري يوثق في دراسته أنه منذ القرن الثاني عشر وحتى السادس عشر لم يوجد مصدر تأريخي يشير إلى وجود الأقلية اليهودية في منطقة الخليج، غير أنه وفي القرن السادس عشر بدأت بعض الدراسات التي تؤرخ لتلك المرحلة، وعودة اليهود للمنطقة مرة أخرى، مرجعين ذلك إلى إنشاء الإمبراطورية الاستعمارية البرتغالية في العقد الأول من القرن السادس عشر، والسياسة التي انتهجها الشاة عباس الأول في فارس (1587- 1629).
العوامل الاقتصادية كانت أحد العوامل التي أعادت اليهود للخليج مرة أخرى، حيث حاولت البرتغال الوصول إلى الهند وإيجاد موضع قدم هناك، حيث قامت ببعض الاكتشافات من أجل هذا الغرض، من بينها اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح 1487 وانتهجت سياسة تشجيع التجارة مع الهند والمراكز التجارية الأخرى في الخليج العربي مما جذب العديد من التجار الذين قدموا من أوروبا وآسيا وكان من بينهم بالفعل تجار يهود.
استمر الوجود اليهودي في منطقة الخليج العربي طوال القرن الثامن عشر، في مسقط وصحار والبحرين والأحساء، وكانت الأعداد تزيد وتنقص بين الحين والآخر بسبب كثرة تنقلهم لأهداف تجارية بحتة، ثم توسع الأمر بعد ذلك بداية القرن التاسع عشر وصولًا إلى بدايات القرن العشرين.
كان من الصعب التفريق بين اليهود والعرب في الخليج لقوة الالتحام بينهما، هذا بخلاف أن بعض الدراسات كانت تشير إلى أن اليهود الموجودين في الخليج في هذه الفترة كانوا عبارة عن قبائل عربية تهودت أكثر منهم يهود مهاجرين، إضافة إلى تعميق أواصر العلاقات بين اليهود والقبائل العربية هناك عن طريق المصاهرة.
غالبية اليهود الذين جاءوا إلى الخليج العربي فروا من الاضطهاد السياسي وتدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية في البلدان التي كانوا بها
وتشير العديد من الدراسات التي استند إليها الباحث إلى أن المعاملة الجيدة التي كان يتعامل بها اليهود في المنطقة العربية أغرت الكثير من يهود أوروبا الذين كان يتعرضون لاضطهاد كبير في بلدانهم للهجرة إلى الخليج، كما اشتهروا بأنشطتهم الاقتصادية المميزة هناك، وحققوا من خلالها مكاسب ضخمة، كما احتكروا بعض الصناعات مثل صناعة وتجارة الذهب، بجانب الخمور التي استمرت رغم تحريم الإسلام لها ومحاربتها في العديد من البلدان الأخرى.
ولوحظ خلال القرن الثامن والتاسع عشر هجرة كبيرة ليهود الشرق إلى منطقة الخليج، وذلك لعدة أسباب أبرزها: تعرض الأقلية اليهودية في بعض الدول للاضطهاد ما دفعها إلى الانتقال للخليج حيث احترام العقائد والمعاملة الجيدة، هذا بجانب تدهور الأحوال الاقتصادية لليهود في بلاد فارس، بداية من القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى، إضافة إلى فرض الإسلام عليهم قسرًا، الأمر الذي دفع الكثير منهم إلى الهجرة للكويت والبحرين.
ومن العوامل التي ساعدت على هجرة يهود فارس وآسيا إلى الخليج، كثرة الكوارث الطبيعية التي تعرضت لها تلك البلدان الموجودين بها، فظهر الطاعون ببغداد في سبتمبر 1830 وأودى بحياة الألوف، ما دفع الكثير لمغادرة البلاد والترحال إلى بلاد أخرى لا يوجد بها هذا الوباء.
حتى بعد نجاح الإمبراطورية العثمانية في إعادة السيطرة على بعض مناطق الخليج، استقدمت بعض اليهود للعمل في بعض الدوائر الإدارية والمالية والعسكرية في مدن معينة كالأحساء مثلًا، حيث تولوا مناصب رفيعة منها أمين صندوق اللواء وأمين صندوق الدائرة السنية والتزام الاحتساب.
وخلصت الدراسة إلى أن غالبية اليهود الذين جاءوا إلى الخليج العربي فروا من الاضطهاد السياسي وتدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية في البلدان التي كانوا بها، بجانب الإفلات من الكوارث الطبيعية والبيئية التي تعرضوا لها، والبحث عن فرص عمل وحياة كريمة مقارنة بما كانت عليه الأوضاع في فارس والعراق وغيرها من البلدان التي كانت تضم جالية يهودية كبيرة.
وهكذا احتضن العرب في تلك الفترة اليهود بصورة لم يشهدها بلد آخر، وتمتع اليهود في احتواء الخليجيين لهم بمميزات طالما افتقدوها في الكثير من البلدان التي قدموا منها، ولولا تلك المعاملة الجيدة التي تعززت إلى مصاهرة وعلاقات عائلية لما مكث اليهود في الخليج كل هذه العقود، فليس من المنطقي أن يقبعوا في مكان يعانون فيه من الاضطهاد قرابة ما يزيد على مئتي عام، وإلا كانت الهجرة خيارهم كما فعلوا قبل ذلك حين هربوا من أوطانهم.
إذًا.. ما الهدف؟
“أم هارون” ليس العمل الوحيد الذي يداعب أوتار التطبيع من باب التعايش والمصالح المشتركة، فهناك مسلسل “مخرج7” الذي يعرض على نفس القناة السعودية التي تبث العمل الكويتي، ففي أحد الحوارات التي دارت بين الممثلين السعوديين ناصر القصبي وراشد الشمراني، روجا بشكل واضح إلى التطبيع الاقتصادي.
تزييف التاريخ وتشويه الحقائق الثابتة عبر أدوات القوى الناعمة ومن بينها الدراما التليفزيونية والأنشطة الثقافية ستكون الوسيلة الأقوى والأكثر حضورًا في مخطط ابن سلمان
الشمراني في حوار مباشر ودون مواربة قال إنه ينوي توسيع نشاطه التجاري مع بعض التجار الإسرائيليين، ليجيبه القصبي مستفسرًا عن ذلك كون الإسرائيليون أعداءً، ليأتيه الرد الصادم للجميع: “العدو الحقيقي هو اللي يسبك وينكر تضحياتك ووقفتك معه ويسبك ليل نهار أكثر من الإسرائيليين”، وأضاف “قصدي دخلنا حروب علشان فلسطين، قطعنا النفط علشان فلسطين، ويوم صارت سلطة ندفع رواتب نحن أحق بها، وهم ما يصدقون فرصة هالكبر يهاجمون السعودية”.
الخيط الرفيع الذي يجمع بين “أم هارون” و”مخرج 7″ أن كلاهما يتبنى نفس الخطاب السياسي والإعلامي الذي يروج له ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عبر لجان الذباب الإلكترونية التي يديرها صديقه وذراعه اليمنى داخل الديوان الملكي سعود القحطاني، المتهم بالاشتراك في اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده في إسطنبول قبل عام ونصف.
منذ تولي ابن سلمان ولاية العهد في السعودية وتحول التطبيع مع دولة الاحتلال من السر إلى العلن، مستندًا في ذلك إلى خطط إعلامية وسياسية مدروسة وممنهجة، حيث قطعت الرياض شوطًا كبيرًا في اتجاه تهيئة المناخ العربي لتقبل التعايش مع العدو الإسرائيلي عبر العديد من الأوتار التي أجادوا العزف عليها طيلة السنوات الماضية.
وبصرف النظر عن دوافع ولي العهد لتعزيز خطوات التطبيع مع الكيان الصهيوني سواء لمواجهة النفوذ الإيراني كما يروج له، أو لتقوية خريطة تحالفاته بما يساعده على خلافة والده من باب اليقين بأن تل أبيب البوابة الأسهل للحصول على الدعم الأمريكي لتحقيق حلم الأمير الشاب، فإن الأمور يبدو أنها خرجت عن الحدود التقليدية المتعارف عليها في مسارات التطبيع السابقة.
وعليه يبدو أن تزييف التاريخ وتشويه الحقائق الثابتة عبر أدوات القوى الناعمة ومن بينها الدراما التليفزيونية والأنشطة الثقافية ستكون الوسيلة الأقوى والأكثر حضورًا في مخطط ابن سلمان لتقوية شوكته داخليًا وخارجيًا، مرتكزًا في ذلك على المبدأ المكيافيلي “الغاية تبرر الوسيلة”.