عاودت نغمة التطبيع حضورها مرة أخرى لكن عبر بوابة الدراما العربية التي تحولت من كونها منصة لخلق رأي عام داعم للقضية الفلسطينية وثوابتها من خلال عشرات الأعمال، إلى ثغرة كبيرة في جدار وعي الشارع العربي حاليًّا ومسرح لتجميل وجه الإسرائيليين.
ورغم التطبيع السياسي في العلاقات بين تل أبيب وبعض الدول العربية التي وقعت اتفاقيات سلام، كمصر والأردن، فإن الشارع العربي كان دومًا عصيًا على المخططات الإسرائيلية للتوغل من خلاله، إذ ظل على مدار العقود الماضية الضمير الحي للأمة الذي يصلح اعوجاج الأنظمة ويضغط عليها بين الحين والآخر للعودة إلى المرتكزات القومية وعلى رأسها القضية الأم.
الحكومة الإسرائيلية وعلى لسان رئيسها بنيامين نتنياهو اعترفت أكثر من مرة أن أخطر ما تواجهه خطط السلام العربية الإسرائيلية هو وعي الشعوب العربية، ومن ثم لا بد من استهدافه عبر تدميره والتسلل إليه من خلال القوى الناعمة للأنظمة الحليفة التي تهرول بين الحين والآخر للتقرب من دولة الاحتلال.
وفي كلمته بمناسبة الذكرى الأربعين لزيارة أنور السادات للقدس المحتل، قال نتنياهو أمام الكنيست في 2017: “العقبة الكبرى أمام توسيع السلام لا تعود إلى قادة الدول حولنا، إنما إلى الرأي العام السائد في الشارع العربي، الذي تعرّض سنوات طويلة لغسل دماغ تمثّل في عرض صورة خاطئة ومنحازة عن دولة إسرائيل”، مضيفًا: “حتى بعد مرور عشرات السنوات، وعلى غرار الطبقات الجيولوجية، يصعب جدًا التحرّر من تلك الصورة، وعرض إسرائيل على حقيقتها وبوجهها الجميل والحقيقي”.
ويبدو أن الوجه الجميل الذي يسعى نتنياهو لتصديره للشارع العربي يسير في الاتجاه الصحيح وذلك عبر إحداث خلخلة للرأي العام عبر الدراما، وهو ما ألمح إليه ضمنيًا حين قال: “إننا نشاهد بعض التغيرات التي تطرأ على الرأي العام في الشرق الأوسط، وأعتقد بأن ذلك أمرًا يجب دعمه ومواصلته على الأرض، ففي نهاية المطاف إنه الأمر الذي سينعكس على الداخل”.
المعضلة هنا أن الخلخلة التي يتمناها الإسرائيليون للمزاج العربي فيما يتعلق بالموقف من دولتهم ومسألة وجودهم، تحولت من مسار قبول الآخر الإسرائيلي عبر إستراتيجيات التعايش بين مختلف الأديان والمذاهب في ضوء المستجدات العصرية، إلى شيطنة أصحاب القضية أنفسهم، الفلسطينيين، لتعبيد الطريق تمامًا نحو تجميل صورة “إسرائيل” لدى الوعي العربي، ويمثل هذا التحول نقطة مفصلية في مستقبل قضية الصراع العربي الإسرائيلي، ليبقى السؤال: هل تنجح محاولات الشيطنة تلك؟ وهل ينخدع الشارع الخليجي على وجه الخصوص بالرسائل السياسية المجتمعية التي تبثها قنواته الداعمة للتطبيع قلبًا وقالبًا؟
تحول عربي
في 28 من أبريل الماضي نشرت صحيفة “الغارديان” البريطانية تقريرًا أشارت فيه إلى التحول الواضح في المؤشر العربي حيال مسألة التطبيع، وذلك تعليقًا منها على مسلسلي “أم هارون” الكويتي و”مخرج 7 ” السعودي، الذي تتبناهما عرضًا وتمويلًا قناة “إم بي سي” السعودية.
التقرير لفت إلى حالة الجدل التي أثارها العملان، لافتة إلى أنه مجرد عرض المسلسلين على القناة السعودية، لا يدع مجالًا للشك أنها حصلت على موافقة من قادة البلد، وهو الرأي الذي تعزز برفض القناة وقف بث العملين رغم الانتقادات التي وجهت لها والاتهامات التي كيلت للسلطات السعودية بشأنها.
وذهبت الصحيفة البريطانية إلى أن النظم السياسية في منطقة الشرق الأوسط وظفوا الجاذبية والشعبية التي تتمتع بها مسلسلات رمضان لتحقيق أهداف أخرى، محولين إياها إلى أحد أدوات القوة الناعمة التي يلجأ إليها القادة والحكام لتشكيل رأي عام يتناغم والأجندة السياسية للدول.
واستشهدت الصحيفة بالتوجه السعودي والإماراتي والمصري على وجه الخصوص في هذا الشأن، شمل ذلك استغلال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مسلسلات رمضان هذا العام للعزف على بعض المواد الدرامية التي تركزعلى تمجيد الجيش، وتشويه جماعة الإخوان المسلمين التي حظرها بعد توليه السلطة.
المتابع للخريطة الدرامية العربية خلال السنوات الأخيرة يجد أنها تعاملت مع اليهود عامة والإسرائيليين على وجه الخصوص بشيء من الدفء، فيما ندرت الأعمال التي تتناول القضية الفلسطينية كقضية العرب الأولى وأن “إسرائيل” العدو الأبرز عربيًا، هذا بخلاف مسلسل “النهاية” الذي يعرض حاليًّا ويتحدث عن زوال دولة الاحتلال قبل مئة عام من ولادتها، وهو الأمر الذي أزعج الخارجية الإسرائيلية التي أصدرت بيانًا أدانت فيه المسلسل والرسالة التي يقدمها للجمهور العربي.
في 2015 عرض التليفزيون المصري مسلسلًا كاملًا عن اليهود في مصر، تحت عنوان “حارة اليهود” وفي العام التالي احتفت الإمارات بأول دراما سياسية لها، وذلك حين أنتجت أعمالًا تشن هجومًا على جماعة الإخوان المسلمين وتعتبرها الخطر الأكبر في المنطقة دون الإشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي.
وتعتبر الغارديان أن تطابق المواقف بشأن إيران وجماعة الإخوان كان وراء عملية التحول في المؤشر العربي، الأمر الذي أدى إلى ذوبان الجليد لدى دول الخليج، بحيث أصبح بإمكان الإسرائيليين دخول الإمارات علنًا، لافتة إلى أن المواقف التي اتخذها الممثلون في مسلسلي “أم هارون” و”مخرج7″ تتوافق مع المواقف الحكومية السعودية التي تشير للتقارب بين الرياض وتل أبيب بطريقة لم تحدث منذ قيام “إسرائيل” عام 1948.
أكبر عقبة أمام توسيع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا بل هي الرأي العام في الشارع العربي الذي تعرض على مدار سنوات طويلة لدعاية عرضت إسرائيل بشكل خاطئ ومنحاز.
— بنيامين نتنياهو (@Israelipm_ar) November 21, 2017
شيطنة الفلسطينيين
اللافت في متابعة الحلقات الأولى للمسلسلين يجد أن هناك توجهًا عامًا لتبرئة الاحتلال وإلقاء الكرة بأكملها في ملعب الفلسطينيين الذين يتعرضوا لحملة شيطنة لم يشهدوها منذ سنوات طويلة، تجاوز حاجز الذباب الإلكتروني إلى الدراما الرسمية المعتمدة من سلطات الدولة، ويعود ذلك لعدد من المستجدات الإقليمية والدولية كان لها دور كبير في إعادة تشكيل خريطة التحالفات والتوجهات لدى كثير من الدول.
فحالة التوحش التي تنتهجها بعض الدول العربية ضد شعوبها بعد تعثر قطار الربيع العربي وانحسار دور الشعوب في الفعل السياسي الجماهيري جراء الأجواء السياسية والأمنية المتردية التي تخيم على المنطقة، كل هذا أسس لتوجه جديد يسعى للترويج للعداء لكل ما هو فلسطيني في الدراما، ساعد على ذلك وجود شخصية مثل دونالد ترامب على رأس القيادة الأمريكية، الذي جعل الأنظمة الديكتاتورية العربية تبحث عن إرضائه عبر بوابة مغازلة تل أبيب.
لم يسلم الفلسطينيون من الهجوم المتكرر من لجان الذباب الإلكتروني السعودي، غير أن الأمر تجاوز العالم الافتراضي إلى الأعمال الفنية التي تعرض على الشاشات التليفزيونية المملوك جزء كبير منها للعائلة السعودية الحاكمة، وهو كما ذكرت الغارديان لا يمكن أن يتم دون موافقة القيادة السياسية بالمملكة.
مسلسل “مخرج 7” الذي يعرض على قناة “إم بي سي” قدم في 23 ثانية فقط رسالة واضحة مفادها أن الفلسطينيين يستحقون أكثر من ذلك، وأنهم سبب الأزمة الحاليّة، مقارنة بالإسرائيليين الذين يجب أن تُعزز العلاقات الاقتصادية معهم، فهم ليسوا بالخطر المصدر عنهم.
وفي إحدى الحلقات قال الممثل السعودي راشد الشمراني إنه ينوي توسيع نشاطه التجاري مع بعض التجار الإسرائيليين، ليرد عليه زميله في العمل، ناصر القصبي بأن هذا لا يصح كون الإسرائيليون أعداءً، ليرد عليه الشمراني بقوله: “العدو الحقيقي هو اللي يسبك وينكر تضحياتك ووقفتك معه ويسبك ليل نهار أكثر من الإسرائيليين”، مضيفًا “قصدي دخلنا حروب علشان فلسطين، قطعنا النفط علشان فلسطين، ويوم صارت سلطة ندفع رواتب نحن أحق بها، وهم ما يصدقون فرصة هالكبر يهاجمون السعودية”.
من كان يصدق أن يظهر هذا الكلام على قناة (سعودية) ؟؟ حتى نتنياهو لم يكن يحلم بذلك !
لكن نقول لكم يا متصهينين: نحن #سعوديون_ضد_التطبيع وأن #التطبيع_خيانة.. كان وسيبقى كذلك pic.twitter.com/s7JB0YxNAQ
— سعوديون ضد التطبيع (@Saudis2018) April 28, 2020
هل ينجح هذا المخطط؟
محاولة تمرير فكرة أن إيران العدو الأوحد للمنطقة وليس الاحتلال، فكرة لن تدوم طويلًا، كونها تحمل معاول الهدم بداخلها، أبرزها أن الاحتلال لم يكن موجهًا ضد الفلسطينيين وحدهم، فهو يستهدف المنطقة العربية بأسرها ومن ثم حصره في القضية الفلسطينية وحدها قصر نظر، هذا بجانب أن وجود إيران كخصم لا يعني تجاوز العدو الإستراتيجي للعرب جميعًا وهي دولة الاحتلال.. وهنا يبقى السؤال: هل ينجح المخطط الخليجي الدرامي والإلكتروني في شيطنة الفلسطينيين لدى الشارع الخليجي؟
الباحث في شؤون الشرق الأوسط، الكاتب فراس أبو هلال، يرى أن الدراما الخليجية لا تعبر بالفعل عن المزاج الشعبي لدول مجلس التعاون، معتبرًا أن حالة القمع الكبيرة التي تمارسها الأنظمة الحاكمة ضد شعوبها هي السببب وراء حالة الصمت حيال ما يتم عرضه على شاشات التلفاز.
أبو هلال في مقال له في “عربي 21” يرد على اعتقاد البعض بأن غياب الرد الشعبي الخليجي بشأن تلك النوعية من المسلسلات يعكس حالة الرضا الجماهيري، بأنه لا يوجد آلية أو وسيلة لقياس هذا المزاج ومستواه، في ظل عدم وجود انتخابات حرة أو استفتاءات، وافتقاد المناخ العام لحريات الرأي والتعبير.
وأوضح أن رغم غياب أدوات التعبير عن المزاج الشعبي الخليجي، فإن هناك العديد من المؤشرات التي تؤكد رفض الشارع الخليجي للتطبيع وشيطنة الفلسطينيين، منها أن تلك الشعوب كانت في مقدمة شعوب المنطقة في إعلان تأييدها للقضية والشعب الفلسطيني، لكن هذا حينما كانت السياسة الرسمية في الدول الخليجية وخصوصًا الإمارات والسعودية والبحرين تسمح بالتعبير عن رأيها بحرية.
ففي هذا المرحلة كانت المدن الخليجية تعج بالمظاهرات المنددة بسياسات الاحتلال وتدعم المقاومة الفلسطينية، هذا بخلاف مبادرات الدعم والعطاء التي قدمتها تلك الدول لدعم القضية طيلة العقود الماضية، لكن تبدل الوضع مؤخرًا في ظل التغير الذي طرأ على التوجهات الخارجية لتلك الدول، وفي ظل حالة القمع الممارسة من المستحيل خروج أي صوت يغرد بعيدًا عن الصوت الرسمي.
وخلص الباحث في شؤون الشرق الأوسط إلى أن كل تلك الشواهد كفيلة أن تؤكد رفض الشعوب الخليجية للرواية التي يراد ترويجها عبر الدراما المسيسة بشأن تجميل صورة الاحتلال والتعبيد لقبوله من باب التعايش، في مواجهة شيطنة الفلسطينيين وتحميلهم مسؤولية ما يحدث.