للمرة الثانية في أقل من شهر، تضطر السلطات الجزائرية إلى تعديل خططها المالية وخفض ميزانية الإنفاق، الأمر الذي لم تشهده البلاد من قبل. هذا القرار يؤكد صعوبة الوضع الاقتصادي الذي يعرفه هذا البلد العربي الغني بالنفط والغاز، في ظل تراجع مواردها المالية المتأتية أساسًا من النفط.
التخفيض الثاني
قرار الخفض الثاني لميزانية الإنفاق، أقرته الحكومة الجزائرية أمس الأحد في ختام اجتماعها، وجاء في بلاغ للمجلس عقب انتهاء اجتماعه، “تقرر رفع تخفيض ميزانية التسيير من 30% إلى 50%، ويشمل التخفيض نفقات الدولة والمؤسسات التابعة لها”.
وكانت الحكومة الجزائرية قد أعلنت في شهر مارس/آذار الماضي خفض ميزانية نفقاتها بنسبة 30% لمواجهة تداعيات أزمة انخفاض أسعار النفط الخام في السوق الدولية، الناتجة عن حرب الأسعار التي جدت بين السعودية وروسيا.
وجد الاقتصاد الجزائري نفسه في وقت وجيز أمام صدمة مزدوجة لم تحسب لها الحكومة أي حساب
على غرار القرار الأول، جاء هذا الخفض أيضًا نتيجة الأزمة المالية الشديدة التي تهدد اقتصاد البلاد بسبب تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية في الفترة الأخيرة، وتداعيات انتشار وباء فيروس كورونا الذي يهدد مستقبل العالم.
وسبق أن أعلنت الجزائر الشروع في إعداد قانون موزانة تكميلي، يتضمن إجراءات لمعالجة الآثار المالية الناجمة عن الأزمة النفطية الحاليَة، وعادة ما تلجأ الجزائر عند الحاجة إلى قانون “الموازنة التكميلي” لإقرار مخصصات مالية جديدة أو تغيير تقديرات الإيرادات أو لإيجاد أخرى والترخيص بنفقات جديدة.
كما أذنت الرئاسة قبل شهر من الآن، بتسريع مسار إنشاء بنوك إسلامية (الصيرفة الإسلامية)، وضمان تسيير ذكي للواردات دون حرمان المواطنين والاقتصاد من أي منتج، وزيادة الإنتاج الفلاحي بهدف تقليص مواد الاستهلاك الإنساني والحيواني، لا سيما الذرة واللحوم الحمراء إلى النصف على الأقل، وذلك لمواجهة الصدمة النفطية التي تعرفها بلاده.
كورونا يرهق الاقتصاد
هذه القرارات المتتالية تؤكد صعوبة الوضع الاقتصادي في الجزائر الناتج عن تراجع أسعار النفط وتداعيات كورونا، حيث وجد الاقتصاد الجزائري نفسه في وقت وجيز أمام صدمة مزدوجة لم تحسب لها الحكومة أي حساب.
وباء كورونا لوحده، سيكلف ميزانية الدولة أموالًا طائلة وفق كبار المسؤولين في الحكومة الجزائرية، حيث أعلن وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة الجزائرية، عمار بلحيمر، أمس الأحد، أن الحكومة تتوقع خسارة أكثر من 7 مليارات دولار من العملات الأجنبية، بسبب فيروس كورونا، بحلول نهاية السنة الحاليّة.
فرض انتشار كورونا على الجزائر اتخاذ إجراءات وقائية استثنائية تسببت في غلق الشركات والمصانع والمحلات والمراكز التجارية والمقاهي والمطاعم وتسريح العمال، ما أدى إلى تنامي احتياجات المواطنين من المواد الغذائية الأساسية والمستلزمات الطبية وضرورة إصلاح المستشفيات الجزائرية غير المستعدة لمواجهة الفيروس.
وتخشى العديد من الشركات والمصانع الجزائرية تواصل مدة الغلق في البلاد، ما من شأنه المساهمة في إفلاسها بسبب نفاد مخزون المواد الخام المستوردة من الصين والدول الأوروبية جراء تعليق الرحلات التجارية بين الجزائر وتلك الدول.
أسعار النفط تثقل كاهل الدولة
أزمة اقتصاد الجزائر نتجت أيضًا عن تراجع أسعار النفط، ففي الوقت الذي كانت فيه الحكومة الجزائرية تنتظر عجزًا قياسيًا في الميزانية بنحو 20% خلال العام الحاليّ، عرفت أسعار النفط انهيارًا بلغ مستويات تاريخية.
وتراجعت أسعار النفط الخام في بداية التعاملات الأسبوعية، إلى 25.67 دولار للبرميل، مدفوعة بعودة التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين واستمرار تخمة المعروض في السوق العالمية، رغم بدء تنفيذ اتفاق لخفض إنتاج النفط بمقدار 9.7 مليون برميل يوميًا، من جانب تحالف (أوبك+)، ويستمر شهرين.
واعتمدت الجزائر في موازنتها للسنة الحاليّة 60 دولارًا كسعر مرجعي للبرميل، ومن ثم توقع قانون المالية لسنة 2020 نموًا بنحو 1.8%، لكن مع أسعار منهارة بهذه الطريقة، أصبح التوازن المالي في البلاد في خطر كبير.
وفق المعطيات الحاليّة، خسرت الجزائر ما مجموعه 150 مليار دولار في ظرف 6 سنوات
من المتوقع أن تستمر مشاكل الجزائر حتى مع خفض الإنتاج، فهي مطالبة بتخفيض إنتاجها اليومي من النفط بين 25% إلى 28%، أي أن المداخيل ستتراجع بناء على تراجع الكمية المصدرة، في ظل عدم تفاعل البورصات العالمية مع قرارات “أوبك+”، واستمرار تخبط الأسعار.
وتعتمد الجزائر في مداخيلها من العملة الصعبة، على صادراتها من البترول والغاز، بنسبة 98%، كما أن مداخيل البلاد الجبائية تعتمد أيضًا على 50% من الجباية البترولية، وتُدفع 70% من الرواتب على أساس هذه المداخيل.
ما يزيد من متاعب الجزائر أن زبونيها الرئيسيين (إسبانيا وإيطاليا)، هما الأكثر تضررًا حاليًّا من أزمة وباء كورونا، ما يثير مخاوف من إمكانية تراجع الطلب أو تعطل الدفع في هذين البلدين، علمًا بأن البلاد ترتبط بأنبوبي غاز نحو إسبانيا، وبآخر باتجاه إيطاليا.
تراجع إيرادات الدولة
نتيجة هذا الانهيار، ستتراجع إيرادات الدولة، وتوقعت الحكومة في قانون المالية التكميلي لـ2020، انخفاض مداخيل قطاع المحروقات إلى 20.6 مليارات دولار، مقابل 37.4 مليارات دولار كانت متوقعة في قانون المالية الأولي لـ2020، ومن الممكن أن تنخفض الإيرادات أكثر.
إلى جانب ذلك، كشف وزير الاتصال والناطق الرسمي للحكومة الجزائرية، عمار بلحيمر، أن احتياطيات الصرف الأجنبي للبلاد ستهبط، وفقًا لتقديرات قانون المالية التكميلي لعام 2020، من 51.6 مليار دولار، كما هو محدد في قانون المالية الحاليّ إلى 44.2 مليار دولار بنهاية هذا عام.
وعرفت احتياطات صرف في الجزائر في السنوات الأخيرة تراجعًا كبيرًا، ففي أبريل/نيسان 2019 بلغ 72.6 مليار دولار، مقابل 79.88 مليار دولار في نهاية سنة 2018، أي بانخفاض قدره 7.28 مليارات دولار في أربعة أشهر، أما في سنة 2018، فقد تقلصت الاحتياطات بـ17.45 مليار دولار مقارنة بنهاية 2017، عندما استقر الاحتياطي عند 97.33 مليار دولار.
التقلبات التي عرفتها أسواق النفط منذ صيف 2014، أدت إلى تآكل صندوق ضبط الموارد تدريجيًا في الجزائر حتى تم استهلاك كل الأموال الموجودة فيه، قبل أن تشرع السلطات في اللجوء إلى احتياطي النقد الأجنبي الذي تآكل بدوره.
وبلغت الاحتياطات الجزائرية من النقد الأجنبي ذروتها عام 2014 حين تخطت 194 مليار دولار، لتبدأ رحلة التهاوي تزامنًا مع الأزمة النفطية التي بدأت منتصف العام ذاته، ووفق المعطيات الحاليّة، خسرت الجزائر ما مجموعه 150 مليار دولار في ظرف 6 سنوات.
هذا الوضع الاقتصادي من شأنه أن ينعكس سلبًا على الوضع الاجتماعي في الدولة العضو بمنظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، في ظل عدم وجود بدائل للنفط في الوقت الحاليّ ووقف عمليات التمويل غير التقليدية وحظر السلطات الالتجاء إلى الاستدانة الخارجية.