هذه الورقة قراءة في احتمالات الفعل السياسي الواجبة والممكنة والضرورية في تونس في مرحلة ما بعد وباء كورونا على مكونات المشهد السياسي عامة والحزب الإسلامي خاصة، وهي المرحلة التي نراها تبدأ خلال هذا الصيف، فنرى أنه من الضروري إعادة ترتيب المشهد على أساس الأوزان السياسية الحقيقية في الشارع التي تم التغاضي عنها من أجل توليف الحكومة القائمة، ونرى في خضم ذلك أن على حزب النهضة بالتحديد مسؤوليات سياسية كبيرة إن لم يمتلك الشجاعة للتصدي لها في هذه المرحلة بالذات فإنه سيلحق ضررًا كبيرًا بالبلد والثورة ومصيرها وبنفسه، إذ يصير أثرًا بعد عين.
مسؤوليات الحزب التي نراها في هذه المرحلة مبنية قانونيًا على نتائج انتخابات 2019 ومبنية سياسيًا على الحاجة إلى قيادة سياسية غائبة عن المشهد، إذ ظهر الرئيس حتى الآن شخصًا بلا مشروع سياسي محفز لمشروع وطني جامع، وظهرت الأحزاب الصغيرة في الواقع (الكبيرة فقط في بلاتوهات قناة الحوار) غير قادرة على التقدم في أي مشروع إلا إعاقة حزب النهضة عن الفعل.
البلد بلا قيادة
لم يتسن لأي طرف سياسي نال حظوة في انتخابات 2019 أن يتقدم للحكم دون حزب النهضة، صحيح أيضًا أن حزب النهضة لم يقدر على الحكم وحده فتبين للتونسيين أنه لا يمكن إدارة البلد إلا بشراكات سياسية، فكانت حكومة الفخفاخ، وقد تفاءل الكثيرون بتوليفتها وعزم على إسنادها من خارجها على أمل إخراج البلد من ورطتين كبيرتين: ورطة الفساد الاقتصادي الذي قامت ضده الثورة ولا يزال مؤثرًا في حياة البلد وورطة الصراع الأيديولوجي المتخلف الذي عطل كل فكر وكل ثقافة وكل سياسة في تونس منذ نصف قرن.
حكومة الفخفاخ التي منحها الوباء فرصة بقاء وتعاطف شعبي تبدو الآن غير منسجمة وتبدو مكوناتها السياسية متنافرة لا يجمعها جامع ولا غرض مما تتحد حوله الحكومات، ونرى مؤشرات كثيرة على أن السيد الفخفاخ يمارس الابتزاز السياسي لحزب النهضة بطريقة الباجي قائد السبسي وحكوماته، فهو ينظر إليه على أنه في وضعية اضطرار لشركائه، لذلك يمكن فرض كل الشروط وأخذ كل المكاسب والتعامل معه بصفته كيانًا عاجزًا أو في أفضل الحالات حزب لتكملة نقص لا لتأسيس أصل.
هذا التعامل الفوقي يتجلى أيضًا في سلوك بقية المكونات المشاركة في الحكومة وخاصة حزبي التيار وحركة الشعب، فهما بحسب ما تشف عنه سلوكيات سياسية كثيرة يتصرفان كمتفضلين على حزب النهضة بالوجود، فهو لا يقوم إلا بهما وبالتالي عليه ترك مقعده لهما في الجلسة، وكان هذا جليًا في إفشال حكومة السيد الجملي وهو يوجه سلوك الحزبين في حكومة الفخفاخ وغير بعيد منهما حزب تحيا تونس (يوسف الشاهد).
يغيب عن شركاء حزب النهضة أنهم غير قادرين دونه، فوضعية الأضعف الذي يفرض شروطه بضعفه ليست وضعية قانونية ولا سياسية ولا أخلاقية، إنها وضعية ابتزاز سياسي تكشف انحطاطًا أخلاقيًا، ونراها تنتهي حتمًا بإفراغ كل عمل سياسي من مضمونه الديمقراطي وتقطع أمل الناس في الصندوق الانتخابي، حيث يصير الأضعف في الصندوق هو الأقوى في الحكم.
وضعية الابتزاز السياسي تكشف أن ليس لمكونات الحكومة مشروع مشترك يؤلف بينهم بما يجعلهم حكومة بلا أفق تقف دومًا على أبواب الانفجار الداخلي، وقد لا يكون من أسباب بقائها إلا رغبة الوزراء في تحصيل رواتبهم بقطع النظر عن كل نجاح منتظر، إننا في حالة بلد بلا قيادة لأن نخبة البلد السياسية ليس لها مشروع.
هل يمكن لحزب النهضة أن يتصدى للقيادة؟
نرى لحظة المسؤولية التاريخية التي تقع على كاهل الحزب، فهو الأقدر وهو الأكثر تنظيمًا وهو المعني قبل غيره بالخروج من ورطة الاستبداد والفساد التي هددت وجوده دومًا ولا تزال مسلطة عليه، لكننا نرى أيضًا أن في الحزب من يستطيب البقاء في وضع المراقب أو المتخفي خلف الآخرين ليتفصى من المسؤولية بل يذهب إلى حد تخويف نفسه لكي لا يتحرك.
من الواضح أن الحزب يفرط في تقدير قوة خصومه ويؤجل الحسم في اتجاه فعل سياسي جذري شجاع وفي مستوى متطلبات المرحلة
يروج منذ بدء مشاركة حزب النهضة في إدارة البلد بعد انتخابات 2011 أن حزب النهضة متحالف مع الفساد ويغطي على الفاسدين ويحصل منهم مكاسب مالية وسياسية، لكن منذ عشر سنوات لم يتقدم أحد ممن يروج هذا (وخاصة قيادة حزب التيار متمثلة في الزوجين عبو) للقضاء بملف متماسك ينتهي بإدانة قيادي أو كادر متوسط في الحزب. هذه الدعاية الكاذبة هي من جنس اتهام الحزب بالإرهاب وتصنيعه واستعماله. كلام كثير دون أي ملف للقضاء ينتهي بإدانة صريحة لأي فرد من الحزب، لكن في الحزب جهات أو شقوق تستعمل هذه الدعاية لتخويف نفسها من كل حركة ويبدو أنها الشق الأقوى في إدارة الحزب وتمنع بقية مكوناته من الحركة وإلزامها بصمت خائف.
هذا التخويف أربك الحزب وجرّأ عليه كل متقوّل بلا حجة، حتى صار من المسلمات أن حزب النهضة راعي الفساد، وهو الآن في وضع دفاع عن سمعته السياسية عوض أن يكون في قيادة المرحلة بقوة يملك أسبابها (قوته الذاتية من ناحية وحاجة البلد إلى قيادة قوية من ناحية ثانية لم يتصد لها أحد من خصومه).
في وضعيات كثيرة يخيل للمتابع أن الحزب يشارك من موقع متسول الفضل من غير أهله وهو مقطوع اللسان كأنه بهلول الحي الذي يعابثه الأطفال ويحولونه ملهاة، ومن الواضح أن الحزب يفرط في تقدير قوة خصومه ويؤجل الحسم في اتجاه فعل سياسي جذري شجاع وفي مستوى متطلبات المرحلة.
النهضة حزب يمسك الساحة السياسية أن تنهار ويفرط في التهوين من قوته وموقعه بالإفراط في تخيل أحجام خرافية لخصومه وشركائه، وهم غثاء في الشارع وفي الصندوق الانتخابي وفي حوز ثقة الجهات الدولية التي تراهن على الاستقرار والتقدم ضمن الديمقراطية.
الحقيقة التي يعرفها الجميع ويتظاهر بنكرانها أن حكومة السيد الفخفاخ قائمة بحزب النهضة ولن تتماسك دونها ولو اعتمدت بقية المكونات البرلمانية مجتمعة، وهذه المكونات غير المتجانسة تعرف أنها لن تلتقي في حكومة والفخفاخ يعرف أنه لن يحكم بها ويعرف أنه إذا واصل ابتزاز حزب النهضة ليوسع صلاحيات بقية الشركاء دون وزن سياسي مقابل فلن يزيده ذلك إلا هوانًا على بقية المبتزين لأنهم يدفعونه إلى ذلك ليقطعوا بينه وبين سند حكومته الحقيقي والثابت في لعبة استنزاف متقنة يبدو أنه يستلذها دون وعي بأبعادها التي منها الذهاب إلى الصندوق قبل أوانه.
نقدر من خارج الحزب ودون معلومات استخبارية أن حزب النهضة يملك ورقات تفاوض قوية لا يملكها خصومه/شركاؤه وهو في وضع فرض الشروط لا تلقي الشروط والخضوع لها، لذلك نراه ملزمًا أخلاقيًا وسياسيًا في هذه الظرفية بالذات بقراءة ثانية محينة لخريطة القوى السياسية وتقدير أوزانها الفعلية على الأرض والتصرف على أساس من قوته الحقيقية أي أن عليه إذا أراد خيرًا بالبلد أولًا وبنفسه ثانيًا أن يخرج من وضعية شاهد الزور وأن يدفع بتعديل القانون الانتخابي إلى مقدمة أعمال البرلمان، ثم يضع الانتخابات السابقة لأوانها فوق طاولة رئيس الحكومة، ويجبر البقية على معرفة حدود قوتها وأدوارها، فالساحة تحتاج حكمًا وقائدًا.