انحرفت قضية التطرف في الهند ضد المسلمين بشدة، فلم يعد الأمر يتوقف على الإسلاموفوبيا ولا جراح انشطار باكستان كما يروج في وسائل الإعلام، ولكن القضية منذ عام 2014 تأخذ بعدًا آخر بعدما أصبح تعصب وتطرف الهندوس ضد المسلمين له ما يشبه النشيد الوطني، وهي “موسيقى البوب هندوتفا” التي رغم خطورتها وشعبيتها المتزايدة باعتبارها أحدث طرق الدعايا السوداء ضد الوجود الإسلامي على الأراضى الهندية، لم يتم تكثيف تناولها إعلاميًا في البلدان الإسلامية لتشكيل رأي عام ضاغط على الحكومات، بشكل يتناسب مع انعكاسات هذه التصرفات على أرض الواقع، وهو ما نسلط عليه الضوء في هذا التقرير.
القوميون الهندوس.. خبراء إشعال الحرائق
القوميون الهندوس، خبراء كبار في كيفية إثارة وإشعال الصراعات الفكرية والدينية، وتدعم خبرتهم محاور أيديولوجية “الهندوتفا” التي عرفها العالم من عشرينيات القرن الماضي، وهي أفكار وقناعات تعبر بشكل واضح عن عقدة النقص المتعمقة في المجتمع الهندي، من الأقليات التي كانوا وما زالوا يخشون منها على هوية البلاد وخاصة المسلمين.
وتدعو أفكار الهندوتفا التي ينتمي إليها حزب بهاراتيا جاناتا بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي الذي تولى السلطة للمرة الثانية في انتخابات مايو 2019، إلى تحويل الهند لدولة هندوسية، ولن يحدث ذلك إلا إذا سيطر الهندوس وهيمنوا على الهند، حتى لو تعارض ذلك مع القيم الديمقراطية للبلاد.
والقومية الهندية منذ ظهورها، هي السبب الأول لأعمال الشغب والصراع بين الهنديين، بسبب ترويج الاستقطاب على أسس طائفية، بما يناهض مبادئ العلمانية الهندية أو حتى فكر المهاتيما غاندي الذي كان يرفض فصل الدين عن السياسة، ولكنه في الوقت نفسه كان يشدد على أهمية صيانة التعددية الدينية والأقليات ومنهم الطائفة المسلمة التى وصل أعداد أفرادها الآن إلى نحو 150 مليونًا، منهم ما لا يقل عن 30 مليون شيعي.
يسعى التطرف الهندوسي بكل الطرق إلى تحويل الهند لدولة عرقية دينية، يحصل فيها المواطن الهندوسى على كامل حقوقه، في الوقت الذي يعتبر الإثنيات الأخرى – خاصة المسلمين – مواطنين من الدرجة الثانية، ويتخذ الهندوس من “إسرائيل” مثلًا أعلى لهم، فهي تضع الأقليات في مرتبة ثانية وتحافظ في هويتها على نظام فصل عنصري، يجعلها دولة ذات مستويات للمواطنة بغرض الحفاظ على طابعها اليهودي، وجيشها القوي ونفوذها العالمي يجعلها تفرض منطقها على العالم، وهي وصفة أصبحت مصدر إلهام للقوميين المتطرفين حول العالم، بما فى ذلك الهند.
موسيقى البوب هندوتفا.. تغذية التطرف بالفن
“كل بيت سيكون زعفران”.. تصيح المغنية لاكسمي دوبي التي توهب حياتها لصيانة القومية الهندوسية، وتدعم حزب بهاراتيا جاناتا باستخدام موسيقى البوب هندوتفا، ولهذا تزين خلفيات أغانيها دائمًا بألوان تمثل الهندوسية وتصيح بمنتهى القوة: علينا أن نجعل الإرهابيين يهربون من أرضنا المباركة”.
تعتبر دوبي واحدة من أشهر نجوم الهند الذين يدافعون بقوة عن استمرار صعود موسيقى البوب هندوتفا، وخاصة بعدما التف حولها الهندوس، بعض النظر عما أحدثته من جدل في الأوساط العالمية خلال السنوات القليلة الماضية بسبب تسويقها للتطرف، وتبلغ من العمر 30 عامًا وتؤمن بالتفوق الهندوسي، وتقول إن مشاعر الغضب ضد المسلمين تكاثرت عندها بسبب معايشتها لتصرفات الجماعات الدينية المتطرفة التي خربت كثيرًا في الهند وارتكبت مجازر ضد الهندوس، وكان ذلك بداية تشكيل اعتقادها أن المسلمين يخططون للسيطرة على الهند.
انخرطت لاكسمي في حملات تناهض زواج المسلمين من الهنديات الهندوسيات، فهي من وجهة نظرها حيلة لتحويل أكبر عدد ممكن من الهندوس للإسلام، لا سيما أن منطق الزواج ليس متبادلًا، ولا تقدم المسلمات في المقابل على الزواج من غير مسلم بسبب أحكام الشريعة الإسلامية التي ترفض زواج المسلمة من غير مسلم، وهي ثغرة تنفذ منها الدعاية الهندوسية لإثبات سوء نية المسلمين وعقائدهم.
وجدت لاكسمي شعبية كبرى بعد أن وصل رئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى السلطة عام 2014، وأصبحت المغنية الشابة المقصد الأول لمسؤولي حزب بهاراتيا جاناتا، خلال حملات الترويج المكثفة لـ”الهندوتفا”، التي أخذت طابعًا وجوديًا ومسألة حياة أو موت للأمة الهندوسية خلال السنوات القليلة الماضية في شعارات الحزب الحاكم.
رواج موسيقى التطرف في الهند
البحث عن سر رواج موسيقى البوب هندوتفا، يقف على خلفية تفكيك مصطلح الـ”هندوتفا” الذي يعني الثقافة الهندوسية المتدينة وأسلوب الحياة المتكامل وفقًا لها، والموسيقى هنا نفسها تحمل اسم إحدى القصص الدينية الهندوسية التقليدية التي تدعو في بعض الحالات علنًا إلى ذبح غير المؤمنين، كما تدعو إلى عمل تحول قسري لغير المؤمنين بها، بجانب استمرار الهجمات على باكستان.
تجذب هذه الموسيقى ملايين المشاهدات على مواقع التواصل المختلفة وأصبحت تضم قاعدة جماهيرية متزايدة بين الشباب، بما يجعلها موسيقى العصر التي تناسب مود تطرف متزايد يهاجم رياح البلاد، ويجعل الحياة فيها خطيرة على أي شخص لا يظهر حماسة شديدة للهندوسية، خاصة بعد تزايد خلخة النظام العلماني وامتداد رقعة التطرف لتشمل مؤسسات الحكم والسيادة بما فيها القضاء الذي أصبح يرجح كفة الهندوس على غيرهم من الأقليات في قضايا الصراع المشترك أو الصدامات التي تحدث بينهم وبين أطراف وعرقيات مختلفة.
وتنظم هذه المهرجانات الهندوسية حاليًّا بشكل مكثف في الأحياء الإسلامية، من أجل الدعاية للقومية الهندوسية وإعادة هندسة الافكار والمعتقدات، لا سيما أن بعض كلمات الأغاني تحمل دلالات عربية، وأصبح تنظيم هذه الفعاليات مثل الصرخة التي يزعق بها القوميون الهندوس، لإرسال رسائلهم إلى المسلمين، ولا تنتهى في الكثير من الأحيان في إطارها الطبيعي، إذا ما ثارت مشاعر الغوغاء على أنغام الموسيقى ضد من يرفض ترديد الأغاني معهم.
أصبحت الكراهية المرتبطة بتسويق الإيمان الهندوسي منهج هذه الموسيقى، وخاصة إذا نظمت في “كشمير” المنطقة ذات الأغلبية المسلمة المتنازع عليها مع باكستان، وجردتها حكومة مودي من مكاسب الحكم الذاتي في أغسطس الماضي، ولهذا لا يبدو غريبًا أن ملايين المسلمين الهنود يشعرون الآن عند سماع البوب هندوتفا بكل أنواع التهديدات الشخصية المحتملة.
ويظهر المطربون الهندوس أحيانًا على المسلمين، في ملابس عسكرية، وأشهر من يقوم بهذه الطريقة سانجاي فايزبادي وهو فنان بوب شهير ويحرص على تضمين خلفيات أغانيه بلقطات للقوات الهندية والطائرات ومجموعة من الأسود ليؤكد للمسلمين أن قضية كشمير مسألة مصيرية بالنسبة للهندوس ولن يفرطوا فيها.
تقول إحدى كلمات أغاني فايزبادي: “سوف آتي إلى باكستان وألعب الرخام بعينيك”، ورغم ذلك لا يعترف المطرب المتطرف أن كلماته يمكن أن تعطي الانطباع بدعمه للعنف، لكنه يصر أنه لا يحرض على المسلمين في العموم، ولكن فقط ضد الجماعات والتيارت التي تدعم الإرهاب على حد قوله.
أغاني الدم والرصاص، هي عنوان واضح للمرحلة التي اعتلت فيها حكومة حزب بهاراتيا جاناتا كرسي الحكم منذ عام 2014، ومن وقتها والسلطة تتفنن في جلب كل ما هو تمييزي وعنصري وضخه في أوردة الرأي العام، لدرجة أنها استدعت أحد قوانين الحقبة الاستعمارية للسيطرة على التجمعات العامة وإغلاق الإنترنت وفرض مزيد من القيود على وسائل النقل العام لمنع الاحتجاجات السلمية على القوانين التي يتم إقرارها.
أصبحت الشرطة تتصرف بشكل حزبي وتتوسع في اعتقال من ينتقدون الحكومة، وفعلت من أجل ذلك قوانين الفتنة بشكل صارم، ونكلت بالنشطاء والمتظاهرين واحتجزت الأطفال، وتشارك بشكل منظم في نهب الأحياء المسلمة ومحلاتها التجارية والمساكن، ما بث الخوف والفزع في المجتمع، ورغم ذلك يجادل مودي ويؤكد أن هذه السياسات ليست تمييزية.
يرفض رئيس الوزراء كبح جماح أعضاء حزبه ومؤيديه الذين يشوهون المسلمين الهنود على أمل تعرض الملايين منهم للحرمان من الحقوق، وخاصة بعد تعديلات قانون الجنسية التي أقرها البرلمان في ديسمبر 2019 وتنتهك القانون الدولي لحقوق الإنسان، وتنظم محاكم تفتيش لأصول المسلمين الهنود، على أمل إيجاد ثغرة تعتبرهم “متسللين” إلى البلاد ومن ثم تجريدهم من هويتهم.
في المقابل لم يعد أمام المسلمين بالهند إلا الاحتجاج بأشكال سلمية مختلفة وقراءة الدستور بصوت عالٍ وتذكير الهندوس بالتزامات العلمانية والمساواة والكف عن التحريض ضدهم واتهامهم بالعمالة لباكستان!