ترجمة وتحرير: نون بوست
تمثل المدن بؤر انتشار هذا الوباء (كوفيد-19)، كما كانت بؤرا لانتشار العديد من الأوبئة في الماضي. وقد نشأ الفيروس في مدينة مزدحمة في وسط الصين، وانتشر بين المدن وحصد أكبر عدد من الأرواح في المدن. أصبحت نيويورك أكثر بؤر انتشار الفيروس تأثرًا في العالم.
لا يزال معظمنا ممن احتموا في المنازل، والذين نادرًا ما غامروا وخرجوا للشوارع الفارغة، في حيرة من أمرهم حول شكل الحياة الحضرية بعد هذه الفترة. هل ستنجو المطاعم وستعود الوظائف لحالها؟ هل سيتنقل الناس بواسطة مترو الأنفاق المكتظ؟ هل نحتاج حتى إلى المباني المكتبية طالما يستخدم الجميع خدمة زوم لاتصالات الفيديو؟ فكر في الأمر، تبدو فكرة العيش في مزرعة فكرة رائعة فجأة.
في الواقع، تزدهر المدن بفرص العمل والتسلية، وتعتمد على التنوع اللامتناهي للسلع والخدمات المتاحة. إذا أصبح الخوف من المرض الوضع الطبيعي الجديد، فقد تستعد المدن لمستقبل معقم بلا طعم، وربما مستقبل بائس. ولكن إذا وجدت مدن العالم طرقًا للتكيف، كما فعلت دائمًا في الماضي، فقد ينتظرها أعظم عصر يمكن أن تعيشه. لمساعدتنا على فهم الحياة في المدن بعد الوباء، سألت مجلة “فورين بوليسي” 11 مفكراً بارزاً من جميع أنحاء العالم عن توقعاتهم.
من المتوقع أن تنجو المدن من فيروس كورونا
بقلم ريتشارد فلوريدا
ستنجو المدن الكبرى من فيروس كورونا. لطالما مثلت المدن بؤرة الأمراض المعدية منذ عهد جلجامش، لكنها عادت إلى وضعها الطبيعي دائمًا – غالبًا ما أصبحت أقوى من ذي قبل. لقد فتك الموت الأسود بالمدن في أوروبا خلال العصور الوسطى، وفي آسيا حتى بداية القرن العشرين. كما قتلت الإنفلونزا الإسبانية سنة 1918 ما يصل إلى 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، ومع ذلك ازدهرت نيويورك ولندن وباريس في أعقابها.
في الواقع، يبين لنا التاريخ أن الناس غالبًا ما انتقلوا إلى المدن بعد الأوبئة بحثا عن فرص العمل الأفضل والأجور الأعلى التي وفرتها هذه المدن بعد الانخفاض الحاد في عدد السكان. لذلك، سيعاد تشكيل بعض الجوانب في حياة المدن والمناطق الحضرية، اعتمادًا على المدة التي سيستمر فيها انتشار الوباء الحالي. قد ينتقل بعض الناس إلى الضواحي والأرياف خوفا من الاكتظاظ ومن مترو الأنفاق والقطارات على وجه الخصوص، ورغبة منهم في العيش ضمن محيط أكثر أمانًا وخصوصية.
قد يستفيد الفنانون والموسيقيون من انخفاض قيمة الإيجارات، وذلك بسبب التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الفيروس
يمكن للأسر التي تعول الأطفال وكبار السن على وجه الخصوص أن تستبدل شققها في المدينة بمنزل يحتوي على فناء خلفي. لكن ستدفع أسباب أخرى الناس للعودة للمراكز الحضرية الكبرى مرة أخرى، وسيستمر الشباب الطموح في التدفق إلى المدن بحثًا عن الفرص الشخصية والمهنية.
من جهة أخرى، قد يستفيد الفنانون والموسيقيون من انخفاض قيمة الإيجارات، وذلك بسبب التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الفيروس. من الممكن أن توفر هذه الأزمة منفذا صغيرا يُمَكن مدننا المتطورة بشدة والتي لا يمكن تحمل تكاليفها من إعادة ضبط وإعادة تنشيط مشاهدها الإبداعية. دائمًا ما تظهر تنبؤات حول هلاك المدن في أعقاب صدمات كهذه. لكن لطالما تغلب التحضر على الأمراض المعدية.
النظر إلى ما وراء نهاية عصر الوظائف في المناطق الحضرية
بقلم إدوارد جلايسر
قبل تفشي وباء فيروس كورونا، كنت أثق في قدرة رواد الأعمال في المناطق الحضرية على خلق وظائف في قطاع الخدمات كافية للتغلب على الرؤى البائسة للاقتصاد الآلي. لطالما مثلت القدرة على توفير المتعة من خلال تقديم قهوة لاتيه بابتسامة ملاذًا آمنًا حيث يمكن للعاطلين عن العمل العثور على وظيفة. ولكن إذا أصبحت الأوبئة أمرا نعيش به يوميا، ستتسبب التفاعلات البشرية في خلق الخوف أكثر من الفرح، وستختفي هذه الوظائف.
كانت المدن الغربية صحية لمدة قرن. لقد نسينا أن الأمراض المعدية شكلت ثروات المدن منذ أن تسبب طاعون أثينا في قتل بريكليس. والواقع أن ذلك القرن الآمن شهد انتقال الوظائف من المزارع إلى المصانع إلى قطاع الخدمات الذي يوظف الآن 80 بالمئة من الطاقة العاملة الأمريكية.
في الولايات المتحدة وحدها، يوفر مجال البيع بالتجزئة والترفيه والضيافة 32 مليون موطن شغل. تعد هذه الوظائف من أكثر الوظائف المهددة من قبل الوباء. وقد أظهر أحد الاستطلاعات الأخيرة أن 70 بالمئة من المطاعم الصغرى تتوقع أن تُغلق بصفة دائمة إذا استمرت أزمة كوفيد-19 لمدة أربعة أشهر أو أكثر. إذا أصبحت الأوبئة هي الوضع الطبيعي الجديد، فسوف تختفي عشرات الملايين من وظائف الخدمة الحضرية. مع ذلك، تتمثل الفرصة الوحيدة لمنع انهيار سوق العمل هذا في استثمار مليارات الدولارات بذكاء لتأسيس بنية تحتية صحية مضادة للوباء، بحيث يمكن أن يظل هذا التفشي الرهيب عبارة عن حالة استثنائية تحدث لمرة واحدة.
فرصة لإعادة الإعمار بشكل أفضل
بقلم روبرت موغا
لقد غيرت جائحة فيروس كورونا الحياة في المدينة، وحمّلت المستشفيات أكثر من طاقتها، وهدمت التجارة، وحدت من إمكانية الوصول إلى الأماكن العامة، وأجهدت البنية التحتية الرقمية مما كثف من تحديات الصحة العقلية وأجبر الناس على البقاء في منازلهم. في حال عدم وجود لقاح، يمكن أن تصبح العديد من هذه الاضطرابات دائمة.
كانت المدن تواجه بالفعل نقصًا مزمنًا في الإيرادات، وعجزًا في الميزانية قبل تفشي الوباء. تتمثل الأولوية الآن في إنقاذ الأرواح، وتقديم الخدمات الأساسية والحفاظ على القانون والنظام. إن هذا الأمر مهم بشكل خاص في مدن العالم النامي والمناطق العشوائية، حيث يزيد ارتفاع أسعار المواد الغذائية من خطر الجوع والاضطرابات الاجتماعية.
يحاول رؤساء البلديات في المدن بالفعل إعادة النظر في الخطط الحضرية لمنع الموجة التالية من الوباء. على المدى القصير، ستقدم الكثير من المدن اختبارًا شاملا وأساليب تعقب رقمي للاتصال الجسدي، وستعدّل المباني والأماكن العامة لتتناسب مع مبادئ التباعد الاجتماعي، وستعزز الأنظمة الصحية للتعامل مع التهديدات المستقبلية.
يكشف الوباء النقاب عن نوعية الحوكمة وحجم التفاوتات في مدننا العالمية، بالإضافة إلى أنه يوفر فرصة للمخططين ورواد الأعمال الحضريين لإعادة بناء المدن
لقد سرّع الوباء من النزعات طويلة الأجل والعميقة التي تؤثر على المدن، مثل رقمنة البيع بالتجزئة والانتقال إلى الاقتصاد غير النقدي، والتحول إلى العمل عن بعد وتقديم الخدمات الافتراضية، وزيادة عدد طرق المشاة. سيكافح النقل العام لنقل الركاب دون إجراء تعديلات تحترم إبقاء مسافات بين الركاب، وقد تصبح السيارات ذاتية القيادة ومخططات التنقل الصغيرة ضرورية بشكل متزايد.
يكشف الوباء النقاب عن نوعية الحوكمة وحجم التفاوتات في مدننا العالمية، بالإضافة إلى أنه يوفر فرصة للمخططين ورواد الأعمال الحضريين لإعادة بناء المدن بشكل أفضل. في الحقيقة، إن بعضهم بصدد استكشاف طرق لتحديث سياسات تقسيم المناطق والتوريد، قصد الترويج لتوزيع ذكي للكثافة السكانية ووضع الاستثمارات التي تراعي البيئة بشكل أفضل. تمثل المدن وحدات اختبار مثالية للابتكارات الجديدة، حيث أن أول المبادرين، مثل أمستردام، وبرستل الواقعة في إنجلترا، وملبورن في أستراليا، بصدد تطوير خطط تعطي الأولوية للاقتصاد الدائري والمرونة المناخية والرفض القاطع لعدم المساواة.
التوق إلى السعادة البسيطة التي تقدمها حياة المدينة
بقلم توماس ج. كامبانيلا
على مر التاريخ، عانت المدن من أوبئة مدمرة، ولكنها ازدهرت لتنمو بشكل أكبر وأكثر كثافة. سيكون تراجع نوعية الحياة الحضرية بعد القضاء على فيروس كوفيد-19 مؤقتا في أفضل الأحوال، حتى في الولايات المتحدة التي تتميز بتقاليدها العريقة الرافضة للتحضر.
غالبا ما كانت المدن تُعتبر فاسدة وغير أخلاقية مقارنة بالريف، وهي اعتقادات أدت في النهاية إلى إنشاء الضواحي. وحتى فيلادلفيا، وهي أول مدينة كبيرة وقع تصميمها في الولايات المتحدة، تمكنت من السيطرة على المخاطر الناجمة عن الكثافة السكانية للعالم القديم، وذلك بفضل تقسيمات الأراضي الكبيرة بشكل غير عادي. نجا مؤسس المدينة، وليام بن، من الطاعون ومن حريق لندن الكبير في ستينيات القرن السادس عشر، ولم يرغب في أن تواجه مدينته نفس المصير.
إن الوباء الحالي هو فقط أحدث حدث تاريخي دفع النقاد إلى التنبؤ بهلاك المدينة. خلال عصر الذرّة، أصبحت المدن فجأة حلم الجميع، الأمر الذي أجج حركة اللامركزية الحضرية خلال الحرب الباردة. بالنسبة للمستقبليين، مثل مارشال ماكلوهان وجورج غيلدر ألفن توفلر، كانت الاتصالات الرقمية هي التي ستهلك المدينة وتمهد الطريق إلى العودة إلى الحياة الريفية من خلال ما أطلقوا عليه اسم “العمال المجردين الراقين للغاية”، وهي التركيبة السكانية التي توافدت على سان فرانسيسكو ونيويورك ولندن. كما دفعت هجمات 11 أيلول/ سبتمبر إلى الإعلان عن هلاك ناطحة السحاب ومانهاتن السفلى، على الرغم من أنهما لا يظهران أي علامات على الاندثار.
كيف ستبدو مدننا بعد فيروس كوفيد 19؟ ستختفي العديد من الحانات والمطاعم والمقاهي المفضلة لدينا، ولكن سيحل مكانها محلات أخرى. قد يتجنب كبار السن والأشخاص الذين يعانون من نقص المناعة المساحات الحضرية لبعض الوقت، مما يؤدي إلى إنشاء مجموعة سكانية أصغر سنا وذوي لياقة بدنية جيدة وأكثر تحملا للمخاطر. كما أن الخوف من العدوى الذي سيلازمنا سيتم تجاوزه بتأثير الحجر، حيث سيطالب الناس بإنهاء الإغلاق التام، ذلك أنهم يتوقون إلى الشعور بتلك البهجة البسيطة المتمثلة في تواجدهم بجانب أشخاص آخرين في أحد شوارع المدينة المزدحمة دون الشعور بالخوف.
سوف تتقن المدن آليات الوقاية من الأمراض والاستجابة لها
بقلم ريبيكا كاتز
توافد الشباب في جميع أنحاء العالم إلى البيئات الحضرية بحثا عن العمل والتعليم، وعن فرص للتفاعل مع أشخاص آخرين من سنهم، وعن تجارب جديدة في الثقافة والفنون. ومع استمرار انتقال فيروس كورونا، وبالنظر إلى وعينا بمخاطر الأمراض المعدية، أصبحت الكثافة السكانية فجأة أقل جاذبية.
نتوقع أن يتقن قادة البلديات تحضير خطط الاستعداد والاستجابة للأمراض
أصبحت الشقق المشتركة، التي تعد نقطة انطلاق منخفضة التكلفة للوافدين الجدد المتحمسين من أجل تجربة العيش في المدن الواسعة، مكانا يسبب الاختناق خلال فترة الحجر الصحي. في الوقت نفسه، رأينا الأغنياء الحضريين، الذين كانوا يتنقلون من مدينة إلى أخرى، يهربون إلى منازلهم الصيفية. قد يعيد العديد منهم ترتيب خياراته بشكل دائم.
الآن، بعد أن أنشأ الكثير منا روتينات جديدة، خاصة منها العمل عن بُعد وعقد المؤتمرات العديدة عبر تطبيق زوم، قد نبدأ في رؤية نزوح جماعي من المدينة إلى الريف بشكل أكثر. وفي حين أنه من المستحيل التنبؤ بما سيكون عليه الوضع الطبيعي الجديد، إلا أنه قد يكون عكس اتجاه التحضر.
مع ذلك، نتوقع أن يتقن قادة البلديات تحضير خطط الاستعداد والاستجابة للأمراض. كما أن أقسام الصحة، التي كانت تعاني من نقص التمويل وقلة الموظفين، ستصبح مهيأة بشكل أفضل. سنطور أفضل الممارسات لحماية صحة السكان في المدن، مما سيساعد على إبقاء البيئات الحضرية جذابة.
يمكننا أن نخلق مستقبلًا حضريًا أفضل يحتضن الجميع دون استثناء
بقلم ميمونة محمد شريف
يعيش حوالي 95 بالمئة من الأشخاص المصابين بفيروس كوفيد-19 في المناطق الحضرية. وقد أدى ذلك إلى تعديل طفيف لبعض أوجه عدم المساواة الأساسية في قلب مدننا وقرانا. سيصيب فيروس كوفيد-19 أكثر الفئات ضعفا بقوة، بما في ذلك مليار شخص من سكان المناطق العشوائية والأحياء الفقيرة المكتظة بالسكان في العالم، بالإضافة إلى أشخاص آخرين يفتقرون إلى إمكانية الحصول على سكن مناسب وميسور التكلفة وآمن. دون منزل، من المستحيل الاستجابة لطلب البقاء في المنزل. ودون الحصول على مأوى آمن والتمتع بالخدمات الأساسية، فإن الدعوة المنادية بالمكوث في المنازل لا معنى لها.
يؤدي هذا الوباء إلى تفاقم الانقسام الحضري الذي نجم عن فشل طويل الأمد في معالجة أوجه عدم المساواة الأساسية وضمان حقوق الإنسان الأساسية. وستتطلب آليات الاستجابة في فترة ما بعد فيروس كوفيد-19 معالجة هذه الإخفاقات وتزويد جميع سكان المدن بالخدمات الأساسية، خاصة منها الرعاية الصحية والإسكان، لضمان العيش الكريم للجميع والاستعداد للأزمة العالمية القادمة. ينبغي أن تكون السلطات المحلية القوة الدافعة للحد من عدم المساواة، المدعومة بسياسات الحكومة الوطنية التي تزيد من مرونة المدن وسكانها. ويتطلع الجانب المتفائل بداخلي إلى مستقبل حضري يضم الجميع دون استثناء.
إنشاء المدينة الآمنة والمرنة التي احتجنا لها طوال هذا الوقت
بقلم جانيت صادق خان
إن طريق التعافي من هذا الوباء يمر على طول شوارعنا. يمكننا إعادة إحياء المدن دون إعادة خلق حركة المرور الخانقة والازدحام والتلوث والأرقام المرتفعة لضحايا حوادث المرور، الذين يبلغ عددهم 1.3 مليون شخص كل سنة. يمكننا استعادة شوارعنا وإعادة تنظيمها بطريقة تسمح باستيعاب الأشخاص الذين يتنقلون سيرا على الأقدام أو بالدراجة أو وسائل النقل العام، وبطريقة آمنة وبتكلفة معقولة وبكل سهولة، بغض النظر عن المكان الذي يعيشون فيه في المدينة. ولدينا فرصة لمنح سكان المدينة حول العالم استقلالًا حقيقيا في النقل، وخيارات حقيقية للتجول وحرية عدم امتلاك سيارة.
بيّن الوباء مدى اعتماد المدن على العمال الأساسيين، الذين يعتمدون بدورهم على القطارات والحافلات العامة لبلوغ مكان عملهم في المستشفيات ومحلات البقالة وبقية سلاسل الإمداد. تعتمد قدرتنا على مجابهة هذا الوباء على بروتوكولات السلامة الجديدة التي تضمن حماية الركاب وعمال وسائل النقل، والاستثمار في توسعات شاملة للخدمات لتسهيل إدارة الأزمة التالية. ولا يتعلق هذا التحدي الذي نواجهه بمدى بقاء المدن على حالها كما عهدناها، بل بما إذا كنا نتمتع بقدر من الابتكار والرؤية التي من شأنها أن تغيّر الشوارع وتطوّر مدنا أكثر أمانا وجاهزية ومرونة، التي نحن في أمس الحاجة إليها الآن.
المؤسسات الجديدة ستعيد المدن إلى سابق عهدها
بقلم بروس كاتز
يعلمنا التاريخ أن الأزمات عادة ما تساهم في بروز وكالات ومؤسسات حكومية جديدة. فعلى إثر هجمات 11 أيلول/ سبتمبر أسست الولايات المتحدة وزارة الأمن الداخلي، ومكتب الحماية المالية للمستهلك بعد الانهيار العقاري لسنة 2008-2009. لذلك، من المرجح أن تؤدي جائحة فيروس كورونا إلى إحداث تغيير مؤسسي في المدن، حيث سيتوجب البحث في قدرات جديدة لمعالجة الانهيار الاقتصادي.
إن الانهيار غير المسبوق للأعمال الصغرى، لا سيما تلك التي تقع في المناطق المحرومة والتي تنتمي إلى الأشخاص غير البيض، سيتطلب وسطاء جدد أو غير ربحيين في القطاع العام لتقديم الخدمات للشركات الضعيفة ماليا، ومدّ رواد الأعمال الجدد بتدريب متطور. إن حاضنات الأعمال ومسرّعات التشغيل متوفرة لدينا من السابق – وكل ما نحتاجه الآن هو تجديدها. يجب أن يضمن ذلك الوصول إلى المنتجات المالية المدفوعة بالإنصاف، بدلا من الاقتصار على توفير المزيد من الديون. في نفس الوقت، ستزدهر البنوك العقارية في القطاع العام وشركات التنمية غير الربحية بشكل ملحوظ، حيث ستسمح بتجميع الأراضي وتسريع استغلالها. ستكون نماذج مثل مدينة كوبنهاغن ومؤسسة تطوير الموانئ أو شركة تطوير مركز مدينة سينسيناتي، التي حظيت بإعجاب الجميع لفترة طويلة ولكن نادرا ما وقع اتّباعها، أساسية للانتعاش الحضري. وفي حال لم يطرأ تغيير مؤسسي جذري، ستكون الاستعادة الشاملة للمدن بعيدة المنال.
سيصبح السكن الحضري زهيد الثمن
حسب جويل كوتكين
ستظل المدن تكتسي أهمية بالغة بالنسبة للمجتمع البشري، ولكنها بحاجة إلى التغيير. وقد كانت الكثافة السكانية العالية وانتشار فيروس كورونا مرتبطين ببعضهما منذ البداية، من ظهور الوباء في المناطق الحضرية المزدحمة وغير الصحية في الصين، وصولا إلى ارتفاع عدد المرضى المقيمين في المستشفيات ومعدل الوفاة في المدن الكبرى في جميع أنحاء العالم. وفي الولايات المتحدة، تحمّلت نيويورك وطأة الوباء، على عكس المناطق النائية الأقل كثافة سكانية.
قد يساهم توزيع السكان على مناطق مختلفة في توسيع مواطن الشغل وتقليل تكاليف الإسكان في المناطق الحضرية
قد تتضمن الإجابات السماح بمزيد من النمو في الضواحي، الأمر الذي قد يتطلب تغييرات كبيرة في كيفية استخدام الأراضي وتقسيمها؛ وتشجيع العمل عن بعد حيثما أمكن؛ وتطوير أنظمة نقل شخصية ومستقلة بدلا من دفع الناس إلى ركوب قطارات الأنفاق المزدحمة.
عندما تأثرت المدن بالأوبئة في أوائل القرن العشرين، استجاب المجتمع للوباء من خلال الحد من الكثافة السكانية في المناطق الحضرية. ففي مانهاتن، تراجع عدد السكان من 2.5 مليون في سنة 1920 إلى 1.5 مليون في سنة 1970، كما هو الشأن في لندن وباريس.
مع انتقال المزيد من الأشخاص إلى ضواحي البلاد، أصبحت المدن آمنة وصحية أكثر. إن اتباع مثل هذه الاستراتيجية من شأنه أن يساعدنا في المستقبل. قد يساهم توزيع السكان على مناطق مختلفة في توسيع مواطن الشغل وتقليل تكاليف الإسكان في المناطق الحضرية. ومع ذلك، يجب تصميم الجيل التالي من الضواحي على مبدأ تقليل الانبعاثات، والتركيز على العمل من المنزل، والحد من التنقلات.
على المدن إعادة التفكير في نموذجها الاقتصادي
بقلم تشان هينغ تشي
كانت جائحة فيروس كورونا نداء يقظة للمدن حول العالم لإعادة التفكير في التخطيط الحضري مع ضمان الأمن الصحي كأولوية قصوى. في سنغافورة، أُعيد تنظيم النظام الصحي مع تفشي وباء السارس سنة 2003، لكن هذا الفيروس مختلف. هناك جوانب عديدة للأمن الصحي تفرض تحديات خاصة على مدن تفتقر إلى مناطق نائية، بما في ذلك تلك التي تعاني من هشاشة سلاسل الإمدادات الطبية والغذائية.
إن الجانب الآخر في مدينة مثل سنغافورة، هو التأمين الصحي لعدد هائل من العمال الأجانب المهاجرين الذين ساهموا في تنمية البلاد والحفاظ عليها. يبلغ إجمالي عدد سكان سنغافورة 5.7 مليون نسمة، من بينهم مليون عامل غير ماهر ومحدود المهارات تقريبا، بما في ذلك المعينات المنزليات الأجنبيات، وما يقارب 300 ألف عامل مهاجر معظمهم يعملون في مجال البناء. يعيش معظمهم في بيوت مشتركة كبيرة الحجم. في الحقيقة، سهّل هذا العيش المجتمعي القائم على التقارب، وكذلك مواقع العمل المزدحمة، إصابة العديد من العمال بهذا الوباء. لذلك، ينبغي إعادة النظر في تصميم هذه الأماكن وتعزيز البروتوكولات، بعد فيروس كورونا.
ومن المؤكد أنه سيتم إعادة النظر في النموذج الاقتصادي الحالي، الذي يعتمد بشكل كبير على العمال المهاجرين لتحقيق النمو والتنمية. إن التركيز على التكنولوجيا لزيادة الإنتاجية، التي لطالما دعت إليها الحكومة، سيحظى باهتمام أكبر كوسيلة لتقليل الاعتماد على القوى العاملة في تحقيق الإنتاجية.
يجب علينا استعادة الثقة في سلامة العيش في المناطق الحضرية
بقلم دان دكتوروف
ستعود المدن أقوى من أي وقت مضى بعد الوباء. ولكن عند بلوغ هذه المرحلة، ستكون المدن مدفوعة بنموذج جديد للنمو يحرص على تحقيق الشمولية والاستدامة وخلق الفرص الاقتصادية. حتى قبل الأزمة، كانت المجتمعات الحضرية حول العالم تطالب بتقليل تكاليف المعيشة ووضع خطط أقوى للتصدي لأزمة تغير المناخ. وتشهد بعض المدن التي لا يمكن تحمل تكاليف المعيشة داخلها، مثل نيويورك، نفور السكان منها.
يمكن لأساليب البناء الأرخص والأكثر مرونة، على غرار أعمال البناء باستخدام الأخشاب الطويلة، أن تقلل من تكلفة السكن وتقلل بشكل كبير من انبعاثات الكربون في المباني الجديدة
إن إحياء النمو السكاني الحضري بعد الوباء سيساهم في استعادة الثقة في الصحة العامة وسلامة المعيشة في المناطق الحضرية. ولكن عندما يعود الناس إلى المدن – كما كانوا يفعلون دائمًا في الماضي – يجب علينا الاستفادة من السياسات والتقنيات الجديدة لجعل الحياة الحضرية في متناول عدد أكبر من الناس ومستدامة أكثر.
يمكن لأساليب البناء الأرخص والأكثر مرونة، على غرار أعمال البناء باستخدام الأخشاب الطويلة، أن تقلل من تكلفة السكن وتقلل بشكل كبير من انبعاثات الكربون في المباني الجديدة. يمكن أن تساعد خيارات التنقل الجديدة وامتدادات النقل العام السكان على التنقل إلى العمل دون الحاجة إلى امتلاك سيارة، ويمكن للابتكارات في مجال الطاقة أن توفر الطاقة للأحياء التي تعرف بكثرة استهلاكها للكهرباء التي تحاول التقليل من تأثيرها على المناخ، دون الحاجة إلى دفع فواتير كهرباء باهظة. إذا انتهزنا هذه الفرصة بشكل أفضل، فلن تتعافى المدن فحسب، بل ستوفر فرصًا أكبر من التي وفرتها قبل أن يظهر فيروس كورونا.
المصدر: فورين بوليسي