ما زال الجدل محتدمًا في السودان على وقع الخطاب الذي أرسله رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى الأمين العام للأمم المتحدة نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، يطلب فيه إنشاء بعثة سياسية خاصة من الأمم المتحدة تحت الفصل السادس، لدعم السلام والمساعدة في تعبئة المساعدات الاقتصادية الدولية للسودان وتيسير المساعدة الإنسانية الفعالة، فضلًا عن تقديم الدعم التقني في وضع الدستور والإصلاح القانوني والقضائي وإصلاح الخدمة المدنية وقطاع الأمن.
على وقع الخطاب وموافقة الأمم المتحدة على طلب رئيس الوزراء حمدوك، احتدّ النقاش بين مجموعتين رئيسيتين: الأولى دعمت الخطاب واعتبرت أنه يأتي في سياق ترتيب خطوات السلام وجهود الحكومة لاحتواء الأزمة الاقتصادية، بينما رفضت المجموعة الأخرى خطاب رئيس الوزراء ورأت أنه يسعى لفرض وصاية واستعمار جديد على السودان.
المجموعة الأولى كان تبريرها أن الوجود الأممي في البلاد ليس جديدًا، وأشارت إلى بعثة اليوناميد الموجودة في دارفور من العام 2007 التي تم تكوينها من الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة بقوةٍ تصل إلى 19555 من الأفراد العسكريين و3772 من أفراد الشرطة، إلى جانب “19 وحدة شرطة مشكلة تتكون كل منها من 140 فردًا”، ويُسمح للبعثة ككل باستخدام القوة لحماية المدنيين والعمليات الإنسانية أي بمعنى أنها تحت الفصل السابع.
مشروع لاستعمار جديد
كما لفت مؤيدو البعثة السياسية التي طلبها حمدوك إلى أنها ستكون تحت الفصل السادس لتحل محل بعثة اليوناميد الموجودة تحت الفصل السابع، مشيرين إلى أن الرئيس المخلوع عمر البشير أطلق تصريحًا شهيرًا في العام 2006 عندما قال إنه يفضّل أن يكون قائدًا للمقاومة في دارفور من أن يكون رئيسًا لدولة محتلة، في أقصى درجة رفض منه لخطوة نشر القوات الدولية في إقليم دارفور المضطرب آنذاك، ولكن مرت الأيام ودخلت القوات الدولية إلى السودان وبقيت إلى اليوم، ولم ينبس حينها الرئيس المخلوع ببنت شفة، واستذكر بعض الشباب أن البشير مضى إلى أبعد من ذلك عندما طلب قبل عامين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحماية من التدخلات الأمريكية.
ومع ذلك، يجادل رافضو البعثة السياسية الأممية وأكثرهم من أتباع النظام البائد بأن الخطوة مشروع لاستعمار السودان من جديد، حيث شبّه الكاتب ياسر محجوب الحسين، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة نيكولاس هايسوم الذي غالبًا سيكون رئيس البعثة، بأنه “بريمر السودان”، في إشارة منه إلى الدبلوماسي الأمريكي بول بريمر الذي عينه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش مفوضًا ساميًا في العراق بعد سقوط صدام حسين.
رئيس حزب المؤتمر الوطني المحلول دعا في حسابه على تويتر إلى تكوين جبهة وطنية من كل فصائل الشعب السوداني لصون السيادة الوطنية
ويقول الحسين: “خطاب حمدوك تمت صياغته بإحكام من دول الترويكا التي تسعى لإنفاذ مخطط استعماري جديد يهدف إلى تقسيم السودان وتفتيته إلى دويلات صغيرة مجهولة الهوية لا دور لها وتخضع جميعها لرعاية ووصاية الولايات المتحدة التي تتحكم في منظمة الأمم المتحدة”، مشيرًا إلى أن “رئيس الوزراء ومن يدير اللعبة خلف الكواليس قام بهذه الخطوة منفردًا ودون استشارة مجلس الوزراء ومجلس السيادة ولم يُحظَ الطلب بمناقشة مع قوى الحاضنة السياسية للحكومة”، نشير إلى أننا سنعود إلى هذه النقطة بالتحديد لمحاولة التعرف على سبب قيام حمدوك بإرسال الخطاب دون استشارة مجلسي السيادة والوزراء أو الائتلاف الحاكم.
إبراهيم غندور رئيس حزب المؤتمر الوطني المحلول، دعا في حسابه على تويتر إلى تكوين جبهة وطنية من كل فصائل الشعب السوداني لصون السيادة الوطنية، ومقاومة إنشاء هذه البعثة بكل طرق وأساليب النضال السياسي والقانوني، معتبرًا أن البعثة السياسية في السودان بمثابة تدخل سافر في أعمال السيادة الوطنية، سيعيق التطور السياسي والدستوري والتحول الديمقراطي وإجراء الانتخابات وسيعمل على إقحام الأمم المتحدة في قلب العملية السياسية السودانية، حسب تعبيره.
تغريدات غندور عن البعثة الأممية وجدت استنكارًا وسخريةً واسعة، فقد علّق عليها العديد من المتابعين، قائلين له إن كل الخطوات التي تتخذها الحكومة الانتقالية خارجيًا هي تصحيح للسياسات الخاطئة التي ارتكبها النظام السابق، التي ما زال الشعب السوداني يدفع ثمنها مثل قضيتي تفجير المدمرة كول وحادثة سفارتي الولايات المتحدة في كل من نيروبي ودار السلام، ولفت المغرد هيثم شوشة إلى أن البند السادس الذي ستكون عليه البعثة الجديدة هو تصحيح للبند السابع الذي كانت عليه بعثة اليوناميد.
الأمم المتحدة ستساهم في تحقيق السلام
أما داعمو فكرة إنشاء البعثة فقد دافعوا عنها أيضًا، إذ تساءل الكاتب المرموق محجوب محمد صالح قائلًا: ما التكلفة المادية لإحلال السلام؟ وكم تكلّف إعادة توطين اللاجئين والنازحين؟ وكم تكلّف مشاريع الإيواء؟ وكم يكلّف تقديم الخدمات لهم عند عودتهم؟ وما الاعتمادات المطلوبة للصحة والتعليم؟ وكم المبالغ المطلوبة لمشاريع التسريح وجمع السلاح وإعادة الدمج لآلاف المقاتلين؟ وما حجم التعويضات الجماعية والفردية المطلوبة؟ بل ما تكلفة إعادة بناء الدولة والمرافق التي خربت؟ وإذا حدث أن تساءل أحدهم عن كل هذه التكاليف، فلا بد أن يكون السؤال الثاني هو: ومن أين نأتي بكل تلك الأموال؟
صالح: الحديث عن فرض الهيمنة الدولية لا يعبر إلا عن ضعف في الإرادة السياسية أو استسلام لعقدة ضعف موروثة، والثورة التي تتحرك من موقع ثقة مطلقة بالنفس لا تعاني من أيٍّ من هذه النقائص
واستدرك الكاتب بقوله: “يُحمد للدكتور حمدوك رئيس الوزراء، أنه سأل نفسه هذا السؤال الأول والسؤال الثاني، وفكّر في إطار الإجابة أن يذكّر الأمم المتحدة بمسؤولياتها نحو المساعدة في هذا الإطار، بحكم أن السودان عضو في المؤسسة الدولية، له حقوق ينبغي أن تُرعى، ومن حقه أن يتطلع إلى الاستفادة من خدماتها في مجالات السلام، دون أن ينتقص ذلك من سيادة السودان وسلامته ووحدة أراضيه واستقلاله أو سيطرته على كل أراضيه، فدخل في مكاتبات واجتماعات مع الأمم المتحدة، وتفاهمات في تأسيس عملية سلام في السودان تساعد فيها الأمم المتحدة عن طريق مباشر أو غير مباشر، عبر اتفاقات ثنائية، فتعين السودان على مواجهة تحديات اقتصادية هي قطعًا فوق طاقته، وجاء الطلب من جانب السودان دون أن تفرض الأمم المتحدة عليه واقعًا، كما كان يحدث من قبل” في إشارة من الكاتب إلى بعثة اليوناميد التي سبق التطرق إليها.
ويختتم صالح مقاله في صحيفة العرب القطرية بالرد على منتقدي الخطوة قائلًا: “أما الحديث عن فرض الهيمنة الدولية، فلا يعبّر إلا عن ضعف في الإرادة السياسية أو استسلام لعقدة ضعف موروثة، والثورة التي تتحرك من موقع ثقة مطلقة بالنفس لا تعاني من أيٍّ من هذه النقائص”.
تمهيد لإنهاء بعثة اليوناميد
كذلك رد سفير السودان في إيطاليا عبد الوهاب حجازي الذي يشغل أيضًا منصب مندوب السودان الدائم لدى مؤسسات الأمم المتحدة بروما على الانتقادات، موضحًا أن ما طلبه رئيس الوزراء هو بعثة سياسية خاصة وفقًا للبند السادس من الميثاق، وهذا معمول به تمهيدًا لإنهاء بعثات حفظ السلام ومطبق في كل الدول التي خرجت من نزاعات مثل كولومبيا وسيراليون وساحل العاج وليبيريا، وفق ما ذكر السفير.
ويلفت حجازي في تغريدات على تويتر إلى أنه وبحكم تشكيل البعثة السياسية الخاصة لن يكون المكون العسكري كبيرًا، سيكون محدود العدد للقيام بمتابعة ما يتم الاتفاق عليه في قضايا الترتيبات الأمنية في اتفاقية السلام القادمة، موضحًا أن “المكون المدني سيكون الغالب عددًا، والمعني بتنفيذ المشروعات والاحتياجات التي تحددها حكومة السودان وفقًا لأولوياتها، التي أشار إليها السيد رئيس الوزراء في خطابه للأمين العام ورئيس مجلس الأمن. مما يعني أن البعثة السياسية الخاصة ستعمل وفق ما تحدده حكومة السودان”. حسب وصفه.
كثرت المناشدات إلى حمدوك بأن يخرج إلى الشعب السوداني ليصارحه بأسباب التدهور الاقتصادي ويكشف ألاعيب العسكريين ومعهم أحزاب قوى الحرية والتغيير
هل استشعر حمدوك انقلابًا وشيكًا من العسكر؟
بقي أن نعود إلى ما ذكره الكاتب ياسر محجوب الحسين في مقاله عن أن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك أرسل طلب إنشاء البعثة الأممية منفردًا ودون استشارة مجلس الوزراء ومجلس السيادة، فمن الواضح أن حمدوك استشعر خطوة الانقلاب الوشيكة التي يخطط لها المكون العسكري في مجلس السيادة وتحديدًا رئيس المجلس البرهان وقائد قوات الدعم السريع حميدتي، والصراع الخفي بين الرجلين خاصة مع اقتراب نهاية النصف الأول من الفترة الانتقالية حيث من المفترض أن تؤول رئاسة مجلس السيادة إلى المدنيين في النصف الثاني.
فمن الصعب أن يتقبل البرهان العودة والتنازل عن منصب الرئيس إلى أحد المدنيين ويصبح عضوًا عاديًا، خصوصًا أن حميدتي قد عيّن نفسه في منصب “نائب رئيس مجلس السيادة”، رغم عدم وجود هذا المنصب في الوثيقة الدستورية، كما أن البرهان لم يصدر أي قرار بتعيينه نائبًا له.
ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية في الآونة الأخيرة، نتيجة لعدة أسباب على رأسها العراقيل التي وضعها العسكر أمام الحكومة المدنية بسيطرتهم التامة على مفاصل الاقتصاد وترك البلاد في حالة من السيولة الأمنية والفوضى، كثرت المناشدات إلى حمدوك بأن يخرج إلى الشعب السوداني ليصارحه بأسباب التدهور الاقتصادي ويكشف ألاعيب العسكريين ومعهم أحزاب قوى الحرية والتغيير، لكن يبدو أن الرجل آثر السلامة، ورأى أنه من الأفضل أن يخاطب الأمم المتحدة لتشكل بعثة سياسية تكون مهمتها الظاهرة دعم السلام ومساعدة الحكومة الانتقالية، وإلى جانب ذلك تضطلع بمهام تحجيم العسكر وضمان عدم قيامهم بأي انقلاب على الوثيقة الدستورية أو الحكومة المدنية.