جميعنا نذكر حركة “أنا أيضًا” أو #MeToo التي انتشرت عام 2017 وأطاحت بعدد كبير من المشاهير حول العالم، أبرزهم من الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى إثرها صدر عدد من الكتب التي تحكي فيها ضحايا التحرش الجنسي والاغتصاب ما حدث لها، ومنها كتاب “اعرف اسمي”، وقد أفردت له تقريرًا تستطيع قراءته من هنا.
اليوم سأتحدث عن كتاب ليس جديدًا في السوق الكوري، فهو صادر منذ عام 2016 ولكنه تُرجم حديثًا إلى اللغة الإنجليزية، كذلك صدرت نسخته الصوتية منذ وقت ليس بطويل، ولكن ما أعاد الجدل بشأنه من جديد هو تحويله إلى أحد الأفلام!
“كيم جي-يونغ ولدت عام 1982” Kim Ji-Young, Born 1982 رواية للكاتبة الكورية تشو نام-جو Cho Nam-joo، تصدرت قائمة الكتب الأكثر مبيعًا تحت هاشتاغ “أنا أيضًا”، إنها رواية عن الصراع اليومي للمرأة الكورية ضد التحيز الجنسي المتجذر في المجتمع الكوري الذكوري، هي حياة امرأة يائسة، تحاول الهروب من الأدوار الجندرية الخانقة مثل أي امرأة عربية.

باعت الرواية عند صدورها نحو مليون نسخة، كما أصبحت أكثر الكتب مبيعًا في اليابان وتايوان والصين أيضًا! وتُرجمت إلى 18 لغة! فدعونا نعرف لماذا أثارت الرواية كل تلك الضجة؟
إلى أي مدى تشبه كيم جي-يونج المرأة العربية؟
تلتقي في هذه الرواية بـ”جي يونغ” التي تبلغ من العمر 33 عامًا، ولديها طفلة عمرها عام واحد، حياتها غير ملحوظة باستثناء أنها بدأت في تقمص شخصيات الآخرين!
خلال زيارة “جي-يونغ” لأصهارها، تتقمص شخصية والدتها وتتحدث إليهم بطريقة تعتبر غير ملائمة، فالعائلات الكورية مثل العائلات العربية، يحبون التحفظ ويحترمون الكبير ويضعون اعتبارًا للسن والمكانة والتسلسل العائلي.
من الطبيعي جدًا أن نجد في المجتمع الكوري والعربي كذلك أن الكبار يكيلون الإهانات والتوبيخ للصغار لمجرد أنهم صغار لا يستطيعون الرد أو لأن الأعراف حفظت لهم مكانة كبيرة، فكما كانوا يتحملون لوم الكبار فيما مضى وتوبيخهم، عليهم أن يوبخوا الأصغر منهم لتستمر دائرة التنمر والمعاناة.
لذلك عندما تتقمص جي-يونغ شخصية والدتها وتتحدث بطريقة غير ملائمة، يصيح بها والد زوجها معنفًا إياها بقوله: هل هذه هي الطريقة التي تتصرفين بها أمام الكِبار؟
توافق “جي-يونغ” على زيارة طبيب نفسي وحديثها عن حياتها خلال تلك الزيارات يجسد معظم الرواية الصغيرة.
لقد ولدت جي-يونغ في الوقت الذي أصبح ممكنًا فيه معرفة جنس الجنين، وكان إجهاض الإناث وقتها ممارسة شائعة كما لو كان تشكيلها كأنثى ورم في حاجة إلى إزالته.
لقد لعبت جي-يونغ وفقًا للقواعد دائمًا، لكنها لم تفز بأي شيء! صارت فقط تائهة، واقفة في متاهة تبحث عن طريق للخروج لكنها لم تجد واحدًا، ففي المدرسة كان الأولاد يأكلون أولًا، كذلك عانت من التحرش الجنسي ولوم الضحية، وفي العمل رغم أن خبرتها كانت كبيرة، فإن فجوة الرواتب بين الرجال والإناث كانت كبيرة، فالنساء في كوريا الجنوبية يكسبن 63% فقط مما يكسبه الرجال.
جي-يونغ نسخة مكررة من ملايين النساء
أول ما يلفت نظرنا في هذا العمل الروائي هو اسم البطلة جي-يونغ، إنه اسم شائع ومكرر مثل أن يُسمي أحدهم ابنته “أسماء”، فهو ليس اسمًا استثنائيًّا بأي شكل، كذلك حياة النساء الكوريات في تلك الفترة التي نعرفها من مجرد قراءة العنوان: الثمانينيات.. حيث تذهب المرأة إلى الجامعة وتحصل على وظيفة ثم تتزوج وتصبح أمًا.. هكذا ببساطة.
إنها امرأة مثل الجميع، تعرضت لمضايقات في الصف وعندما تشكو من تلك المضايقات يبرر المعلم لها الأمر بأن الأولاد يميلون إلى مضايقة الفتيات اللواتي تعجبهم! وفي إحدى مقابلات العمل عندما سألوها عما ستفعله إذا تعرضت إلى تحرش جنسي في مكان العمل، وبسبب قلقها من أنها قد لا تحصل على الوظيفة أجابت: سأحاول مغادرة الموقف بشكل طبيعي من خلال الذهاب إلى الحمام.
لقد مرت جي-يونغ بكل ما كُتب لأنثى أن تعيشه، فقد تعلمت وتعرضت للوم لكونها ضحية تحرش وتزوجت وأصبحت حاملًا، وفي هذا الوقت الصعب لم يعرض أحدهم عليها مقعدًا حتى في وسائل النقل العام!
وبعد كل معاناتها والذل الذي تعرضت له وما زالت تتعرض له تسمع شخصًا غريبًا يصفها بـ“الأم الحشرة” Mom-Chong، وهو مصطلح كوري مهين يصف الأمهات المقيمات في المنزل، مشبهًا إياهن بالطفيليات اللواتي يستغلن أموال أزواجهن.
فبعد أن أنجبت جي-يونغ كانت تجلس يومًا برفقة طفلتها الصغيرة في أحد المقاهي لتسمع أحد الشباب يتحدث عنها قائلًا إنه يرغب في أن يكون “الأم الحشرة” ويجلس ليشرب بأموال زوجه قهوة! منذ ذلك اليوم تطورت حالة جي-يونغ العقلية، مما أدى إلى ذهابها لطبيب نفسي في نهاية المطاف، فهي تخلت عن أحلامها، عن وظيفتها، عن كل شيء في سبيل تربيتها لطفلتها، وفي النهاية يأتي شخص لا تعرفه ليقول عنها ذلك.
كيم جي-يونغ صوت امرأة لا صوت لها
إن ما حدث لكيم جي-يونغ من تقمص للشخصيات كان بمثابة المخرج الآمن الوحيد لها، صوتها في مجتمع يتجاهلها فيه الجميع ويتجاهل مثيلاتها.
تقول الكاتبة تشو نام-جو: “كيم جي-يونغ على قيد الحياة في مكان ما في هذا العالم الحقيقي، ذلك لأنها تشبه إلى حد كبير صديقاتي وصديقاتك، وكبار زميلاتي في العمل، وحتى أنا. شعرت بالأسف عليها طوال عملية الكتابة، لكنني أدركت أيضًا أنه كان عليها أن تعيش بالطريقة التي عاشت بها، ولم يكن لديها العديد من الخيارات التي تبدأ بها”.
مع الاستمرار في القراءة تلقي الكاتبة الضوء على عدة أزمات كورية مثل الأزمة المالية الكورية لعام 1997 التي ساهمت في زيادة تفاوت الأجور بين الرجل والنساء.
ورغم وجود تشريعات جديدة إيجابية ومتطورة مثل تشريع ضد التمييز بين الجنسين، فإن كل هذا كان مجرد حبر على ورق، وبعيدًا كل البعد عن التطبيق، فإن كان العالم قد تغير، فالقواعد والعادات لم تتغير، مما يعني أن عالم جي-يونغ لم يتغير على الإطلاق!
ورغم تكهن والدة جي-يونغ بأن المستقبل قد يحمل للبلاد رئيسة أنثى، فإن تلك الرئيسة صارت بارك غن-هي ابنة الديكتاتور العسكري بارك تشونغ-هي التي تبنت طريقة والدها المستبد، وتحت قيادتها تفاقمت مشكلة عدم المساواة بين الجنسين، كذلك ارتفعت عدد الجرائم الجنسية.
عُزلت في نهاية المطاف بارك غن-هي بسبب فضيحة فساد ضخمة اندلعت عام 2016، مما تسبب في نزول ملايين الكوريين إلى الشوارع مطالبين بعزلها، وفي مايو من ذلك العام، قتل رجل يبلغ من العمر 34 عامًا امرأة عشوائية في مترو أنفاق سيول، قائلًا إنه شعر بالتجاهل والتقليل من النساء! هذا الهجوم فجر غضبًا نسائيًا اتخذ شكلًا في النسخة الكورية من حملة “أنا أيضًا”.
الهجوم والسخرية والتنمر
صدرت رواية تشو نام-جو في تلك الفترة المتزعزعة، وكان توقيتها مثاليًّا، فقد اقتربت مبيعاتها من المليون نسخة وأصبحت حديث كل النساء، فقد ظهرت العديد من النجمات برفقة الكتاب في محاولة منهن للإشادة به، كذلك كرهه الرجال وبعض النساء المناهضين للنسوية، كونهم يرون الكتاب مجرد تحريض على قلب نظام المجتمع.
كل هذا طبيعي عند صدور أحد الكتب المثيرة للجدل وخصوصًا في مجتمع منغلق اجتماعيًّا مثل المجتمع الكوري الجنوبي، ولكن ليس من الطبيعي إنشاء حملة تمويل جماعي من أجل إصدار كتاب بعنوان “كيم جي-هون” ولد عام 1990، Kim Ji-Hun Born In 1990 الذي تحدث عن التمييز العكسي الذي يواجهه الرجال.
الكتاب ما هو إلا محاكاة ساخرة لرواية “تشو”، فبطل الرواية مولود عام 1990، يدعي أن الرجال يتعرضون بانتظام إلى التحيز الجنسي، مشيرًا إلى الواجب العسكري الإجباري لجميع الرجال القادرين على العمل ولكن النساء معفيات منه، النقطة الأخرى التي يثيرونها هي توقع أن يدفع العريس وأسرته ثمن السكن عندما يتزوج الزوجان، على الرغم أن هذا أصبح نادرًا في الممارسات الفعلية الحاليّة للزواج.
في تلك المحاكاة الساخرة نجد كيم جي-هون البالغ من العمر 26 عامًا الذي يؤدي الخدمة العسكرية جالسًا في ستاربكس يشرب قهوته مجانًا كجزء من عرض ستاربكس المجاني للجنود، الذي أُطلق في عام 2015، ثم سمع نساء يتحدثن عنه قائلات: لماذا يحصل دروع اللحم هؤلاء على قهوة مجانية؟
مما يجعل “جي-هون” يغضب صارخًا لنفسه: “لقد تخليت عن أغلى سنوات حياتي، أوائل العشرينيات كي أحمي بلدي، لكن النساء يسمونني درع لحم”!
تلك المحاكاة الساخرة لا نستطيع التأكد من حقيقتها، لكون ذلك المصطلح ليس شائع الاستخدام حقًا مقارنة بـ”الأم الحشرة”، الذي يستخدم محليًّا بشكل كبير.
لم تسلم الفنانات اللاتي شاركن صورهن برفقة الكتاب أو تحدثن عنه أيضًا من التعرض للسب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كذلك بعض المعجبين تمادوا في الأمر وبدأوا في حرق صورهن!
لم يتوقف الأمر عند هذا أيضًا، فبخلاف التقييمات السيئة للكتاب على جميع مواقع الكتب التي قام بها الرجال دون حتى محاولة قراءة الرواية، ففور صدور خبر تحويل الرواية إلى فيلم تجمع الرجال من جديد لإعطائه تقييمًا سيئًا دون حتى أن يكون الفيلم قد عُرض في السينما!
رواية “كيم جي-يونغ” ليست مهينة، بل هي عرض لحياة المرأة والصعوبات التي تواجهها في سبيل محاولتها للحفاظ على بعض من أحلامها أو فقط لمحاولتها للتعايش في سلام.
إن المجتمع الكوري حاد ومنغلق وغير عادل، يرى النسوية تهمة وأن كل ما على المرأة فعله هو طأطأة رأسها وبذل حياتها في سبيل الزوج والعائلة وإخفاء نفسها حتى النهاية.