قبل أن ينادي السوريون في بداية ثورتهم بسقوط النظام، كانت شعاراتهم مركزةً على الإصلاح ومحاربة الفساد، الفساد الذي أنهك قواهم وأضعف قدرتهم المعيشية وساهم بفقرهم وتحويل المجتمع إلى طبقات تسود بها بعض العوائل على حساب الشعب المغلوب على أمره، حتى أصبحت الرشاوي والمحسوبيات والنهب والسرقة من قبل موظفي الحكومة ديدنًا عامًا، لا سيما من قبل الشخصيات النافذة التي تحكمت في مشاريع البلاد وأموالها.
لعل الأمر الذي ساعد على أن يتخطى الفساد واللعب بأرزاق الناس وأقواتهم والتدخل في أعمالهم، هو تزاوج المال والسلطة الذي حصل بين عائلتي مخلوف والأسد، فأصبح اقتصاد البلاد رهينًا لمخرجات هاتين العائلتين، ولو أن الأمر كان غير واضح في بداياته أيام حكم حافظ الأسد مؤسس دولة البعث الفاسدة في سوريا، إلا أنه ومع قرب استلام بشار الأسد للحكم عام 2000 تجلت الأمور واتضحت.
عامٌ بعد عام في أثناء حكم بشار الأسد برز اسم عائلة مخلوف وكبير تلك العائلة محمد مخلوف وهو خال الأسد الابن والمؤسس لعائلة الفساد، إضافةً إلى ابنه رامي مخلوف، الذي سيتردد اسمه في شعارات السوريين مع انطلاقة مظاهرات درعا يوم 15 من مارس/آذار 2011، تلك الشعارات التي نادت بإخراج رامي مخلوف من السلطة ومحاسبته على إجرامه باقتصاد البلاد وتحكمه بأرزاق العباد.
نسلط الضوء في هذا التقرير على بعض أبرز عمليات الفساد التي ارتكبها رامي مخلوف على حساب الشعب السوري، بالإضافة إلى مساهمته في قتلهم وباعترافه، وفي البداية لا بد من التعريف بأصل الفساد في عائلة مخلوف التي تتفرع منها أنهارٌ من الفساد أضعفت وأنهكت سوريا وشعبها برعاية آل الأسد.
رأس الفساد.. محمد مخلوف
أخو زوجة حافظ الأسد، لم يكن متاحًا له الكثير بعهد حافظ الأسد، إلا أنه وضع بصمته بالفساد عبر مؤسسة التبغ التي تولى إدارتها منذ عام 1972 حتى إبعاده عنها عام 1985، وبعدها أصبح مديرًا للمصرف العقاري الذي تشير التقارير أن سرقاته منه تُقدر بمليار ليرة سورية، إلا أن كل تلك السرقات لم ترق لمخلوف، فأتت فرصته الكبيرة عندما اشتد مرض حافظ الأسد عليه عام 1998 وبدء انتقال السلطات لبشار.
ضعف خبرة بشار الأسد جعل محمد مخلوف يقف وراءه ليكون مستشاره الفعلي، مستفيدًا من إعجاب الأسد الابن بخاله وأفكاره وطريقة تعامله، وهو الأمر الذي أتاح لمخلوف أن يعمل على خطة يسيطر فيها على اقتصاد سوريا، تتضمن السيطرة على القطاعات الأكثر حيوية وهي النفط والاتصالات والبنوك، ليستلم بدوره قطاع النفط وجمع عقوده من تنقيب وتصدير واستيراد، مؤسسًا شركات بالشراكة مع غسان مهنا ونزار الأسد، وفقًا لموقع “اقتصاد“، ويسلم ابنه رامي قطاع الاتصالات.
يقول تقرير للموقع آنف الذكر: “منذ العام 2000 وحتى 2007، كانت عائلة مخلوف – الأسد، تسيطر على أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي المقدر بنحو 60 مليار دولار، بينما قدرت ثروة آل مخلوف والأسد في ذلك الوقت بأكثر من 10 مليارات دولار”.
رامي مخلوف.. خليفة أبيه
الابن الأكبر لمحمد مخلوف، ذو المسيرة المثقلة بالفساد على حساب الشعب السوري، اسمٌ ارتبط في أذهان السوريين بكل صفة سيئة يمكن أن يحملها أي تاجر خبيث، عمل رامي بتهريب المواد الغذائية والأدوات الكهربائية وغيرها، وذلك في فترة الحظر التجاري على البلاد في ثمانينيات القرن الماضي، متخذًا من والده غطاءً لأعماله المشبوهة، وفي فترة إدارة أبيه لمؤسسة التبغ عمل بتجارة الدخان والتبغ، ومع انتقال الأب للمصرف العقاري وجد رامي فرصته بتأمين قروض كبيرة وتسديد طويل الأمد، كما أنه سحب أموالًا عبر قروض وهمية لأشخاص وهميين، ووفقًا لموقع “مع العدالة“، “سيطر رامي على السوق الحرة في مطار دمشق الدولي بعقد سنوي يبلغ مليون ليرة فقط، وذلك في عهد رئيس الوزراء الأسبق محمود الزعبي، وكانت السوق الحرة منطلقًا للتهريب إلى سوريا”.
“توسعت السوق الحرة لتشمل المنافذ الحدودية البرية والموانئ والمطارات، مما دفع بالشركات العالمية للدخول في صفقات تجارية مع رامي مخلوف وشقيقه إيهاب كونهما المتحكمين في كل شيء له علاقة بالأسواق الخارجية وما يتم استيراده، حيث بلغ دخل تلك الأسواق ما لا يقل عن 300 مليون دولار سنويًا”.
أصبح رامي مخلوف الرجل الأول في الاقتصاد السوري كظل لأبيه في فترة حكم بشار الأسد، وفتح أمامه الطريق للدخول كشريك مع أصحاب الشركات العملاقة في سوريا، وحصل على تراخيص لشركات الخليوي في سوريا التي ذكرنا أنها كانت من ضمن خطة أبيه، وسيطر على شركة “سيريتيل” وهي مملوكة بالكامل له ودخل شريكًا في شركة “إنفستكوم” المملوكة لطه ونجيب ميقاتي، وامتلك فيها رامي الجزء الأكبر من الأسهم.
قضية “العقود”
كتبت ابنة المعارض السوري رياض سيف جمانة سيف على صفحتها في فيسبوك منشورًا توضح فيه كيف عارض أبوها عقود الخليوي في سوريا عام 2001 كما أنها وضعت جزءًا من دراسة كاملة أعدها المعارض سيف وقدمها لمجلس الشعب السوري حينما كان نائبًا فيه عام 2001، وبحسب سيف فإن هذه القضية كانت “بمثابة أخطر وأكبر قضية فساد في سوريا في ذلك الوقت”.
يذكر سيف “أنه وبعد خمسة أيام من توقيع العقود وبتاريخ 17/2/2001 وجه الزميل مأمون الحمصي أسئلة حول عقود الخلوي، وطلب حضور الحكومة للرد عليها. حضرت الحكومة في 26/3/2001 وقدم وزير المواصلات محمد رضوان مارتيني تقريرًا يؤكد نزاهة العقود وقانونيتها وفوائدها الكبيرة للمصلحة العامة، وأعلن رئيس المجلس إقفال باب النقاش وطي الملف فقاطعته بصرخة مدوية أن هذا سوف يضيع على الشعب السوري مبلغ 200 مليار ليرة سوري وأنني أملك الوثائق التي تدعم ذلك ولا يمكننا أن نسمح بإغلاق الملف، وهنا انضم إليّ عدد كبير من أعضاء المجلس حتى البعثيين منه مما اضطر رئيس المجلس لعدم إغلاق الملف”.
يروي سيف أن وزير المواصلات حذره من اعتقاله في حال متابعة الحديث بهذا الموضوع، طالب المعارض السوري في جلسة المجلس في مايو 2001 بتشكيل لجنة تحقيق بقضية هذه العقود، كما أنه قدم دراسة بعنوان “لماذا التعتيم على عقود الخلوي”، في منتصف أغسطس/آب من ذات العام أصدر سيف دراسة تحت عنوان “صفقة عقود الخلوي” وجهها لمجلس الشعب أكد فيها: “إن توقيع عقود الخلوي، منح لشركات أجنبية امتياز إدارة واستثمار مرفق عام تملكه الدولة يتمثل في استثمار الترددات. وهذا يتطلب إصدار قانون خاص حسب المادة 71 من الدستور، إلا أن رغبة المستفيدين من العقود بإبرام الصفقة وسعة نفوذهم مكناهم من الالتفاف على الدستور وإتمام الصفقة بسرية مطلقة”.
كتب رياض سيف مفصلًا في هذا الأمر عن تعامل الحكومة وكيفة تمت عقود الشركتين في جزر العذراء البريطانية المشهورة بعمليات غسيل الأموال، ويذكر أنه وزع آلاف النسخ من كتيب صغير بعنوان “صفقة عقود الخلوي” وهو الأمر الذي أدى لمحاكمته وسجنه رغم أنه عضو في مجلس الشعب.
فسادٌ أبعد من الاتصالات
عمل رامي مخلوف في فترة ما قبل عام 2011 على الاستيلاء على الشركات الخاصة الكبيرة، عدا عن إدارة أعمال بشار الأسد وأخيه ماهر، وكانت أبرز محاولاته هي السيطرة على وكالة مرسيدس في البلاد وأخذها من يد شركة عمر سنقر، الأمر الذي جعل الشركة الألمانية تقف إلى جانب أصحاب الوكالة الرئيسيين، لتهب الحكومة السورية وتقف في صف مخلوف مصدرةً قرارًا بإلغاء الوكالات الحصرية لمنع الاحتكار كما ادعت حينها.
لم يستطع مخلوف السيطرة على وكالة مرسيدس، فاتجه نحو شركة السيارات بي إم دبليو BMW واستولى عليها، وفور ذلك ألزم وزارة الدفاع السورية بشراء 27000 سيارة وتوزيعها على الضباط المتقاعدين والمسرحين من رتبة لواء وعميد، في خطوة جعلت مخلوف يسيطر بشكل شبه كلي على تجارة السيارات في سوريا، فأنشأ شركة خاصة لمراقبة تطابق السيارات المستوردة مع المواصفات الحكومية.
تبييض أموال نظام صدام حسين
يذكر بيار صادق في سلسلة مقالات كتبها بعنوان “صعاليك سوريا الجدد” صدرت قبل الثورة السورية بسنوات، أن نشاط رامي مخلوف الخارجي بدأ بعد مقتل الحريري، إذ إنه حول مالًا إلى دبي ليستثمره واشترى برجين في دبي وفتح مكتبًا للاستثمارات المالية في البورصة بدبي.
غسل رامي مخلوف أموال صدام حسين وهربها من العراق بعد اجتماعه مع ابن صدام حسين، عدي، وأدخل الأموال إلى لبنان لتُبيض ومن ثم تُنقل لبنوك أخرى في دول عربية، وكان رستم غزالة مشرفًا على هذه العمليات، وبعد سقوط نظام صدام تم الاحتيال على الحكومة العراقية الجديدة.
في مقالات “صعاليك سوريا الجدد” يذكر الكاتب أن “فساد رامي مخلوف كبر وكثر طمعه وخاصة بعد شراكة تجارية بين إميل لحود حيث بدأ معه بتبييض الأموال وتهريبها عن طريق بنك المدينة وبمساعدة أشقائه وبعض أصدقاء من داخل البنك حيث تم تبيض أموال عراقية”.
بيّض رامي مخلوف وإميل إميل لحود ورستم غزالة أموال صدام حسين وهربوها وكانت تقدر بمبلغ 800 مليون دولار وذلك قبل سقوط بغداد بسنتين، ونُسقت العملية بين ميرزا نظام وقصي صدام حسين وماهر الأسد وأدار هذه العملية مخلوف من دمشق.
شملت استثمارات مخلوف كل شيء في سوريا وصولًا إلى المجال الإعلامي، حيث افتتح أول جريدة خاصة وهي “الوطن”، وفي مجال البنوك حصل على عدة حصص في مصارف كالبنك الإسلامي الدولي لسوريا وبنك بيبلوس وبنك البركة وبنك قطر الدولي وبنك الشام وبنك الأردن في سوريا، وفي شركات التأمين والخدمات المالية للشركات، وأسس مصنعًا للإسمنت بقيمة 250 مليون دولار، كما استحوذ على حصص في أسهم العديد من الفنادق، وحصل على رخصة لتطوير كورنيش اللاذقية. عقاريًا يمتلك رامي مخلوف شركة “راماك” التي تلتزم بمشاريع كبرى بمناقصات وهمية، وأسس شركة “أجنحة الشام” للطيران التي بناها على حساب الشركة السورية للطيران مقوضًا عملها.
أعمال عسكرية بغطاء خيري
في أحد فيديوهات رامي مخلوف التي ظهرت بها مؤخرًا، أقرّ علنًا بأنه أحد أكبر داعمي الأفرع الأمنية وقوات النظام السوري التي حاربت طوال السنوات الماضية وساهمت في قمع الاحتجاجات الشعبية والانتفاضة السورية، أسس مخلوف “جمعية البستان” عام 1999 التي حولت نشاطاتها كافة منذ اندلاع الثورة إلى نشاطات عسكرية وزود عناصر الجمعية بالمال والسلاح، ومن خلال تمويله ودعمه للعصابات التابعة لجمعية البستان، يعتبر رامي مخلوف شريكًا أساسيًا في كل الانتهاكات التي ارتكبها النظام، كما أنه المسؤول الأول عن انهيار الاقتصاد السوري وتجييره لصالح عدد محدود من شركائه المستثمرين، وله دور كبير في دعم أعمال القمع التي ارتكبها أخوته إيهاب وإياد مخلوف، وكذلك العميد حافظ مخلوف ووالده محمد مخلوف.
جندت جمعية رامي مخلوف “الخيرية”، الشباب من الطوائف كافة، وسلحتهم وشاركت بمهام قتل المتظاهرين السلميين في بداية الثورة السورية، مقابل مبالغ مادية مغرية، إضافة لإطلاق أيديهم لسرقة بيوت المتظاهرين، دعمت هذه الجمعية تأسيس مجمع “الرسول الأعظم” الذي يعتبر مركزًا للتشيع في سوريا، كما ساهمت بافتتاح سلسلة جوامع وثانويات وهيئات نسائية وكشفية وخيرية، تعنى بشؤون عائلات القتلى من قوات نظام الأسد.
أولادٌ فاسدون
كشفت منظمة “غلوبال ويتنس” لمكافحة الفساد أن عدة أفراد من عائلة مخلوف يملكون ما قيمته 40 مليون دولار من العقارات في اثنتين من ناطحات سحاب موسكو، ولفتت المنظمة أن العائلة كانت تتحكَم بـ60% من الاقتصاد السوري، وتشير المنظمة إلى أن “عقارات عائلة مخلوف في موسكو، التي جرى شراؤها بين 2013 و2019، تتكون في الغالب من مساحات مكتبية واقعة بالحي التجاري الرفيع في موسكو، بمدينة العواصم وناطحات سحاب الاتحاد الفيدرالي”.
وتبين الأدلة أن بعض القروض تبدو مهيكلةً، لحجب صلة عائلة مخلوف بالأموال الجاري تحريكها بين سوريا وموسكو، وأوضحت المنظمة أن “شراء هذه العقارات تذكِرة بالدور الثاني الأكثر سرية الذي أدته روسيا في دعم نظام الأسد، فثمة بنوك روسية دعمت عائلة الأسد خلال الحرب في سوريا، ويُظهر تحقيقنا أن موسكو ما زالت ملاذًا آمنًا لأموال النظام السوري، ويُحتمل أن تكون بوابة إلى النظام الاقتصادي العالمي”.
كانت صحيفة “دير شبيغل” الألمانية قد سلطت الضوء على فساد أبناء رامي مخلوف في ظل الحرب التي أفقرت الشعب السوري في الوقت الذي يعيشون حياة الرخاء والرفاهية، ومن خلال السوشال ميديا ووسائلها المتعددة يقدم أبناء رامي مخلوف صورة عن الإسراف المفرط والغنى الفاحش بحسب الصحيفة، فأشارت إلى أن عائلة الأسد ومخلوف تهيمنان على مناصب قيادية في الجيش والاستخبارات والاقتصاد، كما أن أفراد عائلة رامي مخلوف متهمون بالتلاعب بمليارات الدولارات، لكنهم نجحوا بإيجاد طرق جديدة للتحايل على العقوبات الدولية عليهم وحماية ممتلكاتهم بل وزيادتها.
يصف محمد مخلوف الابن نفسه بـ”الملياردير العصامي”، وتبلغ ثروته ملياري دولار غير واضحة المصادر وطرق الجمع، وبحسب دير شبيغل فإن شراء السيارات تعتبر إحدى هواياته، وفي عام 2018 انتخب محمد على أنه “الشخص الأكثر سخاءً في سوريا”، وفي العام 2022 سيبدأ بشركة قابضة لكسب المال من إعادة إعمار البلاد.
تتنوع سيارات مخلوف الابن، وتضم أنواع “فيراري” و”رولز رويس” و”رانج روفر” و”مرسيدس”، فيما تظهر إحدى الصور، خمس سيارات يتخطى ثمنها الأربعة ملايين دولار، وتتنوع لوحات السيارات صاحبة الأرقام المميزة بين سيارات تحمل اسم “دمشق” أو “دبي”.
عام 2008 كانت أولى العقوبات على رامي مخلوف واعتبر قرار لوزارة الخزانة الأمريكية أن مخلوف “من بين المستفيدين من الفساد الذي يحدث في سوريا، ونفوذه واتصالاته مع النظام السوري وقربه منه كان سببًا في احتكار بعض السلع الربحية” وأنه “تلاعب بالنظام القضائي السوري واستخدم مسؤولي الاستخبارات السورية لترهيب منافسيه في الأعمال”، وفرض الاتحاد الأوروبي على رامي مخلوف عقوبات إثر اندلاع الثورة السورية نتيجة مشاركته في قمع الاحتجاجات.