سعت الحكومة التركية خلال أزمة فيروس كورونا التي بدأت في تركيا مارس 2020 إلى العمل بشكل نموذجي من حيث الإجراءات المبكرة والتدابير الاحترازية والتوعية للمواطنين وتقديم العلاج للمصابين مجانًا وتصنيع أجهزة التنفس محليًا وافتتاح عدة مستشفيات بوقت قياسي وإعادة المواطنين من الخارج وتوفير سلل الغذاء وكمامات وتقديم حزمة دعم اقتصادية للجهات المتضررة، إضافة إلى إجراءات أخرى على رأسها الشفافية في إعلان الحالات المصابة وأعداد الوفيات.
وقد بدت هذه الإجراءات موضع تقدير عند المواطن التركي الذي تعرف بشكل جيد ويومي على وزير الصحة ووزير الداخلية والتعليم الذين ارتفعت شعبيتهم بشكل واضح خاصة مع بدء إتيان هذه الإجراءات أكلها بالوصول لذروة الحالات بوقت قصير والبدء في منحنى هابط لعدد الحالات وتزايد عدد المتعافين، كما أن تركيا رسمت صورة جيدة دوليًا من خلال كونها الثالثة عالميًا في إرسال المساعدات الطبية لدول العالم.
لكن في ظل إدارة هذه الأزمة وهذه الجهود أطلقت قيادات من المعارضة التركية خلال الأيام الأخيرة وبالتحديد من حزب الشعب الجمهوري تصريحات بدت غريبة عن الانتقادات المعتادة للحكومة وأقرب إلى التلميح بوقوع انقلاب عسكري وقرب نهاية “النظام”، حيث وصفت هذه التصريحات الحكومة بالنظام تارة وبنظام القصر تارة أخرى، مشيرة إلى أن نهاية السلطة الحالية اقتربت.
وحذر المتحدث باسم حزب الشعب الجمهوري ونائب رئيس كتلة الحزب في البرلمان أوزجور أوزال بطريقة غير مسبوقة موظفي الدولة الذين يعملون لصالح الحزب الحاكم بأن الحكومة القادمة سوف تحاسبهم، وطمأن الموظفين الآخرين الذين يخدمون الدولة على حد قوله، كما قال أوزال أنهم سينهوا كل شيء يؤذي عظام أتاتورك في قبره.
لم يقتصر الأمر على أوزال، فقد شاركت جنان كفتانجي أوغلو رئيسة الحزب في إسطنبول فيما بدا أنها حملة منسقة بمحددات خطاب التغيير، حيث قالت إن تغيير نظام الحكم قادم سواء بانتخابات مبكرة أم بطريقة أخرى، وقد تساءل المتابعون والمحللون عن قصدها، بطريقة أخرى هل تشير إلى التهديد بوقوع انقلاب أم تقصد شيئًا آخر.
إزاء هذا الأمر وجه عدد من نواب وكوادر حزب العدالة انتقادات شديدة لعقلية حزب الشعب الانقلابية ووعدوا بالرد على أي محاولة مشابهة كما فعلوا في 15 يوليو/تموز 2016 وأكثر، في حال قيام المعارضة بأي خطوة باتجاه الانقلاب على الحكومة المنتخبة.
من المرجح أن تستغل أي أزمة اقتصادية بسبب تداعيات الإغلاق الذي سببه انتشار وباء كورونا لتحريك وتأليب المواطنين ضد الحكومة والحزب الحاكم
وقال رئيس دائرة الاتصال في رئاسة الجمهورية، فخر الدين ألطون: “الذين لا يستطيعون استيعاب نجاح النظام الرئاسي الذين لا يعرفون حدودهم، المتطاولون على مشروعية الحكومة والرئيس المنتخب من الشعب ويلحون بالعصا، عليهم أن يعلموا جيدًا أن رجب طيب أردوغان ورفاقه لا يخضعون لأي تهديدات”.
قال ماهر أونال مساعد رئيس حزب العدالة والتنمية: “سوف نواصل نضالنا حتى نعلمكم (حزب الشعب الجمهوري) احترام إرادة الأمة والانتخابات، سوف نناضل بصبر ودون تجاوز الأطر الديمقراطية ودون أن نقع في فخ المؤامرة، سوف نناضل حتى تفهموا أن هذا البلد ليس ملكًا لآبائكم”، كما انتقد دولت بهتشلي رئيس حزب الحركة القومية الحليف لحزب العدالة هذه التصريحات بشدة واعتبر أن هذه دعوة للفتنة والحرب الأهلية، وحذر بهتشلي أي شخص يفكر بالانقلاب أن يفكر بالثمن الذي سيدفعه أيضًا.
ومع كل ما سبق لا توجد مؤشرات واضحة على حدوث انقلاب، مع أن الكثير من الانقلابات ليست أمرًا سهل التوقع، ومع ذلك فإن المعارضة ترى في العام 2023 عامًا بعيدًا للتنافس على الحكم، ومن المرجح أن تستغل أي أزمة اقتصادية بسبب تداعيات الإغلاق الذي سببه انتشار وباء كورونا لتحريك وتأليب المواطنين ضد الحكومة والحزب الحاكم، وفي هذا السياق فقد ذكرت بعض المصادر مع بداية أزمة كورونا أن الحكومة كانت متوجسة من فكرة الإغلاق الكامل للبلد خشية من فكرة الانقلابات.
من جهة أخرى صدر عن هؤلاء الأشخاص الذين يوصفون بالصقور داخل حزب الشعب الجمهوري تحديدًا تحريضات استعراضية سابقة لكن أول مرة تأتي هذه التصريحات بهذا الوضوح، كما أنها تزامنت مع تحريضات من شخصيات من جماعة غولن مقيمة بالولايات المتحدة، فضلًا عن أنها جاءت في ظل أزمة تواجهها البلاد.
من الواضح أن هذا التحرك من قيادات حزب الشعب في هذه المرحلة التي تواجه فيها البلاد الوباء مع إبداء المعارضة وبلدياتها لأداء ضعيف جدًا مقارنة بأداء الحكومة يثير علامات الاستفهام عن دافع هذا السلوك هل هو للتغطية على الفشل أم أنه مرتبط بعقلية انقلابية؟
تشير الاستطلاعات التي أجريت في شهر مارس 2020 إلى ارتفاع جيد بنسبة 3% في شعبية الرئيس أردوغان خلال الفترة الماضية زيادة عن نسبته في آخر انتخابات، وربما ازدادت هذه الشعبية خلال أبريل ومايو مع قرب تجاوز البلد للوباء وتبشير أردوغان بإجراءات تخفيف الإغلاق والعودة للحياة الطبيعية، ولعل الأهم أن هناك زيادة في نسبة تأييد أردوغان لدى ناخبي حزب الشعب الجمهوري.
كسبت الحكومة التركية من خلال جهودها في إدارة الأزمة ومن تهور المعارضة واستنادها لخطاب انقلابي متناقض مع الديمقراطية بدلًا من التكاتف في وقت الأزمة
وفي هذا الإطار تم تفسير التصريحات التي أومأت بقدوم انقلاب على الحكومة على أنها ليست إلا جنونًا من قسم من قيادات حزب الشعب الجمهوري من نجاح حكومة حزب العدالة والتنمية في إدارة أزمة كورونا وزيادة شعبيتها لدى المواطنين عمومًا والمدن الكردية خصوصًا.
وكانت توصيات هؤلاء الكتاب هي عدم الانجرار إلى الرد على هذه التصريحات والاستمرار في إدارة الأزمة حتى تجاوزها بشكل تام، وقال محمد بارلاص في صحيفة صباح “أعتقد أن الأمر الخاطئ في كل هذه التطورات الحاليّة هو أخذ التصريحات الصادرة عن الأعضاء البارزين في حزب الشعب الجمهوري على محمل الجد، وإيلاء الاهتمام بها، وأضاف بيد أن حزب الشعب الجمهوري هو بديل للحكومة بالقول فقط، “لا يوجد أي مؤشر على أن الحزب قد يتمكن من الوصول لسدة الحكم في انتخابات ما”، ولعل عبارته الأخيرة هذه التي تجعل البعض من حزب الشعب الجمهوري يرى في الانقلاب السبيل الوحيد.
ومع ذلك رأى آخرون أن هؤلاء لا يمثلون قسمًا في الحزب بل هي سياسة تبادل أدوار داخل الحزب وأنه يجب أخذ هذه التصريحات على محمل الجد، كما أن رئيس الحزب كمال كليجدار أوغلو مشارك فيها وقد سبق له أن صرح في فبراير 2020، أن حزبه سيتولى السلطة في البلاد قريبًا جدًا، وعلى أنصاره الاستعداد لذلك، وذلك وفقًا لما نقلته صحيفة “جمهورييت”، مشيرًا إلى أن هناك متابعة وثيقة من أوروبا والعالم لحزبه في مجال الديمقراطية الاجتماعية، ويجب على الحزب أن ينتج مفاهيم جديدة في هذا الصدد.
ومع هذه الزوبعة لم يتأخر رد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي وبخ أصحاب العقلية الانقلابية توبيخًا شديدًا، حيث قال “في كل نجاحاتنا المعارضة اختارت التفرق على الوحدة، وأنهم أصحاب عقلية مظلمة فاشية مليئة بالحقد دائما ضد الديمقراطية وضد الصناديق تتشبث بالانقلاب وتستند إلى الانقلابين، وأنهم رغم درس 15 تموز ما زالوا يصرون على نفس الشيء ولذلك لن تفلح هذه العقلية، فالذي يقوم على الكذب والافتراء والانقلاب لا يمكن أن يكون سياسيًا”.
ولم يكتف أردوغان بهذا بل قال لهم “أنتم لستم وطنيين ولا تحترمون إرادة شعبكم ولن نسمح لهذه النماذج السيئة والعقلية الملوثة أن تستمر، لم تقدموا يومًا فائدة للشعب، في الزلزال كنتم تعملون على المبالغة في عدد الضحايا وعندما تعرض الاقتصاد للضربات مارستم الانتهازية السياسية، ودعمتم الديكتاتوريين والإرهابيين، وعندما حدث الانقلاب صفقتم للانقلابيين على الشرفات بينما كان الشعب يحمل الأعلام ويصدح بالتكبيرات أمام الدبابات، وعندما حل الوباء نظرت كل الدول لنا بتقدير وأنتم استخدمتم أرقام الحالات والوفيات كذبًا للتشويه والافتراء، في كل خير لأمتنا لم تكونوا موجودين ولم تقولوا كلمة حق واحدة بل استخدمتم ألسنتكم المسمومة في كل المحطات، أقول إن هذه العقلية وصلت إلى نهايتها، وكما نرى كيف يتغلب الناس على الفيروس سيتغلبون على هذه العقلية”.
وبعد ردة الفعل الشعبية والرسمية على هذه التصريحات وتوبيخ قائليها أعاد أوزجور أوزال ما قاله على تويتر وتساءل: “يقولون إنني دعوت لانقلاب أين الدعوة للانقلاب في كلامي؟”، لكن ذلك لم ينفي وجود العقلية والرغبة الانقلابية.
كسبت الحكومة التركية من خلال جهودها في إدارة الأزمة ومن تهور المعارضة واستنادها لخطاب انقلابي متناقض مع الديمقراطية بدلًا من التكاتف في وقت الأزمة، ومع صعوبة أن يتكرر الانقلاب في تركيا لانشغال الدول كافة بالجائحة وتبعاتها محليًا، ولأخذ الحكومة الدروس من انقلاب 2016، فربما يجدر بالإنقلابيين ألا يرفعوا سقف توقعاتها وآمالهم.