نهاية مارس/آذار 2019، كانت معظم المنطقة الغربية وأجزاء كبيرة من الجنوب الليبي، تحت سيطرة القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني التي يقودها فائز السراج، وكانت السيطرة شبه مطلقة، فكل المجموعات المسلحة في تلك المناطق حتى إن كانت تختلف فيما بينها إلا أنها أعلنت الولاء للحكومة الشرعية.
في تلك الفترة، كانت الفصائل المسلحة في الغرب تأتمر بأوامر الوفاق، لكن مع نهاية شهر أبريل/نيسان وبداية شهر مايو/أيار، بدأت المدن والبلدات الغربية تتساقط الواحدة تلوى الأخرى في يد اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
الاكتفاء بالدفاع
مباشرة إثر إعلان حفتر في الـ4 من أبريل/نيسان 2019، بدء ساعة الصفر لاحتلال طرابلس التي توجد فيها حكومة الوفاق الوطني المدعومة دوليًا، فضلًا عن سفارات وبعثات الدول الأجنبية وهيئة الأمم المتحدة، أعلنت العديد من المدن ولاءها له وتسليمه مفاتيحها دون أي قتال.
بداية شهر يناير/كانون الثاني الماضي، بدأت المعادلة تتغير شيئًا فشيئًا حيث تمكنت قوات الوفاق من إسقاط طائرة “ميغ 23” تابعة لحفتر
أمام تمرد بعض المجموعات المسلحة وإعلان ولائها لحفتر، اختار فائز السراج إستراتيجية الدفاع عن العاصمة حتى لا يخسرها هي الأخرى ويخسر كامل البلاد، فطرابلس كانت العقبة الأخيرة أمام حفتر لإحكام السيطرة على ليبيا وتنفيذ أجندة حلفائه العرب والغرب المشبوهة.
كانت موازين القوى لصالح حفتر، فالسلاح الجوي عنده متقد بفضل الدعم المصري والإماراتي والفرنسي أيضًا، حيث تمكن من السيطرة على سماء المعركة وقصف قوات الوفاق والأحياء السكنية في طرابلس حتى يجبر السكان على التمرد والخروج إلى الشوارع للضغط على الوفاق.
كانت خطة حفتر في بداية عمليته العسكرية، السيطرة على طرابلس في ظرف يومين، صحيح أنه فشل في ذلك لكنه فرض على قوات الوفاق أن ترضى بالحصار داخل مواقعها وفي مرات كثيرة التراجع إلى المواقع الخلفية للدفاع عن طرابلس.
هذا لا يعني أن قوات الوفاق اكتفت بالدفاع فقط، فقد حاولت في مرات كثيرة ضرب مواقع عسكرية حساسة لحفتر، حيث تمكنت في يونيو/حزيران من قصف مركز غرفة العمليات الرئيسية في مدينة غريان (100 كيلومتر جنوب طرابلس) مما ساهم في سقوط عاصمة الجبل الغربي في أيديهم.
كما قصفت أيضًا قاعدة الجفرة الجوية التي تعد أحد مراكز القيادة والتحكم والتحشيد والإمداد لقوات حفتر، في محاولة منها لمقارعة سلاح حفتر الجوي، لكن حفتر رد بقوة واستهدف طيرانه لأول مرة مطار مصراتة وكليتها الجوية، وأيضًا مطار معيتيقة في طرابلس، بهدف إخراج طيران الوفاق من سماء المعركة.
كان لحفتر ما أراد، فقد تسيد سماء المعركة واختفت طائرات الوفاق من المجال الجوي لليبيا، خاصة مع تنامي الدعم الأجنبي له خاصة من مصر والإمارات، ودخول مرتزقة فاغنر الروسية ميدان المعركة، فقد شكل ذلك دعمًا كبيرًا له لما يمتلكونه من خبرة في التحكم بالطائرات المسيرة ومنظومات الدفاع الجوي، بالإضافة إلى التدريب وصيانة الطائرات.
كما لا ننسى دور المرتزقة الأفارقة خاصة السودانيين والتشاديين الذين كان لهم دور كبير في عملية حفتر العسكر وتمكنه من التقدم في العديد من المناطق، نظرًا لتمرسهم في القتال ودفاعهم المستميت عن من يدفع لهم أكثر.
استمر هذا الأمر أكثر من 8 أشهر، كان فيهم حفتر المبادر بالهجوم، وقوات الوفاق الوطني مكتفية بالدفاع عن العاصمة، بعد أن سقطت معظم مدن الغرب في يد حفتر الذي لا يعترف بالشرعية الدولية، وتتهم قواته بارتكاب جرائم حرب.
التحول إلى الهجوم
بداية شهر يناير/كانون الثاني الماضي، بدأت المعادلة تتغير شيئًا فشيئًا، حيث تمكنت قوات الوفاق من إسقاط طائرة “ميغ 23” تابعة لحفتر، وتمكنت من أسر طيارها عامر الجقم، الأمر الذي اعتبر ضربة كبيرة لقوات حفتر وسلاحه الجوي الذي بدأ في التهاوي.
بعد هذه الضربة، انتقلت قوات الوفاق من الدفاع إلى الهجوم، حيث تمكنت من استهداف خطوط الإمداد الطويلة لحفتر، وضرب قواعده العسكرية كما حصل في سرت والجفرة والوطية وإسقاط طائراته المسيرة خاصة الإماراتية منها.
بدأت الوفاق تحقق الانتصار تلو الآخر على حساب ميليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر والمرتزقة التابعين له، انتصارات مهمة استعادت من خلالها السيطرة على مدن عدة غرب العاصمة طرابلس، ليصبح الطريق مفتوحًا أمامها على امتداد الساحل الغربي إلى غاية زوارة الحدودية مع تونس.
سيطرت الوفاق على مدن العجيلات والجميل ورقدالين وزلطن غربي طرابلس، الواقعة بين الشريط الساحلي وجبل نفوسة (الجبل الغربي)، كما تمكنت من استرداد مدينتي صبراتة وصرمان من القوات الموالية لخليفة حفتر كجزء من عملية عسكرية أطلقت عليها قوات الوفاق “عاصفة السلام”.
تحول قوات حكومة الوفاق الوطني الشرعية من الدفاع إلى الهجوم، من شأنه إجبار حفتر وحلفائه على قبول الحل السلمي حتى يضمنوا لأنفسهم مكانًا في ليبيا المستقبل
حرمت قوات الوفاق، ميليشيات حفتر من المدن الإستراتيجية التي كان يستعملها كرأس حربة للهجوم على طرابلس مطلع أبريل/نيسان من العام الماضي، ما أضعف قواته المتمركزة في تخوم طرابلس.
انتصارات الوفاق لن تتوقف هنا، فقد بدأت أمس الثلاثاء عملية عسكرية للسيطرة على قاعدة الوطية جنوب غرب طرابلس، التي تعد آخر موقع عسكري كبير للواء المتقاعد خليفة حفتر غربي ليبيا، سعيًا لانتزاعها من مسلحين موالين للواء المتقاعد خليفة حفتر.
بالتزامن مع ذلك، تسعى قوات حكومة الوفاق الشرعية لاستعادة مدينة ترهونة (80 كيلومترًا جنوب شرق طرابلس) ذات الأهمية الإستراتيجية الكبيرة لقوات خليفة حفتر، وقد تمكنت من السيطرة على مناطق قريبة منها.
الأسلحة التركية
تحول إستراتيجية الوفاق من الدفاع والقبول بالحصار إلى الهجوم واستعادة المدن الواحدة تلوى الأخرى، يرجع بدرجة أولى إلى الاتفاقية الأمنية والعسكرية التي وقعتها الحكومة الليبية الشرعية مع السلطات التركية نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
نتيجة هذه الاتفاقيات النوعية، أرسلت تركيا خبراء ومدرعات وطائرات مسيرة من نوع “بيرقدار TB2″ (Bayraktar TB2) و”E-7T” وأنظمة تشويش من نوع كورال “KORAL” لمعاضدة جهود قوات حكومة الوفاق في التصدي لهجمات ميليشيات حفتر.
بهذه الأسلحة التركية، تمكنت حكومة الوفاق الوطني من تغيير إستراتيجيتها وقلب المعادلة والتغلب على قوات خليفة حفتر المناهض للشرعية والاقتراب من حسم المعركة لصالحها، ذلك أنه من يملك سماء المعركة يملك الميدان أيضًا، وبفضل هذه الأسلحة استطاعت قوات الوفاق إسقاط الطائرات المسيرة التابعة لحفتر التي كان يتباهى بها، وبفضلها أيضًا تم قطع الإمدادات عن ميليشيات اللواء المتقاعد والمرتزقة العاملين تحت إمرته، كما مكنت هذه الأسلحة النوعية حكومة الوفاق من التقدم نحو أهدافها بأريحية أكبر.
تراجع شعبية حفتر
التحول من الدفاع إلى الهجوم، لم يكن نتيجة دخول الأسلحة التركية النوعية أرض المعركة فقط، بل نتج أيضًا عن تراجع شعبية اللواء المتقاعد خليفة حفتر في الغرب الليبي وحتى بين قبائل الشرق والجنوب التي تدعمه منذ فترة، بسبب الفوضى والخراب الذي خلفته قواته في كل مدينة دخلتها، فقد نكلت بالناس العزل دون تمييز وعذبت كل من سولت له نفسه معارضتها أو حتى مجرد التفكير في معارضتها.
كما ساهم ارتفاع عدد القتلى في صفوف أبناء القبائل في تراجع شعبية حفتر عند أغلب القبائل الليبية التي فرضت عليها هذه الحرب فرضًا، بعد أن كانوا يأملون في استقرار الأوضاع بعد سقوط نظام معمر القذافي، فقد كانت هذه القبائل تأمل في تواصل الامتيازات التي كانت تحصل عليها، دون أن تتكبد خسائر بشرية من أبنائها، لكن حفتر فرض عليهم الحرب ضد أبناء بلادهم وزين لهم قدرته على الفوز بسرعة والتمكن من حكم البلاد، لكن ذلك لم يحصل ما جعل شعبيته تكاد تنهار لولا إغراءات المال.
تحول قوات حكومة الوفاق الوطني الشرعية من الدفاع إلى الهجوم، من شأنه إجبار حفتر وحلفائه على قبول الحل السلمي حتى يضمنوا لأنفسهم مكانًا في ليبيا المستقبل، بعد تيقنهم أن الحل العسكري لن يجدي نفعًا.