واحدة من حسنات داعش القليلة أن اندفاعتها السريعة في شمال العراق أدت إلى إطاحة رئيس الحكومة العراقية الكريه نوري المالكي. والحق، أن إطاحة المالكي، الذي وصل به الغرور والثقة بالنفس أن تصور أنه سيحكم العراق إلى القبر، تمت بصورة مهينة؛ لابد أن تعتبر درساً لكل الطغاة من بعده. في لحظة واحدة، وجد المالكي نفسه مطروداً من رحمة مراجع النجف، الذين حاول طويلاً أن يجعل منهم مرجعية للعراق كله، من الحلفاء الأمريكيين، الذين جاءوا به إلى المنصب من قبل، ومن إيران، التي ألقى إليها بمعظم أوراق العراق الداخلية والإقليمية. وبالرغم من أنه، بقصر نظر ليس غريباً عليه، حاول لعدة أيام أن يقاوم هؤلاء جميعاً، وأن يستدعي الشرعيات الانتخابية والدستورية، التي سبق له الاستهتار بها أو الالتفاف عليها، إلا أنه سرعان ما أفاق إلى أن ليس الحلفاء الدوليين والإقليميين وحسب، ولكن حتى أعضاء قائمته الانتخابية، قد قلبوا له ظهر المجن. والواضح، على أية حال، أن رئيس الحكومة المقبل، حيدر العبادي، وصل إلى الحكم، كما المالكي من قبله، ليس بأصوات العراقيين وإرادتهم، ولكن بتوافق إقليمي ودولي، يقع التفاهم الأمريكي – الإيراني في القلب منه. ولكن هذه ليست السمة الوحيدة لرئاسة العبادي.
ينحدر رئيس الحكومة الجديد من ذات الخلفية التي انحدر منها رئيس الحكومة السابق، ورئيس الحكومة الذي سبقه. مثل المالكي والجعفري، تكونت رؤية العبادي للعراق من خلال ثقافة حزب الدعوة؛ ومثلهما، أصبح أكثر طائفية خلال السنوات التي تلت فشل انتفاضة 1991 ضد حكم صدام حسين. ومنذ تولى المالكي الحكم، كان العبادي، بصورة أو أخرى، وثيق الصلة برئيس الحكومة؛ كما أنه انتخب لعضوية البرلمان على قائمة المالكي: دولة القانون. لم يعرف عن العبادي، حتى ذلك اليوم القريب الذي تداول فيه الإيرانيون والأمريكيون اسمه، وسعوا إلى تقديمه للسعودية ودول الخليج وحلفاء واشنطن الأوروبيين، معارضة أي من سياسات المالكي، بما في ذلك تلك التي جرت على العراق وشعبه كوارث تفاقم الانقسام وتصاعد العنف. وكما المالكي والجعفري، حافظ العبادي، طوال السنوات من احتلال العراق وعودته من منفاه البريطاني، عل علاقات وثيقة بإيران ومسؤوليها، وإن لم ينظر إليه من قبل في طهران باعتباره أحد رجال الصف الأول. ولا يقل أهمية في صعود العبادي المفاجىء، أنه يصل لموقعه عبر بوابة المحاصصة الطائفية، التي أقيمت على أساسها دولة ما بعد الغزو والاحتلال؛ ليس فقط لأن القوى السياسية الشيعية أصرت على أن يكون خليفة المالكي شيعياً، ولكن أيضاً لأن معظم الفترة بين تسمية العبادي والإعلان عن تشكيل حكومته استهلك في توزيع مقاعد الوزارة بين الطوائف والجماعات الإثنية.
كانت هذه أيضاً هي الشروط التي جاءت بالمالكي لرئاسة الحكومة قبل ثماني سنوات، ودفعت به، أو وفرت له الظروف التي ساعدت على أن يصبح طاغية، يطبق سياسات تمييزية، ويسعى لإقرار هيمنة طائفية، من جهة، وهيمنته الشخصية والمجموعة الملتفة حوله، من جهة أخرى، على مقدرات البلاد وقرار الدولة. في ظل هذه السياسات، انفجرت العلاقة بين بغداد وحكومة إقليم كردستان، وتداعت الأزمة بين محافظات الأغلبية السنية ونظام المالكي إلى الصدام المسلح، الذي لم يزل مستمراً، وفتح المجال لتوسع داعش وسيطرتها على معظم شمال العراق العربي. وتحت هذه الشروط، ليس من المستبعد أن ينتهي العبادي إلى ما انتهى إليه المالكي، وإن بات يحكم عراقاً تقلص كثيراً عن العراق الذي تسلم مقاليده المالكي في 2006. إن كان للعراق أن ينقذ من الهوة التي دفع إليها بفضل سياسات المالكي وتحالفاته، فعلى العبادي والقوى السياسية العراقية التي تقف خلفه أن ترى الشروط التي جاءت به للحكم وأن تعمل على إصلاح شامل لبنية الدولة العراقية ومراجعة جذرية لسياسات الحكومة المركزية.
ما يجب على العبادي وحكومته، أولاً، أن يستجيب لمطالب الحراك الشعبي، التي أعلنت في مطلع العام الماضي، ومثلت الحد الأدنى مما كان يجب القيام به لوضع نهاية لسياسات التمييز الطائفية، ورفض المالكي الاستجابة لها. والاستجابة لكل هذه المطالب، بما في ذلك الإفراج عن النساء، والمعتقلين بدون أحكام، وإصلاح أوضاع جهاز الشرطة، ووقف تدخلات الجيش في الحياة المدنية للمحافظات ذات الأغلبية السنية ..إلخ. استجابة العبادي السريعة لمطالب الحراك الشعبي، ستؤكد حسن نية الحكم الجديد، وتفتح الباب لإعادة بناء العلاقة بين الحكومة المركزية وقطاع واسع من الشعب العراقي. يخطىء العبادي والقوى السياسية الشيعية إن تصوروا أن الشراكة مع القوى والقوائم السياسية السنية في تشكيل الحكومة يعتبر كافياً لصناعة الاستقرار وصناعة انطباع وطني حول الحكومة الجديدة. الحقيقة، أن أغلبية الشارع العراقي السني فقدت الثقة في السياسيين السنة؛ وهو ما انعكس على الانخفاض الفادح في نسبة من أدلى منهم بصوته في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وليس السنة وحسب، بل أن أغلبية الشعب العراقي تنظر الآن إلى الطبقة السياسية باعتبارها مجموعة حاكمة، مغلقة، تتمتع بجملة امتيازات قانونية وغير قانونية، ولا تحرص إلا على تقاسم المغانم ومواقع القوة والقرار.
بيد أن هذه مجرد خطوة أولى، ينبغي أن تتبعها جملة خطوات، تتصل بالسياسات وبنية الدولة ونظام الحكم، على السواء. كان القانون، خلال العقد الماضي، أحد الأدوات التي استخدمت للإطاحة بالمعارضين وتعزيز البنية الطائفية للنظام. استخدم قانون اجتثاث البعث، على سبيل المثال، للإطاحة بآلاف الأكاديميين والضباط والدبلوماسيين وموظفي الخدمة المدنية والقضاة من السنة العرب. كما استخدمت قوانين مكافحة الإرهاب لملاحقة السياسيين المعارضين، بما في ذلك رجال الدولة وشركاء العملية السياسية، مثل طارق الهاشمي، أو تهديدهم وابتزازهم. كما سيطر نظام المالكي بصورة مفضوحة على الجهاز القضائي، بما في ذلك أعلى محاكم البلاد. ولم تسمح هذه السيطرة لخدمة سياسات تمييزية وحزبية وحسب، ولكن أيضاً لحماية شبكة فساد ونهب وتحكم في مقدرات الدولة والبلاد، بحيث لم تزل الأغلبية من العراقيين العرب، شيعة وسنة، تعيش ظروف حياة لا يمكن أن تقارن بحجم موارد البلاد الهائلة. ولكن الأهم من ذلك كله، وما يتطلب بناء رأي عام عراقي لتحقيقه، أن العراق لا يمكن له أن يستقر ويتقدم ببدون إعادة بناء الدولة على أساس من المواطنة والنظام الديمقراطي.
ليس ثمة ما يشير إلى وجود نظام محاصصة طائفي – إثني في الدستور العراقي الحالي. ولكن الدولة العراقية الجديدة بنيت من اللحظة الأولى، أو منذ تشكيل مجلس الحكم، على استبطان المحاصصة، وعلى فرضيات أغلبية طائفية وإثنية. وهكذا، وبالرغم من إحجام الحكومات السابقة عن إجراء تعداد سكاني، فقد وزعت الحصص البرلمانية على أساس من فرضيات الأغلبية والأقلية، وشكلت الحكومات، وقوات الجيش، وبيروقراطية الدولة، والجهاز القضائي، على الأساس نفسه. بدون التخلص من نظام المحاصصة، إجراء تعداد سكاني شفاف، وتعديل دستوري واسع، لا يمكن للعراق أن يستقر. والحقيقة، أن دولة في المشرق العربي – الإسلامي لم تعرف مثل هذا النكوص عن دولة المواطنة إلى دولة المحاصصة، بعد أكثر من تسعين عاماً على ولادتها، كما حصل في العراق. وكما أن نظام الانقسام والمحاصصة دفع لبنان إلى سلسلة من الحروب الأهلية، والمستمرة إلى الآن، فمن الواضح أن نظاماً شبيهاً لن يأتي إلا بنتائج مشابهة في العراق. بيد أن من الضروري ملاحظة الدور الذي تلعبه القوى السياسية، التي شكلت في أغلبها بأفق طائفي، في تكريس نظام الانقسام والمحاصصة. ومن الواضح أن بناء نظام جديد، لن يصبح ممكناً بدون أن يعاد بناء القوى السياسية على أسس وطنية.
ما عمل على إطاحة المالكي وأفسح مجالاً لتشكيل حكومة جديدة، بأفق ورئيس جديدين، كان بالطبع الأزمة الهائلة التي أخذ العراق يواجهها منذ اندلاع القتال في الأنبار، انسحاب الأكراد من الحكومة المركزية، وسيطرة داعش السريعة على الشمال. لمواجهة الأزمة، لن يكفي تشكيل حكومة إئتلاف وطني، بل لابد من حشد القطاع الأكبر من الشعب، سيما في محافظات الأغلبية السنية، خلف الحكومة الجديدة. ولكن أحد أبرز الأسئلة التي ينبغي على العبادي وحكومته مواجهتها ما إن كان مقنعاً دعوة العرب السنة للمشاركة في مواجهة الأزمة ومكافحة الإرهاب، بينما تحتضن الحكومة، وتشجع، جماعات إرهابية شيعية؟