يتجدد النقاش في تونس كل رمضان بشأن الأعمال الدرامية وقيمتها الفنية، فبعد فترة الـ80 والـ90 التي وُصفت بالذهبية من حيث الإبداع على مستوى السيناريو والإخراج وكذلك التمثيل وتجلت في أعمال كـ(منامة عروسية، قمرة سيدي محروس، الدوار) ما زالت عالقة في ذهن التونسي ويعمل التليفزيون الرسمي على إعادة بثها كلما شحت برامجه، دخلت الدراما التونسية في طور جديد بمسلسلات لا تمثل هوية التونسي ولا تُحاكي همومه، بل اتهم صانعوها بضرب النسيج الاجتماعي من خلال تقليد الأجانب والتركيز المفرط على العنف والخيانة ومظاهر الانحلال والتفسخ، ومن بين تلك الأعمال “أولاد مفيدة”.
في رمضان الحاليّ، وُجهت سهام النقد إلى مسلسل “قلب الذيب”، وهو عمل درامي تاريخي يتعرض إلى فترة المقاومة التونسية للمستعمر الفرنسي، نظرًا للأخطاء الفنية والتقنية المتمثلة في الديكور والملابس، والأشد من ذلك ما اعتبره مختصون ومؤرخون أخطاءً تاريخيةً كبيرةً أساءت لرموز الحركة الوطنية، كما تصاعدت الدعوات على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” من أجل إيقاف بثه بدعوى الاعتداء على الذاكرة واستهداف الشعور بالانتماء إلى تونس وتشويه رموز المقاومة “الفلاقة”.
تونسيون يطالبون بوقف عرض مسلسل “#قلب_الذيب“.. والسبب ?https://t.co/zrYClOBSyn
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) May 3, 2020
وكان المسلسل قد أثار جدلًا حتى قبل عرضه، وذلك بعدما اشترته إدارة التليفزيون التونسي (الوطنية الأولى) بمبلغ يقدر بمليون و600 ألف دينار تونسي (550 ألف دولار تقريبًا) بعد خلاف مع قناة “الحوار التونسي” بشأن حقوق البث وتدخل القضاء لفض النزاع.
في تدوينة على موقع فيسبوك تساءل الصحافي التونسي مكي هلال عن الإضافة الدرامية التي قد تحصل وما الضرورة والإكراهات في تصوير زعيم مناضلي الحركة الوطنية كفتوة وسوكارجي (مخمور) أقرب إلى علي شورب منه إلى أي قيادي وطني؟ متابعًا: “أي رسائل نبعث بها للناشئة ومن لا يقرأون كتب التاريخ اليوم عن زعمائنا ومن ناضلوا لنيل الاستقلال؟”.
وفي السياق ذاته، قارن الناشط بولبابة سالم بين “قلب الذيب” التونسي و”قيامة أرطغرل” التركي، مشدّدًا على أن الأخير كان له تأثير على عدة مستويات ومنها تشجيع النشء على البحث في تاريخ بلادهم ومن ثم الاعتزاز بالانتساب للجيل المؤسس، إضافة إلى المداخيل التي حققها من نسب المشاهدة، خاصة أنّه تُرجم إلى 39 لغة أجنبية، فيما وُئدت كل المحاولات الجادة في إنجاز عمل ضخم عن حنبعل بعد مبادرة من المخرج الراحل شوقي الماجري قُوبلت بلامبالاة المسؤولين.
أخطاء فنية وتقنية
في حديثه لـ”نون بوست” عن مسلسل “قلب الذيب” عدّد الصحافي التونسي نزار الغريدقي بعض الأخطاء الفادحة التي صبغت الأحداث التي عرضها العمل الفني، مشيرًا إلى أن المسلسل، بدأ بمشد يضع الأحداث في إطارها التاريخي، الإيالة التونسية خلال سنة 1948، يليه مشهد يقدم الإطار المكاني الأبرز للأحداث ”La Dorsale tunisienne” أي الظهير التونسي (جبال الوسط الغربي)، ومع المشهد الثاني أي منذ اللحظات الأولى تبرز الأخطاء، مع تصوير شاحنة عسكرية فرنسية تسير في طريق أسفلتي حديث تحذوه قناة لتصريف مياه الأمطار مشيدة بطريقة عصرية.
وبحسب الغريدقي، فإن الأحداث (منذ الحلقة الأولى) تبدأ في الظهير التونسي بافتكاك معمّر فرنسي مسنودًا بقوة عسكرية استعمارية لأرض فلاح تونسي (سنة 1948)، وهذا يعدّ خطأ تاريخيًا فادحًا يعصف بالأحداث التي تأتي بعد ذلك، لأن افتكاك أراضي التونسيين من السلطات الاستعمارية ومنحها للمعمرين الفرنسيين، بدأت مع القانون العقاري لسنة 1885 (5 من يوليو) ومع عشرينيات القرن الماضي انتهت عمليات الافتكاك تمامًا.
وعلى مستوى المضمون، يختزل المسلسل الأحداث (التي تهم الفلاقة) في إرادة الانتقام، وليس في إرادة التحرير، بمعنى أن البطل المدعو ”الحبيب” انضم للمقاومين في الجبال كرد فعل لافتكاك أرضه ومقتل والده من المعمر ”المغتصب” لأرضه، لغاية الانتقام وليس لمقاومة الاستعمار، بعيدًا عن الدوافع الذاتية الفردية، كما يصور بداية المقاومة المسلحة في 1948، في حين أنها انطلقت في 18 من يناير/كانون الثاني 1952 أي بعد 4 سنوات، إثر الفشل في التوصل إلى تسوية بين قيادة الحركة الوطنية التونسية والحكومة الفرنسية وهذا ما يضع كاتب سيناريو العمل ومخرجه في موقف محرج.
ومن بين الأخطاء الأخرى:
- يعرض قدوم أسلحة المقاومين من الجزائر في حين أن ذلك لم يحدث مطلقًا في تلك الفترة، بل إن أغلب الأسلحة التي دخلت الجزائر من المشرق خلال حرب التحرير التي انطلقت سنة 1954 دخلت عبر تونس.
- تصوير وفاة المنصف باي في منفاه في فصل الشتاء، في حين أن الأخير توفي في أواخر فصل الصيف (1 من سبتمبر 1948).
- المفردات التي تم استعمالها في المسلسل لا تمت لواقع تلك الفترة بأي صلة وبعضها مستحدثة مؤخرًا، علاوة على اللباس العصري في الكثير من المشاهد.
- أغلب الصور إن لم نقل كلها للمقاومين التونسيين في الجبال زمن الاستعمار، تظهرهم حليقي اللحى، في حين أن المسلسل يظهرهم عكس ذلك.
- ربط أغلب تحركات مناضلي الحزب في تونس بـ”الكافيشانطا” (قاعات الحفلات الفنية) مع شبه تغييب للحركة الفكرية والأدبية والسياسية التي عرفتها تونس في تلك الفترة.
بدوره، أوضح الصحافي المختص في الثقافة محمد أمين بن هلال في تصريح لـ”نون بوست”، أنّه من اليسير الوقوف على عدة حقائق بعد مشاهدة الحلقات الأولى ومن أهمها استسهال العمل الفني والتسرع في الإنجاز دون المرور بقواعد بسيطة أهمها المراجعة التاريخية للأحداث وكذلك التدقيق اللغوي ومراجعة المصطلحات المستعملة في تلك الحقبة وفي تلكم الجهات، مضيفًا: “من ناحية المحتوى أيضًا هناك بطء في الأحداث وتمطيط لبعض المشاهد وهو راجع ربما لضعف السيناريو وقصر القصة، فضلًا عن الكاستينغ الذي تداخل فيه الموضوعي بالذاتي في اختيار الممثلين، هناك ممثلون أتوا للمسلسل باعتبار صداقتهم في رأيي لا اعتبارًا لكفاءتهم أو جودة الأداء”.
الهايكا
الهايكا دخلت على الخط ودعت التلفزة التونسية إلى إعادة قراءة كل المشاهد التي من شأنها تشويه صورة الحركة الوطنية التونسية وسحب المشاهد التي تتضمن عنفًا شديدًا من حلقات المسلسل التي تم نشرها على موقعها الإلكتروني وصفحاتها على فيسبوك، كما دعت إلى الالتزام بما ورد في بنود عقد الأهداف والوسائل بما في ذلك تفعيل آليات التعديل الذاتي والاعتماد مستقبلًا على مقاربة تشاركية في انتقاء الأعمال الدرامية لمزيد من ضمان جودة المضامين المقدمة.
الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري أوضحت أنها تابعت مسلسل “قلب الذيب” الذي تفيد أحداثه أنه يتناول حقبة تاريخية مهمة تتعلق بالحركة الوطنية التونسية والمقاومة المسلحة للاستعمار الفرنسي، وأنّ المسلسل المذكور تخللته لقطات مسيئة للحركة الوطنية والمقاومة المسلحة ضد المستعمر الفرنسي، وقد استفحل ذلك خاصة في الحلقة 10 حيث تم عرض عملية تعذيب لمستوطن فرنسي بينما كانت والدته محتجزة بغرفة مجاورة تستمع لصراخ ابنها، ثم تصاعدت عملية التعذيب إلى حد استئصال عضوه التناسلي وكان ذلك في إطار عملية انتقام لفتاة تونسية اغتصبها سابقًا، معتبرةً أن “من شأن هذه الصورة المستهجنة أن تحول الجلاد إلى ضحية والعكس بالعكس، كما أنها تسيء لصورة المقاومين حيث تم اجتثاثها من إطارها الإنساني لتحل محلها نزعات التشفي والاستهتار بتعذيب الآخرين وهو ما حولهم من سياق نبل مقاومة المحتل إلى ما يشبه سلوك العصابات أو قطاع الطرق”.
الهايكا اعتبرت أن العبارة التي أضيفت في “جينيريك” بداية المسلسل منذ الحلقة الرابعة والمتمثلة في “هذا العمل درامي ولا يمت للواقع بصلة” هي نتاج للإحراج الذي لحق بالتلفزة التونسية، وأشارت إلى أنّ الحركة البطيئة للكاميرا وغياب المؤثرات البصرية والصوتية واستخدام الألبسة المتواضعة والإضاءة العادية واعتماد أسماء شخصيات وطنية، إضافة إلى إصرار كاتب السيناريو منذ البداية على مقاربة حقبة تاريخية محددة، كلها عناصر تفيد أن لا علاقة لهذا العمل بجنس “الفنتازيا الدرامية”، وهو ما يحمّل مؤسسة التلفزة التونسية مسؤولية اختيارها لهذا العمل.
وفي سياقٍ ذي صلة، يؤكد بعض المراقبين أنّ كاتب السيناريو وجب عليه الغوص في محيطه وخصوصيته الثقافية والاجتماعية وكل ما له علاقة بالتاريخ السياسي، لذلك فالكاتب الجيد يستحضر أزمنة وأحداثًا من خلال حكايته الخاصة، وهذا بعيد كل البعد عن التوثيق بل هو عمل إبداعي خالص ولكنه في حال استحضار شخصيات تاريخية محددة أو وقائع فعليه ألا يفترض أحداثًا تُغير مسار التاريخ وتشوّه حيثياته، وهو الأمر الذي سقط فيه صنّاع قلب الذيب بتقديمهم الشخصية المناضلة في صورة سلبية على نحو مبالغ فيه، فالفلاقة في هذا العمل إما سطحيون يفتقرون إلى خلفية سياسية وطبقية واضحة، أو تقليديون لا علاقة قوية لهم بالمشروع الوطني التحرري، إضافة إلى ذلك فإن العمل غيب النخبة المتنورة، من أمثال الأدباء والصحافيين وكذلك بعض السياسيين والشخصيات الوطنية.
نقاط مضيئة
رغم الانتقادات الحادة التي رافقت عرض مسلسل قلب الذيب ووصلت حد اتهام جهة العرض بالفساد بسبب اقتنائها “عمل فني دون المستوى” من المال العام، فإن المسلسل يُحسب له إخراج المشاهد التونسي من الدائرة الضيقة التي تعمل بها الدراما والقصص الاجتماعية المتكررة، إضافة إلى تبيان أن الحكايات الوطنية والوقائع التي طبعت الذاكرة الجماعية يمكن أن نستلهم منها قصصًا ويمكن استنباط أعمال درامية ناجحة.
من جهة ثانية، فإن العمل الفني محور الحديث أسال حبر بعض الأقلام التي خيل لوهلة أنها جفت بفعل المشهد السياسي الضبابي، حيث دفع قلب الذيب المستشار السابق للرئيس المنصف المرزوقي، أستاذ التاريخ المعاصر عدنان منصر إلى نشر تدوينات في شكل مقالات أو حوارات من خلال الفيديو المباشر، أوضح من خلالها بعض الحقائق التاريخية التي تغيب عن عامة الناس.
منصر الذي شارك سابقًا في مؤلف أكاديمي عن تاريخ المقاومة المسلحة في تونس، علق على مسلسل قلب الذيب قائلًا: “لا تستطيع، بداعي أن العمل فني، قلب الأحداث تمامًا، كوضع التأثيرات في عكس اتجاهها التاريخي، عدم اعتبار زمن انطلاق المقاومة المسلحة، ومكان انطلاقها، وظرفية انطلاقها والفاعلين في انطلاقها”.
عميرة علية الصغير، أستاذ التاريخ والمهتم بالحركة الوطنية، لم يتخلف بدوره عن الركب المنادي بضرورة تصحيح مسار التاريخ وتعديل الصورة من خلال مجموعة من التدوينات على صفحته بموقع فيسبوك أسماها “ليس من قلب الذيب”، عرض فيها سيرة لعدد من المقاومين والفلاقة، وحاول من خلال بعض كتاباته تصحيح بعض المعطيات أو المغالطات التي ضُمنت في المسلسل.
بالمحصلة، فإن دراما الفنتازيا التي تُهمل الفكرة لا تكترث إن كانت تشوه الواقع أو تنقل صورة مزيفة عن مراحل تاريخية مهمة، ولن تكترث أيضًا بارتفاع منسوب الجهل والاستهتار بالذاكرة الوطنية، ولكن في مقابل ذلك ينصب جهدها على تحقيق معادلة الربح الأوفر ونسب مشاهدة قياسية، وبالتالي فإنه من البديهي أن لا تصنع الأعمال على شاكلة “قلب الذيب” رأيًا عامًا أو تشكل فكرًا جمعيًا وهي غاية ومراد الأعمال الدرامية ذات المضامين والأبعاد الوطنية.