فورين بوليسي: هذا ما على واشنطن تأكيده لبغداد في الحوار الإستراتيجي المزمع

GettyImages-1173113048

ترجمة وتحرير: نون بوست

في حزيران/ يونيو، من المقرر أن تستأنف كل من الولايات المتحدة والعراق “حوارًا استراتيجيًا” من المفترض أن يعالج جميع القضايا التي تدور حولها علاقتهما الثنائية، بما في ذلك تواجد القوات الأمريكية في العراق. وباعتبار أن العراق في الوقت الراهن هو حلبة الصراع الرئيسية في المواجهة المتصاعدة بين الولايات المتحدة وإيران، فإنه من الصعب أن نتجاهل إمكانية انهيار العلاقات الأمريكية العراقية. هذا أمر جيد، ويتعيّن على إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استثماره من أجل أن تعود الأمور إلى المسار الصحيح. 

حان الوقت لأن تعيد واشنطن تقييم سياستها في العراق. على مدار السنة الماضية، بدأت العلاقة في التأزم بشكل متسارع بشكل يهدد المصالح الأمريكية. قتلت قوات الأمن العراقية بوحشية مئات المدنيين الأبرياء بسبب احتجاجهم السلمي على إخفاقات الحكومة المتكررة. وقد استغلت إيران بشكل منهجي الاقتصاد العراقي للتحايل على العقوبات الأمريكية. والأسوأ من ذلك، شنّت الميليشيات المدعومة من إيران – والتي يخضع بعضها لعقوبات أمريكية، ويستلم معظمها أجورا من الحكومة العراقية – العديد من الهجمات الصاروخية ضد القوات الأمريكية والدبلوماسيين والعاملين في القطاع الخاص، لكن الحكومة العراقية لم تعاقب أحدا على ذلك.

لم يكن الوضع كذلك خلال السنوات الماضية. فمنذ سنة 2003، زودت الولايات المتحدة العراق بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية التي تقدّر قيمتها بمئات الملايين من الدولارات، فضلاً عن الدعم الدبلوماسي. وافترضت الولايات المتحدة أن العراق سيصبح من خلال هذا الدعم شريكا رئيسيا في الحفاظ على الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط. 

وبدلاً من ذلك، تسير الحكومة العراقية اليوم بخطى ثابتة في الاتجاه المعاكس، حيث تستخدم العنف بشكل مروع ضد شعبها، ولا تعبأ بانتهاك إيران – ألدّ أعداء الولايات المتحدة في المنطقة – لأرضها ومؤسساتها واقتصادها.

ويمنح الحوار الاستراتيجي القادم ما يمكن اعتباره فرصة أخيرة لعكس هذا المسار المدمر وإنقاذ الشراكة الأمريكية الممتدة والقابلة للاستمرار مع العراق. لذلك، لا ينبغي إهدار هذه الفرصة.

ينبغي على إدارة ترامب أن تضع استراتيجية جديدة تقوم على فرض شروط صارمة من أجل تقديم الدعم الأمريكي للعراق. يعتبر ذلك خيارا مطروحا وضرورة ملحّة في الآن ذاته. سوف يضع وباء كوفيد-19 وتداعياته الاقتصادية ضغوطًا غير مسبوقة على ميزانية الولايات المتحدة لسنوات قادمة. ومن الآن فصاعدًا، لن يكون هناك تسامح مع برامج المساعدات الأجنبية التي لا تخدم المصالح الأمريكية بوضوح – ناهيك عن البرامج التي يبدو أنها تعزز قوة الأعداء مثل إيران.

 لقد حان الوقت لتتخذ الحكومة العراقية بعض الخيارات الصعبة. ولابد من إدراك هذه الحقيقة بشكل كامل بالنظر إلى ما يمكن أن تخسره الحكومة العراقية في حال لم تخطط على الأقل لإظهار بعض التصميم على مقاومة التوسع الإيراني والتمسك بسيادتها على أرضها.

تسعى إدارة ترامب هذه السنة إلى تقديم مساعدات مالية تقدّر قيمتها بأكثر من 600 مليون دولار لتدريب وتجهيز قوات الأمن العراقية لمواصلة القتال ضد ما تبقى من عناصر تنظيم الدولة. هذا بالإضافة إلى الدعم الذي يقدمه الجيش الأمريكي في عمليات مكافحة الإرهاب، سواء على المستويين اللوجستي والاستخباري، أو العمليات العسكرية الجوية.

في غياب الدعم الأمريكي، فإن الوضع الاقتصادي والأمني المتردّي في العراق سيفضي إلى كارثة

كما تطالب إدارة ترامب بأكثر من 120 مليون دولار من الخزينة الأمريكية لدعم الاقتصاد العراقي وتقديم مساعدات أخرى، بما في ذلك إزالة الألغام الأرضية. بالإضافة إلى ذلك، عملت الولايات المتحدة لفترة طويلة كداعم رئيسي للعراق من أجل الحصول على مساعدات اقتصادية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تُقدّر بمليارات الدولارات. ويحتفظ بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك بوديعة من خاصة بالعراق ويموّل البلاد سنويًا بمليارات الدولارات من فئة 100 دولار للحفاظ على سلامة اقتصادها.

في الحقيقة، لن يجد العراق بديلا لهذه المساعدات، حيث لن تستطيع إيران بكل تأكيد توفيرها. وفي غياب الدعم الأمريكي، فإن الوضع الاقتصادي والأمني المتردّي في العراق سيفضي إلى كارثة. وفي خضم الانهيار الحالي في أسعار النفط (الذي يشكّل 90 بالمئة من عائدات الحكومة العراقية)، فإن آخر ما يريد العراق أن يخسره هو الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري من الولايات المتحدة.

يشكل كل ذلك أوراق ضغط بيد الولايات المتحدة قبل الدخول في مفاوضات يونيو/حزيران، هذا إذا كانت مستعدة لاستخدامها. وقد تكون الورقة الأقوى هي أن تجعل بغداد تدرك أن رضوخها المتنامي للهيمنة الإيرانية قد يجعلها في في مرمى عقوبات أمريكية أشد من السابق. ويمكن لهذه العقوبات أن تنطلق من حظر السفر وتجميد أرصدة كبار القادة السياسيين، وتصل إلى توجيه ضربات ضد قادة الميليشيات الخاضعة للعقوبات الأمريكية. كما يُمكن أن تُطرح على الطاولة إمكانية فرض قيود على تصدير النفط، على غرار العقوبات المفروضة على إيران، لاسيما في ظل ما تعيشه الأسواق العالمية من وفرة في العرض وصلت إلى 20 مليون برميل من النفط يوميًا.

ولتعزيز الموقف التفاوضي الأمريكي، يجب أيضًا وضع خطة طوارئ لإجلاء القوات الأمريكية في العراق إلى إقليم كردستان شبه المستقل.

على عكس النخبة السياسية العراقية، فإن الحكومة وقوات الأمن في كردستان تؤيدان الوجود العسكري للولايات المتحدة، وقد بذل الإقليم قصارى جهده لمكافحة التهديدات التي تواجه القوات الأمريكية والدبلوماسيين الموجودين على أرضه. وانطلاقا من كردستان، يمكن للولايات المتحدة أن تواصل عملياتها القتالية ضد تنظيم الدولة في العراق، وحتى في سوريا، دون أن تساورها المخاوف على سلامة قواتها مثلما هو الحال في باقي أنحاء العراق. وبهذه الطريقة، ستكون القوات الأمريكية مأمن ويصبح أمامها خيارات أكبر لاتخاذ ما تراه مناسبا في مواجهة التهديدات الإيرانية وتهديدات وكلائها على الأراضي العراقية.

ينبغي على الولايات المتحدة أن تضع شروطا محددة وواقعية في مقابل استمرار دعمها للحكومة العراقية. بغض النظر عن مقدار الضغط الذي قد تمارسه واشنطن، فإن العراق لن يخوض حربًا مع إيران.  كما أن الحكومة العراقية لن تعمل على القضاء على الميليشيات بين عشية وضحاها. لكن يمكن للإدارة الأمريكية أن تصر على أن تبدأ الحكومة العراقية في اتخاذ خطوات مجدية وملموسة، لتدافع عن سيادة العراق، أولاً وقبل كل شيء، وتبديد المخاوف الأمريكية في الآن ذاته.

على الصعيد السياسي، لابد أن يوضع حدّ لقمع الاحتجاجات السلمية بالعنف. ولابد أيضا من محاسبة عناصر الأجهزة الأمنية والميليشيات المسؤولة عن الفظائع المرتكبة، من خلال تحقيقات شفافة ومحاكمات نزيهة. ولابد من إقامة حوار وطني جاد مع المحتجين.

من الناحية الاقتصادية، تحتاج الحكومة إلى التعاون مع الولايات المتحدة من أجل الوقوف في وجه مخططات إيران التي تستغل العراق في الالتفاف على العقوبات الأمريكية، عبر تصدير النفط الإيراني انطلاقا من الأراضي العراقية والحصول على كميات من الدولار الأمريكي، وهي أنشطة قد تعرض العراق لعقوبات أمريكية.

إن الحفاظ على الدعم المالي للعراق لن يكون أمرا سهلا في أفضل الحالات. غير أن الإبقاء على تلك المساعدات، سيكون مهمة مستحيلة في ظل تقارب العراق مع إيران 

وعلى الصعيد العسكري، تحتاج الولايات المتحدة أن ترى بشكل ملموس جهودا من الحكومة العراقية لإيقاف الهجمات ضد العسكريين والدبلوماسيين الأميركيين، حتى لو لم تنجح في إنهائها تماماً. وهذا لا يعني إدانة هذه الهجمات فحسب، ولكن أيضا انخراط أجهزة المخابرات والأمن العراقية في مكافحتها ومعاقبة المسؤولين عنها، وقطع رواتب أفراد الميليشيات المتمرّدة. ورغم أن الولايات المتحدة لن تتوانى أبداً في الدفاع عن رعاياها بنفسها، فإن التزام الحكومة العراقية بالمشاركة في هذه الجهود، من شأنه أن يخفف العبء على القوات الأمريكية.

سيكون الطلب على الموارد في الولايات المتحدة أثناء أزمة كورونا وبعدها كبيرا للغاية، لذلك فإن الحفاظ على الدعم المالي للعراق لن يكون أمرا سهلا في أفضل الحالات. غير أن الإبقاء على تلك المساعدات، سيكون مهمة مستحيلة في ظل تقارب العراق مع إيران على حساب شراكتها مع الولايات المتحدة. لقد بدأ الوقت ينفد بسرعة لكي تغير الحكومة العراقية هذا المسار من خلال البرهنة على أنها ملتزمة على الأقل بالدفاع عن سيادة أراضيها مثلما فعلت الولايات المتحدة طيلة الأعوام السبعة عشر الماضية.

هذه هي الرسالة التي تحتاج إدارة ترامب توجيهها للقادة العراقيين في الحوار الاستراتيجي المقبل. يبدو أن هذه العلاقة المرهقة والضرورية في آن، تتجه نحو منعطف مصيري، سواء للأفضل أو للأسوأ. وإذا كانت المخاطر كبيرة على مصالح الولايات المتحدة، فإنها قد تكون مخاطر وجودية على الجانب العراقي، وعلى الحكومة العراقية أن تدرك ذلك وتتخلص من أي أوهام تفيد العكس.

المصدر: فورين بوليسي