“يوجد لدينا مخطط لإقامة فندق في معلولا السورية التي تعد آخر المدن المتحدثة بالغة الآرامية في العالم التي كان يتحدث بها السيد المسيح عليه السلام”، لكن يبدو أن الفندق الذي تحدث العضو البرلماني الروسي ديمتري سابلن عن اقتراب تشييده في معلولا في أثناء إعادة بناء أحد دور العبادة الأرثوذكسية هناك، هو سوريا! ابتداءً بالموانئ البحرية والمراكز الاقتصادية وليس انتهاءً بالسيطرة على أهم مراكز النفط والغاز!
أضاف سابلن خلال زيارته لمعلولا في البدايات الأولى للتدخل الروسي “لا شك أن الروس سيحجون قريبًا إلى هنا، للمس أعظم مزار في المسيحية، وللقاء الفرح والغبطة”، لكن يبدو أيضًا أن الحجاج الذين تحدث سابلن عن اقتراب زيارتهم هم الضباط الروس وجنودهم الذين مارسوا عبادتهم في قصف السوريين وحصد كل المدن الثائرة والمطالبة بإسقاط الأسد ونظامه!
فقد أكد السيناتور فيكتور بونداريف رئيس مجلس الدفاع والأمن في مجلس فيدرالية روسيا الذي شغل منصب قائد القوات الجوية الروسية من أغسطس/آب 2015 إلى سبتمبر/أيلول 2017، دقة الضربات الجوية الروسية التي أدت إلى تدمير آلاف الأهداف وقتل نحو 100 ألف إرهابي!
في السياق ذاته فلاديمير شامانوف أحد الحجاج الروس إلى سوريا والقائد السابق لقوات المظليين افتخر أمام البرلمان الروسي في 23 من فبراير/شباط 2018، بأن القوات الروسية الزائرة جربت أكثر من 200 نوع جديد من الأسلحة التي أثبتت فاعليتها في أثناء قتلها للسوريين!
توظيف الدين
وعي الروس خلال تجربتهم السابقة في محاربة الأديان إبان الاتحاد السوفييتي أن انتزاع الدين من النفوس البشرية على اختلاف مشاربها أمر أقرب إلى المستحيل، فشرعت سياستهم الحديثة لتكون أكثر براغماتية في التعاطي مع الفاعل الاجتماعي وتغيير التكتيك السياسي ومحاولة ترويض الدين وتوظيفه لتحقيق أهداف محلية وعابرة للقارات من خلال خلق مكانة دينية لروسيا تمكنها من إدارة المتغير الاجتماعي المحلي والخارجي.
اللقاءات الروسية مع الشرائح الاجتماعية المسيحية في ريف حماة لا تخرج عن سياق السياسة الروسية منذ اليوم الأول
وبذلك تسعى روسيا لأن تكون الراعي الأكثر تأثيرًا في العالم المسيحي الأرثوذكسي على كلا الصعيدين في الغرب والمشرق العربي، لذا يلحظ المراقب للسياسة الروسية أنها نجحت في ترويض رهبان وقساوسة الكنيسة الروسية باحتراف سياسي منقطع النظير، وكان أحد أهم تلك المنابر على سبيل المثال منبر بطريرك موسكو كيريل الذي وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه “معجزة الرب والإصلاحي الذي أرسلته العناية الإلهية لإنقاذ البلاد”.
في السياق يؤكد الكاتب الروسي بيتر بوميرانتسيف أن “لأصحاب النفوذ في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الدور الحاسم في مساعدة بوتين وتكريس وجوده لإعادة صياغة معركة المعارضة الليبرالية ضد الفساد الإداري ومزاعم تزوير الانتخابات بتحويلها إلى نص مقدس من (شياطين أجانب) ضد (روسيا المقدسة)”.
هذا وقال بيوتروفسكي مدير متحف هيرميتاج: “إذا انهارت المسيحية في الشرق الأوسط، فستنهار في كل مكان، لذلك يمكن لروسيا من خلال وجودها هناك أن تدافع عن المسيحية مثلما فعلت الإمبراطورية الروسية من قبل”.
في المقابل حاولت بعض النخب المسيحية في المشرق العربي التي تعتبر نفسها ابنة الثقافة العربية أن تحذر مسيحيي المشرق من الوقوع بالفخ الخارجي وتوظيف الدين وتحويله لأداة سياسية، فخاطب الأب جورج مسوح حازم مدير مركز الدراسات المسيحية الإسلامية في جامعة البلمند في لبنان الرأي العام المسيحي بقوله: “لا حرب مقدسة في المسيحية وكل الحروب مرفوضة، لذا فإن موقف الكنيسة الروسية لا يعنينا، إن مسيحيي الشرق يؤمنون بأنه لا توجد حرب مقدسة”.
إدارة المجتمع
أكدت وسائل إعلامية متباينة ومصادر خاصة لـ”نون بوست” أن روسيا تجري اجتماعات مكثفة مع العوائل المسيحية في ريف حماة بهدف طمأنتهم وإجراء علاقات اجتماعية معهم، كما كشفت مصادر إعلامية زيارة غامضة الأهداف أجراها يفغيني أوستينوف قائد القوات الروسية في سوريا لمدينة السقيلبية ومحردة وكفربهم وتومين والقرى المسيحية الأخرى في ريف حماة بالشمال السوري.
وأضاف المصدر ذاته “الجنرال الروسي التقى خلال الزيارة قائد شبيحة منطقة الغاب أو ما يسمى قائد الدفاع الوطني في السقيلبية في ظل غياب تام لقيادات قوات الأسد، هذا وكانت نتائج الاجتماع غامضة وغير معلنة على الصعيد العام”.
وفي إفادة أدلى بها أحد سكان الريف الحموي لـ”نون بوست” أطلعنا خلالها على أن هذه المنطقة تشهد تصعيدًا كبيرًا بين الروس والإيرانيين منذ بداية الشهر الماضي، بعد عجز الميليشيات الإيرانية عن السيطرة الكاملة على المنطقة ومحيطها الجغرافي بسبب تنوعها الديني والأيديولوجي المتباين إلى حد كبير، حيث أكد محدثنا انتشار الشريحة المسيحية في السقيلبية وكذلك المسلمين “السنة” في ذات المنطقة وقبر فضة والكريم، أما العلوية والمرشدية في الجيد وجورين وشطحة والرصيف.
الدوافع والذرائع
الباحث السياسي والاجتماعي محمد الحموي كيلاني في إفادته لـ”نون بوست” يرى أن اللقاءات الروسية مع الشرائح الاجتماعية المسيحية في ريف حماة لا تخرج عن سياق السياسة الروسية منذ اليوم الأول لدخولها كأحد الفواعل الأساسية في إدارة الملف السوري، فهذه المساعي ليست جديدة على الإطلاق لا سيما أن روسيا أعلنت سابقًا “أنها جاءت لحماية المسيحيين من الإرهاب”.
التدخل الروسي لحماية المسيحيين وإصرارهم على تغييب النظام السوري هو رسالة مقتضاها أن بشار ونظامه لم يعد بإمكانهم حماية المسيحيين في المشرق
يضيف المتحدث ذاته “على ما يبدو أن لهذه الذريعة عدة أبعاد، أهمها آنيًا مواجهة خطر التمدد الإيراني باتجاه وسط البلاد والساحل السوري الذي أمسى مصدر قلق لروسيا، وذلك من خلال تذرع الروس بذات الحجج التي تبرر إيران بواسطتها الوجود والتوسع في المناطق السورية، وأغلب هذه الحجج تتمثل بحماية المراقد الشيعية والتجمعات الشيعية في سوريا”.
يضيف الكيلاني “هذه المناطق لها وجود مسيحي واسع، وبالتالي هي حجة وذريعة على طبق من ذهب لقطع الطريق على الإيرانيين ومن يواليهم من ضباط النظام السوري. باختصار يبدو أن الروس متماهين مع الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة بإنهاء دور إيران في سوريا”.
الدفاع الاستباقي
يرى محمد الحموي الكيلاني أن تذرع الروس بحماية المسيحيين لا يخرج عن إطار منافسة أوروبا حضاريًا وخاصة الفرنسيين لانتزاع راية حماية المسيحيين في المشرق العربي منهم، ويضيف “من ناحية أخرى إن التذرع بحماية المسيحيين هو دفاع استباقي من الجانب الروسي أمام المحاكم الدولية التي أدانت الإجرام الروسي من خلال العديد من التقارير الموثقة التي تثبت تورطهم في مخالفة القانون الدولي وارتكاب جرائم حرب بحق الشعب السوري، لذلك نشاهد أن الروس يسعون باحتراف إلى العزف على وتر العاطفة وتبرير إجرامهم الموثق دوليًا في استهداف المدنيين والمرافق المدنية والمستشفيات والمدارس، بحجة أن وجودهم لم يكن إلا لحماية المسيحيين من الإرهاب والتطرف الطائفي والميليشيات العابرة للقارات”.
أخيرًا يبدو أن التدخل الروسي لحماية المسيحيين وإصرارهم على تغييب النظام السوري لم يكن عبثيًا، بل كان ذلك رسالة إلى المجتمع الدولي مقتضاها أن بشار ونظامه لم يعد بإمكانهم أداء مهامهم الأمنية والعسكرية ما يهدد بدوره الوجود المسيحي في المشرق العربي.
في هذا الإطار يرى الكيلاني “من الواضح أن هناك توافقًا دوليًا على تحييد بشار ونظامه، فهناك حالة من القلق نتيجة الصراعات الداخلية للنظام السوري وعدم قدرته على تجاوز الحصار الاقتصادي والديون والعجز السياسي والاجتماعي وغيرها من الأمور التي تؤثر على بنية النظام، فالروس يحتاجون إلى نظام قوي يحمل عنهم أعباء المسؤولية في إدارة سوريا بمعزل عن الوجود الإيراني، ولا شك أن التصريحات الإعلامية الروسية التي تنال من رأس النظام والحديث عن إنهاء دور بشار الأسد في المرحلة القادمة ليست عبثية ولا ارتجالية وغير خارجة عن سياق سياسة الروس في الوقت الراهن”.