التجربة التاريخية تثبت أن تخليد ذكرى من يجلس فوق كرسي الحكم لا علاقة له بالفترة التي قضاها، فكثير ممن قضوا عقودًا فوق منصات الولاية غادروا مناصبهم إلى قبورهم دون أي مآثر لهم، وآخرين لم تتجاوز فترة حكمهم أيامًا بسيطةً وقد حفروا أسمائهم في سجلات التاريخ الخالدة.
والتاريخ المصري يزخر بعشرات النماذج على هذه الحقيقية المطلقة، فبعض السلاطين والحكام مكثوا في حكمهم سنوات طويلة إلا أنهم لم يتركوا أي أثر في نفوس المصريين، بل على العكس بعضهم كان يغادر ملعونًا من الشارع، ممقوتًا من الجميع، منبوذًا حتى من المؤرخين، لتصيبهم لعنة الكرسي.
وفي المقابل، هناك حكام لم يجلسوا فوق الكرسي إلا أيامًا معدودة، أحيانًا لا تتجاوز الأيام الثلاث، غير أنهم احتلوا مكانة كبيرة وثقتها كتب التاريخ، على رأسهم شجرة الدر، وفي هذه الإطلالة نستعرض أبرز هذه النماذج التي حكمت مصر فترة لا تتجاوز 100 يوم، لا سيما في الدولة المملوكية (1250-1517)، ملوك وسلاطين بعضهم تولى الحكم وعمره 7 سنوات ومعظمهم غادروا الحياة قبل أن يتموا الـ20.
الظاهر قانصوه خمسمائة.. 3 أيام في الحكم
يعد الظاهر قانصورة أو الأشرف خمسمائة أحد سلاطين الدولة المملوكية الشركسية وأقل حاكم جلس على عرش مصر، حيث لم يدم مكوثه على الكرسي أكثر من 3 أيام فقط، وذلك عام 1497 الموافق 902 هـ، حيث شهدت ولايته على العرش العديد من الطرائف والغرائب التي لا تزال تذكرها كتب التاريخ حتى اليوم.
تقول الروايات التاريخية إن قانصوة – الذي لُقب بخمسائة لوجود 500 فارس تحت إمرته – كان عند الناصر محمد قيايتباي، حاكم مصر في هذا الوقت، لكن فجأة ودون مقدمات، انقض عليه وأسره، ليثبت في حضور الخليفة العباس والقضاة ممن كانوا في قصر الحكم وقتها أن الناصر عاجز عن مباشرة شؤون الحكم لذا وجب خلعه.
وبالفعل أعلن الأشرف توليه مقاليد الحكم، ليصبح الحاكم الواحد والعشرين من حكام المماليك البرجية، غير أن الأمور لم تذهب وفق ما خطط له، إذ فُقد في واقعة خان يونس بعد ثلاثة أيام فقط من جلوسه على العرش، ليعود الناصر للحكم مرة أخرى، بعدما أثبت للخليفة والقضاة رشده وقدرته على الحكم.
السلطان المنصور الظاهر.. 43 يومًا من الحكم
تقلد السلطان المنصور أبو السعادات فخر الدين عثمان مقاليد الحكم في مصر خلفًا لوالده الملك الظاهر جقمق محمد العلاي، وذلك بعد أن خلع الظاهر نفسه من الحكم في أثناء مرضه الشديد، ليجلس ابنه على عرش البلاد في 1 من فبراير سنة 1453 وكان في الـ19 من عمره.
وما هي إلا أيام قليلة ويغادر الملك الوالد الحياة، وحينها طالب أمراء الدولة السلطان الجديد بمناقشة نفقة العسكر والامتيازات المادية الخاصة بهم خاصة أنهم ساعدوه على تولي الحكم من خلال المبايعة والموافقة عليه رغم صغر سنه، لكنه أخبرهم أن والده لم يترك في الخزانة إلا 30 ألف دينار فقط وليس هناك مجال لنفقات أو امتيازات.
تآمر الأمراء مع العسكر الذي زاد احتقانهم ضد السلطان بعد دفع رواتبهم بنقود مغشوشة
لم يصدق الأمراء رواية المنصور، فباتوا يدبرون الأمر من أجل خلعه من منصبه، خاصة بعدما بدأ في تنظيم أمور الحكم، عبر الإطاحة ببعضهم شيئًا فشيئًا، حيث اعتقل عدد الأمراء “المؤيدية” وسجنهم في الإسكندرية، وقرب له الأمراء “الأشرافية”، لتدب الكراهية أكثر وأكثر في نفوسهم.
وبالفعل تآمر الأمراء مع العسكر الذي زاد احتقانهم ضد السلطان بعد دفع رواتبهم بنقود مغشوشة، واستطاعوا محاصرته في القلعة، واستمرت المواجهة بين الطرفين قرابة 7 أيام، انتهت بالإطاحة بالمنصور ليتولى مكانه الأتابك إينال، وقد ألقي القبض عليه وذلك بعدما قضى في حكم مصر 43 يومًا فقط.
السلطان بلباي.. 58 يومًا على عرش مصر
لم تكن لديه رغبة في الحكم، فقد كان سبعيني العمر لا يقوى على مباشرة الأمور العامة، لكنه وجد نفسه موضوعًا على عرش الحكم في الـ9 من أكتوبر 1467، هو السلطان الملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين الإينالي المؤيدي، وكانت كنيته “بلباي” وتعني “المجنون”، ولم يدم حكمه إلا 58 يومًا فقط، حيث تم عزله في 7 من ديسمبر 1467.
عقب توليه حكم البلاد أصيب بحالة نفسية وصار كالمذهول، فلا يستطيع الكلام وكان يلتزم الصمت ويوكل كل أمور الدولة والحديث في الشأن العام للدويدار الكبير “خاير بك” وكلما سئل عن شيء كان يرد: “إيش كنت أنا، قل له “يعنى لخاير بك”، وهي العبارة التي باتت دارجة على ألسنة المصريين بعد ذلك حين كان يُسأل أي جاهل عن شيء كان يرد “قولوا لخاير بك”.
كان بلباي لا يجيد القراءة والكتابة، فضلًا عن ضعف شخصيته، وهو ما انعكس على فترة حكمه ورد فعل الشارع المصري تجاهه، وهو ما أدى بعد ذلك إلى تمرد المماليك “المؤيدية” التابعين للسلطان المؤيد أحمد، وحينها نشبت معركة كبيرة بين الملك والمماليك، انتهت بانتصار الأخير وإيداعه سجن الإسكندرية.
وحين وضع في السجن كان يقول: “واالله ما أنا بسلطان، أنا أمير، وماذا أعمل بالسلطنة، سني كبر وعقلى ذهل، بالله سلم على السلطان وقل له أني لستُ السلطان”، وظل يبكي طالبًا العفو والإفراج، وذلك حتى توفي في عهد السلطان الأشرف قايتباي في 19 من سبتمبر 1468 في سجنه بعدما أصيب بمرض الطاعون.
السلطان أبو العز.. 70 يومًا في الحكم
يعد السلطان المنصور عز الدين الملقب بـ”أبو العز” خامس سلاطين الدولة المملوكية البرجية “الشركسية”، تربع على عرش مصر أواخر عام 1405 وخُلع بدايات 1406 ولم يمكث في الحكم أكثر من شهرين وعشرة أيام فقط، ويعد من أصغر السلاطين الذين حكموا مصر عمرًا، حيث جلس على الكرسي وهو في الـ10 من عمره.
تولى أمور الدولة بعد أن خُلع أخوه السلطان الناصر فرج بن برقوق بسبب تدني الأوضاع السياسية والأمنية في فترة حكمه، هذا بخلاف تباين وجهات النظر بينه وبين رجال الدولة، فتم الإطاحة به وتعيين شقيقه الأصغر المنصور بدلًا منه رغم صغر سنة، وذلك بناء على توصية من والده الظاهر برقوق.
تعيينه في هذ السن الصغير أثار حفيظة الأمراء الآخرين في العائلة، الأمر الذي انعكس على المشهد السياسي بصفة عامة، حيث كثرت الاضطرابات وتصاعد الاحتقان، ما أدى في النهاية إلى خلعه من منصبه وإرساله إلى والدته في دار الحريم، وتوفي منتصف عام 1406 وهو في الـ16 من عمره.
شجرة الدر.. ملكة الـ80 يومًا
تعد شجرة الدر الملقبة بـ”عصمت الدين أم خليل” أشهر ملوك مصر من النساء، جلست على عرش البلاد بعد وفاة زوجها الملك الصالح نجم الدين أيوب الذي أخفت خبر وفاته، خشية أن يؤثر ذلك على سير المعركة التي كانت تدور بين المصريين والجيش الصليبي بقيادة لويس التاسع.
لم تجد شجرة الدر بدًا من التنازل عن العرش للأمير عز الدين أيبك، قائد العسكر الذي تزوجته، لتترك خلفها إنجازات كبيرة
فبعد وفاة الصالح استدعت شجرة الدر قائد الجيش المصري الأمير فخر الدين يوسف ورئيس القصر السلطاني الطواشي جمال الدين محسن، وتم الاتفاق بينهم على إخفاء خبر الوفاة حتى لا يؤثر ذلك على معنويات الجنود، فنقلت جثمان زوجها في مركب إلى القاهرة ووضعته في قلعة جزيرة الروضة.
وبالفعل أعدت خطة عسكرية محكمة مع قادة الجيش لإيقاع الصليبيين فيما عرف بـ”موقعة المنصورة” تلك الخطة التي اعتمدت على إخلاء شوارع المنصورة (شرق القاهرة) حتى يدخل الصليبيون بأريحية كاملة، وبالفعل نجحت الخطة ودخل جيش لويس ليفاجأ بالجنود المصريين في انتظاره ليحسموا المعركة بانتصار ساحق ويتم أسر لويس التاسع في فارسكور وقتل أخيه.
نجحت الملكة عقب جلوسها على العرش في أن تقبض على زمام الأمور وتعيد الهيبة لشؤون الحكم مرة أخرى، لكن الرياح لم تأت بما تشتهيه السفن، حيث لاقت معارضة قوية من المصريين الذين خرجوا في تظاهرات تستنكر جلوس امرأة على عرش البلاد، هذا بخلاف معارضة العلماء وعلى رأسهم العز بن عبد السلام لولاية المرأة الحكم.
أمام هذه المعارضة القوية لم تجد شجرة الدر بدًا من التنازل عن العرش للأمير عز الدين أيبك، قائد العسكر الذي تزوجته، لتترك خلفها إنجازات كبيرة وثقتها كتب التاريخ، خلال المدة القصيرة التي حكمت فيها البلاد ولم تتجاوز الـ80 يومًا فقط، وقد أثنى عليها المؤرخون المعاصرون لدولة المماليك، فيقول ابن تغري بردي عنها: “وكانت خيّرة دَيِّنة، رئيسة عظيمة في النفوس، ولها مآثر وأوقاف على وجوه البِرّ، معروفة بها”.
العزيز جمال الدين يوسف.. 90 يومًا على الكرسي
يعد السلطان الملك العزيز جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن الأشرف برسباي، السلطان الحادي عشر في الدولة المملوكية البرجية، حكم مصر عام 1438 وهو في الـ14 من عمرة، ولم يدم على عرش البلاد إلا ثلاثة أشهر فقط، قبل أن يتم عزله في الـ7 من سبتمبر من نفس العام.
تعود قصة ولايته إلى تنازل والده السلطان الأشرف برسباي عن الحكم لصالحه، استجابةً لاقتراح الأمراء بعد مرضه وشعوره بقرب وفاته، بجانب عدم استقرار الأحوال في البلاد وتعرضها لهجمات البدو والعربان، وفسادهم في كل من البحيرة والصعيد، فما كان من الوالد إلا أن أعطى العرش لولده صغير السن.
وبعد أيام قليلة مات برسباي، غير أن إدارته للبلاد أثارت حفيظة كبار رجالات مصر وقتها، الأمر الذي أدى في النهاية إلى اجتماع الأمراء والقضاة وطلبوا عزل العزيز، الذي لم يبد أي مقاومة، وبالفعل تم عزله وتنصيب الأمير جقمق أتابك العسكر بدلًا منه.
السلطان العادل.. مئة يوم من الحكم
لقب بـ”ابن البدوية” وهو ابن السلطان ركن الدين بيبرس، وسادس سلاطين الدولة المملوكية، نُصب على حكم مصر وهو في الـ7 من عمره، بعد أن أٌجبر شقيقه الأكبر الملك السعيد على خلع نفسه، ليجد سلامش الملقب بـ”السلطان العادل بدر الدين” نفسه ملكًا على عرش البلاد.
ونظرًا لصغر سنه، تم تعيين المملوك قلاوون الذي خلع أخاه، وصيًا عليه، ليصبح مع مرور الوقتالحاكم الفعلي للدولة المصرية، كما أمر أن يُدرج اسمه مع سلامش في كل مشروعات البلاد حتى في المساجد وعلى الطرقات، ليتضح فيما بعد طمعه في الانفراد بكرسي الحكم بعد ذلك.
وبالفعل بعدما استتب الأمر في الدولة لصالح قلاوون وبات المتحكم في كل شيء، استدعى القضاة والأعيان وأخبرهم أن مصر بحاجة إلى ملك لديه من مؤهلات القوة والقيادة ما يساعده على الحكم، فاقترح عليهم عزل سلامش الذي كان محبوبًا من المصريين، وتنصيبه هو سلطانًا، وبالفعل وافقوا على خلعه بعد مئة يوم من الحكم.