عملت القيادة الإيرانية على توجيه رسائل داخلية وخارجية خلال الفترة الماضية، الهدف منها إعادة إحياء شخصية النظام السياسي الذي عانى كثيرًا من التحديات السياسية والاقتصادية والصحية منذ بداية العام الحاليّ، وعلى هذا الأساس دأبت التصريحات الرسمية للمسؤولين والقادة في مؤسستي الرئاسة والحرس الثوري، على تمرير مجموعة من الرسائل الضمنية للداخل والخارج، بل والأكثر من ذلك، قام المسؤولون الإيرانيون بزيارات بعضها سرية وأخرى علنية، لعدد من دول الإقليم، وهو توجه يشير إلى العديد من علامات الاستفهام التي تقف أمام الغايات النهائية التي يريد أن يصل إليها المسؤولون الإيرانيون.
تنظر القيادة الإيرانية إلى البيئة الداخلية والخارجية بنظرة عدم يقين، وهذه النظرة جاءت نتيجة سلسلة من الأزمات التي وقع بها النظام، وأنتجت بدورها سلسلة من الاضطرابات الشعبية في العديد من المدن الإيرانية، بل تحول بعضها إلى أعمال مسلحة، ومنها ما حصل في غرب كردستان إيران خلال اليومين الماضيين، عندما تعرض جنود إيرانيون في الحرس الثوري، أحدهم برتبة عقيد، لهجوم مسلح شنه مسلحون أكراد (أعداء الثورة)، حسب ما وصفهم بيان الحرس الثوري، هذا فضلًا عن التوتر الذي نشب على الحدود الأفغانية، بعد قيام حرس الحدود الإيراني بتعذيب وقتل عدد من المهاجرين الأفغان غير الشرعيين الذين كانوا يرومون عبور الحدود الإيرانية، إلى الحد الذي دفع بحركة طالبان الأفغانية إلى توجيه بيان شديد اللهجة للحكومة الإيرانية.
ويمكن القول أيضًا إن جهود الحكومة الإيرانية لإيجاد منافذ جديدة للتعاون الإقليمي، بناءً على الدعوة الأخيرة التي وجهها الرئيس الإيراني حسن روحاني الشهر الماضي، وجدت هي الأخرى ردة فعل قوية من بعض دول الإقليم، خصوصًا المملكة العربية السعودية التي تخوض حربًا في اليمن مع حليف إيران الإقليمي (الحوثيين) هناك، واتهمت إيران أكثر من مرة بعرقلة جهود الهدنة في اليمن، وهو ما جعل حالة التوتر التي تصل إليها إيران مع المجتمع الدولي معقدة جدًا، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الدخول على خط هذا التوتر مؤخرًا.
رسالة قوية في الداخل
شكل نجاح إيران بإطلاق قمر صناعي إلى الفضاء الخارجي، السؤال الذي اجتهد المسؤولون الأمريكيون في البحث عن إجابة واضحة له، وهو كيف تمكن المجمع الصناعي العسكري في إيران، وفي ظل هذه الظروف الصعبة التي تعيشها إيران، أن يحقق هذا الإنجاز العسكري، إذ أدى القرار الإيراني بإطلاق القمر الصناعي (نور) إلى المدار الخارجي في 22 من أبريل الماضي، إلى مخاوف كبيرة في “إسرائيل” والولايات المتحدة، خصوصًا أن الحرس الثوري كان يقف وراء الإطلاق، ما يعطي تصورًا واضحًا عن زيادة قدرات صواريخه الباليستية، رغم ادعاء إيران بأن القمر الصناعي سيستخدم للمراقبة والاتصالات العسكرية.
إذ كشفت إيران مؤخرًا عن طائرات دون طيار جديدة، ومن الواضح أن إيران تريد استخدام الأقمار الصناعية للاستهداف أو قدرات الاستطلاع الاستخباري، لمساعدة صواريخها وطائراتها دون طيار على إصابة أهدافها بدقة عالية، وتلافي الانتكاسات التي مرت بها في سوريا والعراق خلال الفترة الماضية، وتحديدًا عدم تكرار سيناريو الرد الصاروخي الذي أعقب عملية اغتيال قائد قوة القدس قاسم سليماني، لذا يبدو أنها وصلت لقناعة إستراتيجية بضرورة تطوير تقنيات برنامجها الصاروخي الباليستي.
خبراء الصواريخ الإيرانيين، هم في طليعة مجالهم العلمي في المنطقة وعلى قدم المساواة مع أقرانهم في القوى الكبرى
تدرك القيادة الإيرانية أن هناك مخاوف من بعض دول الخليج العربي وكذلك الولايات المتحدة و”إسرائيل”، من أن قدرات إطلاق إيران للقمر الصناعي، يمكن أن تكون مصدر قلق أمني، لأنه يمكن استخدامه لاحتياجات عسكرية أخرى، إذ استخدمت إيران صاروخ قاصد لوضع القمر الصناعي في مدار يبلغ طوله 425 كيلومترًا، وهذا هو الصاروخ الأول من ثلاث مراحل الذي بنته إيران، وبتولي الحرس الثوري قيادة عملية التحديث الصناعي – العسكري في إيران، تريد إيصال رسالة مفادها أنها صاحبة الفضل في هذا الإنجاز وطورت موروث إيراني يعود تاريخه إلى عام 1988.
إن هذه الخطوة الإيرانية الأخيرة، تمثل خريطة طريق لعسكرة الفضاء، إذ يحتوي القمر الصناعي (نور) على أجهزة استشعار وإشارات مهمة، وسيتم إطلاق قمر صناعي ثانٍ بقدرات أفضل في الأيام القادمة، كما يقول الحرس الثوري على لسان قائد قوات الجوفضائية أمير علي حاجي زاده، إن الإطلاق القادم سيشهد استخدام الوقود الصلب في المرحلة الأولى من الصاروخ، وأشارت وكالة تسنيم الإيرانية أنه يبدو أن الحرس الثوري سيستخدم صاروخ خرمشهر هذه المرة، وهو نسخة جديدة من أجيال الصورايخ الباليستية الإيرانية تم اختباره لأول مرة عام 2017، ويعمل بالوقود السائل بمدى يصل إلى 2000 كيلومتر.
إذ يصر الحرس الثوري على عدم إهدار المال على البرنامج، خصوصًا أن إيران تخضع للعقوبات الاقتصادية وتعاني من تداعيات جائحة فيروس كورونا وانخفاض أسعار النفط، لذلك يشير الحرس الثوري إلى أنه أعاد تدوير صواريخ قديمة خارج الخدمة لإطلاقها.
تهدف هذه الرسالة الداخلية إلى القول إن خبراء الصواريخ الإيرانيين، هم في طليعة مجالهم العلمي في المنطقة وعلى قدم المساواة مع أقرانهم في القوى الكبرى ورسالة إيران المركزية هي للولايات المتحدة و”إسرائيل” ودول الخليج العربي، بأن لديها التكنولوجيا والقوة التي تستخدم الآن الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، للقيام بما تريده في المنطقة، على الرغم من العقوبات والمخاوف من ردات فعل الولايات المتحدة، فإن رسالة الحرس الثوري أنه يمضي قدمًا في الاختبارات والصواريخ والأقمار الصناعية الجديدة.
رسالة مربكة في الخارج
بدأت كتيبة الباقر الإيرانية المدعومة من الحرس الثوري، بنقل مقرها العسكري في حلب يوم الثلاثاء الماضي، بعد أن استهدفت غارات جوية إسرائيلية، مركز أبحاث دفاعي يعود لجيش النظام السوري في المدينة، إذ نقلت الكتيبة مقرها من داخل المدينة إلى منطقة جديدة في ضواحيها، بسبب مخاوف من استهدافها بغارات جوية إسرائيلية، إذ أصدرت ميليشيا لواء القدس في حلب، المدعومة من إيران سابقًا وروسيا حاليًّا، إنذارًا أمنيًا مماثلًا في حي باب النيرب بحلب، ومنع اللواء غير المقيمين من دخول الحي، التي تعمل أيضًا على نقل مقرها خارج الحي.
بدأت القوات الإيرانية بمغادرة البلاد وإخلاء عدد من القواعد العسكرية التي كانت تحت سيطرتها بشكل منفصل
إذ قال مصدر عسكري إيراني إن إيران تخفض للمرة الأولى عدد قواتها منذ دخولها سوريا، من خلال سحب آلاف المقاتلين من العديد من القوات التي تمركزت بها سابقًا، كما أن العديد من المواطنين الإيرانيين في سوريا، سيغادرون بسبب سلسلة الغارات الجوية الإسرائيلية، إذ لم تقتصر الهجمات على قتل العشرات من القوات الإيرانية، وتدمير عدد لا حصر له من الأسلحة المتطورة، بل أدت إلى تخفيض عدد رحلات الشحن الجوي الإيراني إلى سوريا التي تستخدم لتهريب الأسلحة إلى حزب الله اللبناني.
إذ استهدفت الغارات الجوية الإسرائيلية الأخيرة، مركز أبحاث وقاعدة عسكرية في سوريا، حيث تتمركز الميليشيات الإيرانية، في خامس هجوم من نوعه في أسبوعين، ووفقًا لوسائل الإعلام السورية، وردت أنباء عن وقوع غارات جوية أخرى بطائرات مجهولة الهوية على ميليشيات إيرانية في منطقة دير الزور، بالقرب من الحدود السورية العراقية بعد ذلك بوقت قصير، إذ تحدثت عن إطلاق نحو 12 صاروخًا على مركز الدراسات والبحوث العلمية السورية في حلب خلال الغارات الجوية، مضيفةً أن “إسرائيل” تعتقد أن مركز الأبحاث يتعاون مع إيران لتطوير تقنيات الصواريخ، وأضافت أن خمسة صواريخ أصابت مركز الأبحاث ودمرته بالكامل.
كما تحدثت وزارة الصحة السورية عن مقتل 14 إيرانيًا في الضربات الجوية الإسرائيلية في دير الزور الليلة، ومن المتوقع أن يرتفع عدد القتلى نتيجة وقوع إصابات، وبعضهم في حالة حرجة، إذ استهدفت غارات جوية متعددة القوات والميليشيات الإيرانية في شرق سوريا خلال الأشهر القليلة الماضية، وأغلبها كانت تقع عند الحدود بين العراق وسوريا، وقاعدة الإمام علي التي تسيطر عليها إيران في بلدة البوكمال الحدودية.
ونقل موقع “تايمز أوف إسرائيل” عن مسؤولين أن هذا الجهد يأتي بثماره كما يبدو، حيث بدأت القوات الإيرانية بمغادرة البلاد وإخلاء عدد من القواعد العسكرية التي كانت تحت سيطرتها بشكل منفصل، وهناك أيضًا انخفاض في عدد المليشيات الشيعية العاملة في سوريا، ونسب المسؤولون العسكريون الإسرائيليون جزئيًا النجاحات التي تم تحقيقها ضد إيران في سوريا، إلى الضربة الأمريكية التي استهدفت سليماني في وقت سابق من هذا العام وتسببت بفقدان إيران لأحد أكثر جنرالاتها مهارة.