أحد أعلام الإسلام البارزين الذين حفروا اسمهم في تاريخ العلوم الإنسانية الشاملة، فكان موسوعة متحركة بين المجالات العلمية المختلفة، تنقل من علوم الفلك إلى الفيزياء، ومنها إلى الكيمياء ثم الجيولوجيا والجغرافيا، متجولًا بين علوم النفس والفلسلفة والتاريخ.
إنه العالم العربي عماد الدين أبو يحيى زكريا بن محمد بن محمود القزويني، أحد الشخصيات البارزة في القرن الثالث عشر الميلادي، الذي أثرى التراث العلمي العربي بالعديد من الإسهامات العلمية المتميزة التي جعلت منه أحد أشهر المؤرخين العرب على مر التاريخ، لقبه المؤلفون الغربيون بـ”هيرودتس القرون الوسطى” و”بليني العرب”.
يعود نسب القزويني إلى الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه، كما أنه حجازي الأصل، ولد بمدينة قزوين (بين رشت وطهران) عام 1208، ثم غادرها إلى دمشق، حيث أقام هناك فترة من حياته، متأثرًا بالعالم الصوفي الشهير محيي الدين بن عربي، لينتقل بعدها إلى العراق بعد أن بات عالمًا بالفقه.. لتبدأ من هناك رحلة إبحاره إلى بقية العلوم.
بين بغداد ودمشق
عمل القزويني بالقضاء في واسط وحلة بالعراق في عهد الخليفة العباسي المستعصم، وذلك قبل أن يعمل بالتدريس بعد ذلك في المدرسة الشرابية بواسط قبل سقوط بغداد على أيدي التتار عام 1258، معاصرًا خلال هذه المرحلة العديد من الأحداث التاريخية المهمة منها صعود المغول وتدمير بغداد ومعركة عين جالوت وسقوط أشبيلية، حيث لم يبق في يد العرب بالأندلس إلا مدينة غرناطة.
استند الإمام العالم في شغفه بالعلم بالقرآن الكريم وآياته الكريمة، فكان كثير التأمل في خلق الله، باحثًا عن المعرفة من خلال الاستنباط والاستدلال من القرآن والسنة
كان القزويني شغوفًا بدراسة العلوم الأخرى، مثل الجغرافيا والفلك والتاريخ والطبيعة والرصد الجوي، ورغم انشغاله بالتدريس والقضاء، لم يلهه ذلك عن القراءة والتأليف في مجالات العلوم الأخرى، وهو ما انعكس بعد ذلك على إسهاماته في تلك العلوم مقارنة بما أبدعه في مجال القضاء، مهنته الرئيسية.
استند الإمام العالم في شغفه بالعلم بالقرآن الكريم وآياته الكريمة، فكان كثير التأمل في خلق الله، باحثًا عن المعرفة من خلال الاستنباط والاستدلال من القرآن والسنة، معتمدًا على أن أساس التأمل خبرة بالرياضيات والعلوم بعد تهذيب النفس والروح ومنظومة الأخلاقيات والقيم لتنفتح بصيرة الإنسان على العلوم كافة.
يقول عنه المؤرخ الفرنسي الشهير جوستاف لوبون، في كتابه “حضارة العرب“: “يعد القزويني المتوفي سنة 1283، والملقب ببليني المشارقة، من أشهر علماء التاريخ الطبيعي بين العرب. وتعتمد طريقة القزويني في الوصف على الخصوص، كما صنع بوفون بعده”.
رائد علم الأرصاد والفضاء
يعد كتاب “عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات” للقزويني اللبنة الأولى لعلم الفضاء والأرصاد الجوية، حيث وضع من خلاله الثوابت والأسس الرئيسية لهذا العلم، فتحدث عن تصنيف حركة النجوم ومعرفة الوقت وأسباب نزول المطر وحركة الكواكب وأنواع الرياح، ولهذا الكتاب الذي ترجم لأكثر من لغة الفضل في تطور الدول الغربية في صناعة الإسطرلاب (آلة فلكية لرصد النجوم).
فعن حركة الرياح يقول في كتابه: “لنتأمل السحاب الكثيف، كيف اجتمع في جو صاف، وكيف حمل الماء وكيف تتلاعب به الرياح وتسوقه وترسله قطرات، فلو صب صبًا لفسد الزرع بخدشه الأرض. ثم إلى اختلاف الرياح فإن منها ما يسوق السحب، ومنها ما يعصرها ومنها ما يقتلع الأشجار، ومنها ما يروي الزرع والثمار، ومنها ما يجففها…”.
أما القدرة على تصنيف حركة النجوم والكواكب من خلال ألوانها، فيقول: “لننظر إلى الكواكب وكثرتها، واختلاف ألوانها، فإن بعضها يميل إلى الحمرة، وبعضها يميل إلى البياض، وبعضها إلى لون الرصاص. ثم إلى سير الشمس في فلكها مدة سنة، وطلوعها وغروبها كل يوم لاختلاف الليل والنهار، ومعرفة الأوقات. ثم إلى جرم القمر وكيفية اكتسابه النور من الشمس، ثم إلى امتلائه وانمحاقه، ثم إلى كسوف الشمس وخسوف القمر، ثم إلى ما بين السماء والأرض من الشهب والغيوم والرعد والصواعق والأمطار والثلوج والرياح المختلفة المهاب”.
علاوة على هذا فقد تضمن كتابه الشهير الحديث تفصيلًا عن توزيع اليابس والماء والحرارة على الأرض، كذلك العلاقة بين ارتفاع الحرارة في المناطق الاستوائية واشتداد البرد في المناطق القطبية بالإنسان والحيوان والنبات، هذا بجانب إلقاء الضوء على أسباب تكوين الجبال والأنهار والعيون والآبار في العالم، معللًا ذلك بتعليلات طبيعية وجيولوجية.
يعود إليه الفضل في الاستدلال على كروية الأرض بخسوف القمر وطلوعه وغروبه
ومما ذكره في المسائل البيئية الطبقات الجوية، فتحدث عن تكوين الغيوم والأمطار، كذلك حدوث الرياح واتجاهاتها وفوائدها، ومنها ما ذكره عن (الزوبعة) معللًا أسباب حدوثها بقوله: “هي الريح التي تدور على نفسها شبه منارة وأكثر، تتولد من رياح ترجع من الطبقة الباردة فتصادف رياحًا تذروه الرياح المختلفة، فيحدث من دوران الغيم تدوير في الريح فينزل على تلك الهيئة”.
أول من استدل على كروية الأرض
لم تقل إسهامات القزويني في علوم الجيولوجيا والفلك عن إسهاماته في الأرصاد والفضاء، ويعود إليه الفضل في الاستدلال على كروية الأرض بخسوف القمر وطلوعه وغروبه، هذا بجانب حديثه المستفيض عن تكوين بعض عناصر الطبيعة مثل الذهب والفضة والنحاس والرصاص.
وكانت لنظرياته في علوم الجيولوجيا تأثيرًا كبيرًا لدى علماء الجيولوجيا المشاهير، ففي مقدمة كتابه “مبادئ علم الجيولوجيا” الصادر عام 1830 ذكر العالم تشارلس لايل “ما ورد في كتاب القزويني عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات من النظريات الجيولوجية لتدل على صحتها ونبوغ هذا العالم المسلم”، علمًا بأن لايب كان من بين أوائل العلماء الذين اعترفوا بدور القزويني في علم الجيولوجيا، كذلك المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون كما تم ذكره آنفًا.
ومن الظواهر العلمية التي أبدع في تفسيرها ظاهرة خسوف القمر وكسوف الشمس، فعلل ذلك في كتابه قائلًا: “إن سببه توسط الأرض بينه وبين الشمس، وعندئذ يتشكل من وقوع نور الشمس مخروط قاعدته صفحة الأرض، فإذا وقع القمر كله في جرم المخروط كان الخسوف كليًا”.
أما تعليله كسوف الشمس فقال: “القمر يكون حائلًا بين الشمس وأبصارنا لأنّ جرم القمر كمد فيحجب ما وراءه، لأن الخطوط الموهومة الشعاعية التي تخرج من أبصارنا متصلة بالبصر على هيئة مخروط رأسه نقطة البصر وقاعدته المبصر، فإذا وقع جرم القمر في وسط المخروط، تنكسف الشمس كلها، وقد تنكسف بعضها إذا كان للقمر عرض ينحرف المخروط عن الشمس”.
أشهر علماء التاريخ الطبيعي
كثير من المتابعين يظنون أن شهرة القزويني جاءت من إسهامته في العلوم الطبيعية فحسب، غير أن الرجل بما لديه من مواهب متعددة، يعد موسوعة شاملة، فلم يترك مجالًا علميًا إلا وكان له فيه موضع قدم، ومن بين تلك المجالات التاريخ، حيث يعد من أشهر علماء التاريخ الطبيعي بين العرب حيث تقوم طريقته بالوصف على الخصوص.
في كتابه عجائب المخلوقات خصص فصلًا كاملًا عن دراسة المعادن والأحجار، كونه أول من قسم المعادن إلى 3 أقسام
ويعد كتابه “آثار البلاد وأخبار العباد” واحدًا من المؤلفات الشهيرة التي أرخت وبشكل ممنهج للتاريخ السياسي والعسكري والاجتماعي، حيث قدم من خلاله جرعة تاريخية مكثفة عن البلدان والأقاليم السبعة، متطرقًا إلى عاداتهم وتقاليدهم، ملبسهم ومأكلهم، علاوة على الجانب الثقافي من خلال ترجمته لعدد كبير من مشاهير العلماء والفقهاء والأدباء والمؤرخين وغيرهم.
ومن التاريخ إلى الجغرافيا، حيث تضمن مؤلفه الكثير من المعلومات القيمة عن الطبيعة الجغرافية لأقطار العالم الإسلامي بصفة خاصة، والأقطار الأوروبية والآسيوية والإفريقية بصفة خاصة، فتحدث عن الأنهار والبحار والبحيرات، ثم انتقل إلى التضاريس والثروة الزراعية والحيوانية والصناعة والمعادن وغيرها.
ومن أبرز مجالات علم الجغرافيا التي أبدع فيها، رسم الخرائط، حيث رسم خريطة مستديرة للعالم من طراز خريطة الاصطخري، وصور وخرائط أخرى للكعبة والمسجد الحرام حولها، وصورة مدينة تنيس في بحيرتها (بحيرة المنزلة) والقسطنطينية ومدينة قزوين، وهذا ما يوثقه مؤلفه “أخبار البلاد” بشكل مفصل.
نبوغ في الطب والصيدلة
ليس هناك دليل واضح على أن القزويني كان طبيبًا إلا أن إسهاماته في الطب وعلوم الحيوان والنبات شاهدة على حجم ما كان يتمتع به من خبرة كبيرة ودراية تامة بتلك العلوم، ومما ذكره في هذا المجال أن حجر الماس من المواد الجيدة في علاج المغص وفساد المعدة وتكسر الأسنان إذا أُخذ بالفم، ومما قاله عن خواص الحيوان: “شحم الإوز يصفي اللون ومخه يسمن ويصفي الصوت، ولبن الماعز علاج للنسيان والفم والسواس”.
كما كان يعرف بين علماء عصرة بـ”العشّاب” أي الصيدلي، كونه كان يمتلك خبرة كبيرة في معرفة خصائص النباتات الطبية النافعة منها والضارة، وقديمًا كان النباتي هو الطبيب والطبيب هو النباتي لقرب الصلة بين المهنتين، ورغم أنه لم يخضع تلك الوصفات للتجربة العلمية، فإن التجربة الحياتية كانت المحك الرئيسي للتقييم في ذلك الوقت.
رحل الإمام القزويني عام 1283 عن عمر يناهز 75 عامًا، بعد أن أثرى المكتبة العربية والإسلامية بالعديد من الإسهامات في مجالات العلوم المختلفة كافة
علوم الكيمياء كان لها دور كبير هي الأخرى من إسهاماته، ففي كتابه عجائب المخلوقات خصص فصلًا كاملًا عن دراسة المعادن والأحجار، كونه أول من قسم المعادن إلى 3 أقسام: الأول هو الفلزات، والثاني الأحجار، أما الثالث فقد أطلق عليه الأجسام الدهنية، فكانت نقطة انطلاق العديد من العلماء بعد ذلك.
ويعد القزويني كذلك من الأعلام العرب في علم النبات، حيث خصص بابًا كاملًا من كتابه لعلم النبات، قسمه إلى عدة أقسام، أحدها كان للحديث عن الأشجار وأنواعها، والآخر عن النباتات التي أطلق عليها اسم النجوم، كما تحدث عن مكانة النباتات بين الموجودات، فقال: “النبات متوسط بين المعادن والحيوان بمعنى انه خارج عن نقصان الجمادية الصرفة التي للمعادن وغير واصل إلى كامل الحس والحركة اللتين اختص بهما الحيوان”.
علاوة على ذلك فقد كانت له إسهاماته المميزة في علوم النفس والفلسفة، فتحدث عن القوى العقلية والقوى المدركة وتفاوت الناس في الذكاء، وفي الوقت ذاته يعد من الفنانين الذين اشتهروا بفن الرسم والتصوير، ومن أشهر أعماله تلك الصورة التي وثق بها الملائكة المدونين لأعمال البشر، استخدم فيها ألوانًا غامقة استعملت لبيان طيات الملابس.
وبعد رحلة حافلة من العطاء ومشوار طويل من البحث والتعلم، رحل الإمام القزويني عام 1283 عن عمر يناهز 75 عامًا، بعد أن أثرى المكتبة العربية والإسلامية بل والإنسانية بالعديد من الإسهامات في مجالات العلوم المختلفة كافة، فاستحق عن جدارة لقب “هيرودتس القرون الوسطى”.