قبل عشر أعوام تقريبًا وأثناء تغطية إحدى الوقفات الاحتجاجية أمام نقابة الأطباء المصرية بشارع القصر العيني بمنطقة وسط البلد، وبينما كان العاملون بالجهاز الطبي يرفعون شعارات تطالب بإعادة هيكلة الأجور وزيادة رواتبهم أسوة بالقطاعات الأخرى، إذ بعدد من السيدات المصحوبات بقليل من الرجال يتوجهون صوب الوقفة.
في البداية كان الاعتقاد أنهم جاءوا لدعم مطالب المحتجين، وإن كانت هيئتهم لا تشير لذلك، فكانت السيدات مشمرات عن سواعدهن في الصفوف الأمامية وخلفهم ثلاثة رجال بأيديهم شوم “عصاة كبيرة”، وفجأة وقبيل الاقتراب من الوقفة انهال السباب وأطلقت الشتائم دون رادع.
اتهامات بالخيانة والعمالة لصالح جهات تريد خراب البلد، بل تطور الأمر إلى رشق الواقفين بالحجارة، مما أجبرهم على الدخول لمقر النقابة للاحتماء بها من هذا السيل الجارف من الهجوم، اللفظي والحجاري، خشية أن يتطور الأمر إلى مشادات بالعصي، ويتعرض البعض للإصابة أو – لا قدر الله – الوفاة.
الغريب أن كل هذا تم في وجود أفراد من قوات الأمن على الجهة المقابلة، ولم يتحرك أحد منهم، وهنا سمعت صوتًا من المشاركين في الوقفة يقول “بلطجية”.. غير أن العديد من التساؤلات بدأت تفرض نفسها وبشدة: من جاء بهؤلاء مجتمعين في هذا التوقيت بالذات؟ ومن أخبرهم بموعد الوقفة الاحتجاجية؟ ومن أين جاءت لهم الجرأة للهجوم على الأطباء في حضور الأمن؟ ولماذا لم يتحرك الأمن لوقفهم؟ إلا أن الإجابة الشافية لكل تلك الأسئلة والتي اتضحت لاحقًا أن هؤلاء ماجاؤوا إلا بتعليمات وما غادروا المكان إلا بإشارة.
في تقرير سابق لـ “نون بوست” تناول ظاهرة الفتونة في مصر، وكيف كان “الفتوة” ظهير الفقراء ونصير الغلابة في مواجهة بطش الحكام، غير أن هذا المفهوم تعرض مع مرور الوقت لموجات من التشويه في تعريفيه، اللفظي والاصطلاحي، حتى تحول إلى أداة ترهيب للمواطنين وسلب حقوقهم تحت وطأة التهديد، تحول من “الفتوة” إلى “البلطجي”.
خلال العقود الأخيرة انتشرت في شوارع مصر ظاهرة البلطجة بصورة أحدثت خللًا كبيرًا في تماسك المجتمع، وكما استعان الاحتلال الإنجليزي سابقًا بفتوات المحروسة – بعد إغرائهم بالمال – لضمان ولائهم ورضوخهم لأوامر المستعمر، تم توظيف البلطجية كذلك لتحقيق أهداف سياسية وأمنية.. وفي كلتا الحالتين كان المواطن المصري هو الضحية.
والبلطجة مصطلح دارج يعود في أصوله إلى اللغة التركية، ويتكون من مقطعين: “بلطة” و”چي”؛ أي حامل البلطة، و”البلطة” كما هو معروف أداة للقطع والذبح، وفي الدولة العثمانية كان “البلطة جي” ” Baltacı” أحد أنواع الوظائف التي يُمتهن بها العمال، وكانت في البداية معنية بتنظيف الشوارع والطرقات من الأشجار، لكنها تحولت مع مرور الوقت إلى “بلطجة” وهي نوع من النشاط الإجرامي يقوم من يمارسه بفرض السيطرة على فرد أو مجموعة، وإرهابهم وتخويفهم بالقوة عن طريق الاعتداء عليهم والتنكيل بهم وأحيانًا قتلهم لغرض السرقة أو لتخويفهم وإثناءهم عن أمر ما.
نصف مليون بطلجي
يوجد في مصر أكثر من 500 ألف بلطجي مسجل رسميًا في مراكز الشرطة المصرية في كافة محافظات البلاد، يمارسون يوميًا أعمال البلطجة والترهيب مقابل نظير مادي أو معنوي يحصلون عليه، وفق تقرير صادر عن المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية (حكومي).
ووفق التقرير فإن هناك مكاتب في عدد من المحافظات على رأسها القاهرة والجيزة والإسكندرية تعمل خصيصًا في مجال “تأجير البلطجية” تحت مسمى “شركات استيراد وتصدير”، حيث يحصل البلطجي على 500 جنيها (32 دولار) في الساعة الواحدة، تزيد أو تقل قليلًا حسب نوع العملية المطلوبة منه.
وقديمًا كانت هذه الظاهرة تنتشر بصورة كبيرة في الأماكن العشوائية البعيدة نسبيًا عن أعين الأمن والسلطات الحاكمة، لكنها تحولت إليوم إلى طقس يومي معتاد في شتى المناطق، الراقي منها والمتواضع، وبات كبار البلطجية رموز مجتمع يشار إليهم بالبنان، كما هو الحال مع البلطجي صبري نخنوخ الذي حصل على حكم مؤبد لاتهامه في أكثر من قضية بلطجة غير أنه خرج بعد ذلك ضمن قائمة العفو الرئاسي الصادرة بحق المساجين، وهو ما أثار الكثير من الجدل وقتها حول الجهة التي تحمي نخنوخ إلى الحد الذي يتم الإفراج عنه رغم جرائمه الواضحة للجميع.
والظواهر على تفشي هذه الظاهرة في مصر كثيرة، يكفي ماهو مدون بشكل رسمي أمام منصات المحاكم، ففي السنوات الأخيرة فقط هناك 10 ملايين قضية بلطجة منظورة أمام القضاء المصري وتراكم مليون و300 ألف حكم قضائي أمام شرطة تنفيذ الأحكام بوزارة الداخلية، وفق ما ذكره، رئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والاقتصادية، عادل عامر.
عامر في تصريحاته لصحيفة “النبأ” المصرية أرجع تفشي هذه الظاهرة إلى الانفلات الأمني والإعلامي وغياب دور النخب السياسية، وعدم تطوير أداء الداخلية بالشكل الملائم، لافتًا إلى أن “هناك أشخاص لهم مصالح يستثمرون هؤلاء البلطجية في خدمة مصالحهم الخاصة”.
كما أوضح الخبير الاقتصادي أن العامل الاقتصادي يأتي على رأس دوافع انتشار البلطجة، فكلما ساءت الأوضاع الاقتصادية كلما تعبد الطريق أكثر وأكثر أمام انتشار الجريمة والاضطراب الأمني، هذا بجانب الوضع السياسى المضطرب، الذي من الممكن أن يكون عاملًا مهمًا ومؤثرًا في اتساع رقعة البلطجة خاصة لو كانت تحت مظلة حماية السلطات أو ذوي النفوذ المالي والسياسي في البلاد.
التوظيف الأمني والسياسي
كثير ما وجهت اتهامات التواطؤ الأمني في كثير من الجرائم التي قام بها بلطجية بحق بعض الفئات والقطاعات، على رأسها الصحفيين والمحامين والنشطاء السياسيين، هذا بخلاف التيارات المعارضة للنظام الحاكم بوجه عام، وهو ما وثقته بياناتهم الصادرة في أكثر من واقعة.
ويعتبر المركز القومي للبحوث الإجتماعية والجنائية (حكومي) في دراسة له في 2011، أن البلطجة تحولت من نشاط فردي إلى ظاهرة عامة بداية 2005، وهو العام الذي شهد أول انتخابات رئاسية في مصر، حيث شرع الحزب الوطني المنحل بدعم جهاز مباحث أمن الدولة (الأمن الوطني حاليًا) في تكوين مجموعات من البلطجية قوامها 45 ألف يعملون لصالح الداخلية.
الدراسة تذهب إلى أن التوظيف السياسي والأمني للبطلجية بدأ منذ تسعينيات القرن الماضي، حين أقدم الرئيس الراحل حسني مبارك في تنفيذ مخطط تحرير الاقصاد الوطني، الأمر الذي زاد من فقر المناطق التي تعاني من العوز والحاجة خاصة في الصعيد، وساعد على انتشار الجماعات المسلحة، ما دفع الأمن وقتها لاستخدام البلطجية لمواجهة تلك الجماعات وهو ما أعطاهم شرعية زائفة.
وتعزز هذا التوظيف مع العقد الأول من الألفية الجديدة، حيث قدًر الباحث بجامعة كمبريدج، حازم قنديل، في دراسة له في 2011 أن الشرطة كانت في عهد مبارك تستعين بمليون ونصف المليون من البلطجية والمرشدين بشكل غير رسمي، لتتوارث الأنظمة اللاحقة التركة كاملة.
ويعد ما عرف بـ “موقعة الجمل” في الثاني من فبراير 2011، أحد أبرز الشواهد على استخدام البلطجة السياسية، وذلك حينما استدعى بعض فلول نظام مبارك، عشرات من البلطجية والمجرمين والخارجين عن القانون، لإخلاء ميدان التحرير وإنقاذ النظام الذي كان يوشك على السقوط في هذا الوقت، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد سقوط جهاز الشرطة في 28 يناير أو ما عرف بـ”جمعة الغضب”.
لم يختلف نظام السيسي عن مبارك في الاستعانة بالخارجين عن القانون لتصفية حسابات خاصة مع خصوم سياسيين، وكان النصيب الأكبر من حظ الصحفيين، ففي مايو 2015، نددت لجنة الحريات بنقابة الصحفيين، بالاعتداء على الصحفي محمد عبدالعليم داود، المرشح لانتخابات مجلس الشعب في هذا التوقيت، حيث اتهم شقيقه بتعرضه لأكثر من اعتداء على أيدي بلطجية تابعين للأمن بسبب مواقفه السياسية.
وفي إبريل 2016 اتهمت النقابة ذاتها السلطات الأمنية بالاستعانة بـ”البلطجية” في الاعتداءات المتكررة على أعضائها أثناء تغطية الفعاليات الصحفية، وطالبت في بيان لها وزارة الداخلية ، بـ”التحقيق” في الأمر، خاصة وأن هذه “الاعتداءات “ليست الأولى من نوعها خلال الفترة الأخيرة”.
هذا الرأي اتفق معه كذلك خبراء أمن، ممن اتهموا الحكومات والأنظمة بتغييب قوة القانون ليصبح كل فرد حرًا في الحصول على حقوقه، حتى تحولت البلطجة من ظاهرة فردية إلى ظاهرة عامة، كما أشار بذلك الخبير الأمني، العميد حسين حمودة، الذي اتهم بعض عناصر الأمن بممارسة البلطجة بأنفسهم.
حمودة في تصريحات صحفية له لموقع “العربي الجديد” كشف أن العديد من جرائم البلطجية كان يقوم فيها ضباط الشرطة بدعم البلطجية وحمايتهم وتوفير سبل الهجوم من سلاح وخلافه، مستشهدًا بواقعة “الدكش” بمحافظة القليوبية، حيث أظهرت التحقيقات مساعدة لواء شرطة بالمديرية للبلطجي، ما أدى إلى فصله من عمله ومحاكمته الأن، الأمر الذي يؤكد مقولة أن “البلطجة صناعة أمنية من الدرجة الأولى”.
الباحث بمنظمة هيومن رايتس ووتش، دان ويليامز، في تعليقه على أحداث فض اعتصام رابعة العدوية أغسطس 2013، اتهم ما أسماهم “المواطنين الشرفاء” كما تسميهم وسائل الإعلام الحكومية بالضرب والاعتداء على الصحفيين والنشطاء السياسيين من التيارات المعارضة.
وأضاف في شهادته أن البلطجية نجحوا خلال السنوات الماضية في مؤازرة السلطات الأمنية في تخويف المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية، وترهيب كل من يفكر في المشاركة في أي فعاليات مدنية تنتقد أو تعترض على أي من توجهات النظام الحاكم، لافتًا إلى أن بعض البلطجية يزج بهم في هذا المستنقع بسبب الفقر وآخرون يعلمون لحساب الشرطة.
وفي المجمل تثبت تفاصيل الوقفات الاحتجاجية التي شهدتها سلالم نقابة الصحفيين أو المحامين أو ميادين مصر العامة وشوارعها الرئيسية خلال السنوات الأخيرة على وجه التحديد أن البلطجة باتت أداة رئيسية من أدوات الأمن في التعامل مع كافة المغردين خارج السرب، وتحول البلطجية من مجرمين خارجين عن القانون إلى أحد الأذرع التي يعتمد عليها النظام لترسيخ أركانه.