أثّرت جائحة فيروس كورونا على جميع مناحي الحياة في تونس، فحتى المدينة القديمة التي لطالما كانت قلب العاصمة النابض فقدت رونقها وبريقها في شهر رمضان الكريم. مقاهي ومحلات أغلقت أبوابها أمام هذا الوباء الذي فرض قيوده وأرغم الناس على ملازمة البيوت، حتّى مساجد المدينة، أوصد أبوابها أمام المصلين مخافة تفشي الوباء بينهم.
رمضان المدينة العتيقة قبل كورونا
في رمضان، يحاول العديد من التونسيين التوفيق بين السهر والطرب والعبادة، يتوجهون إلى المقاهي والمهرجانات والمساجد وقد كانت المدينة القديمة أو كما تسمى في تونس بالمدينة العربي حاضنة لكلّ هذه الممارسات اليومية، قبل أن يحكم فيروس كورونا بأحكامه ويفرض شروطه.
في هذا الشهر الكريم، كان الجميع يقبل على المدينة القديمة، التي يرجع تاريخ تأسيسها إلى عام 698 ميلاديًا، حول جامع الزيتونة، وصُنفت منذ عام 1979 ضمن لائحة مواقع التراث العالمي لليونسكو، للتمتع بأجمل اللحظات والابتعاد عن مشاغل الحياة بين روائح العطور والبخور والعنبر التي تنبعث من أزقتها الضيقة المتعرجة.
بعد ظهر كلّ يوم في رمضان، يتوجّه بعض التونسيين إلى أزقة المدينة حيث محلات الحلويات لشراء الزلابية والمخارق (حلوى تقليدية) وكل ما لذ وطاب من الحلويات التقليدية التونسية، فيما يتوجّه بعضهم إلى المحلات التي حوّلت نشاطها لبيع الخبز الدياري الذّي يصنع في البيت.
خلال شهر رمضان الكريم كانت أزقة “المدينة العتيقة” الضيقة التي تحتضن الحفلات، تتحوّل إلى مدينة ليلية تزدهر فيها الحركة
تمرّ عبر أزقة المدينة وأنهجها الضيقة، فيجذبك الباعة المتجولين مرتدين ألبسة تقليدّية كالزنار(كوفيّة) والجبة التونسية والفرملة البدعيّة والدنقري، ويجذبك أيضا صوتهم يهتفون بين الفينة والأخرى متغنيين بما يعرض لديهم من سلع، ومنادين لجلب الزّبائن.
تشاهد جموعا غفيرة حول الباعة والمحلات، حتى تظنّ أن ما يبيعونه خلال شهر رمضان ربما لا يبيعه الواحد منهم خلال سنة كاملة، ببساطة لأن الاستهلاك يتضاعف و تكثر الهدايا التذكارية بمناسبة العيد ويكثر الزوار الذين يأتون خصيصا للاستمتاع بأجواء استثنائية.
بعد الإفطار بقليل يخرج المواطنون إلى المدينة العتيقة كل إلى وجهته، منهم إلى المقاهي ومنهم إلى المساجد. “في ذلك الوقت تجذبك المدينة برائحة قهوتها التي تعترض أنفاسك من مداخلها قبالة مقر رئاسة الحكومة ومن جهة باب بحر”، وفق عامر الحاجي.
يستذكر عامر الحاجي أحد رواد المدينة ذكرياته هناك بحسرة ويقول لنون بوست، “كان يعترضك باعة الفل والياسمين في كل ركن و زاوية وطاولة في المقاهي التي تلتصق فيها كراسي الحرفاء لكثرتهم و للاكتظاظ الشديد في المقاهي و الأزقة.”

ما يجلب انتباهك هو تحول الأنهج أو الشوارع الضيفة المحيطة بقصر الحكومة إلى فضاء مفتوح للمقاهي المجاورة وقد اكتظت بروادها من العائلات والأصدقاء. هناك يمكنك أن تحتسي الشاي و القهوة العربية وتستمتع بالشيشة أو تصغي إلى فرق تعزف معزوفات تقليدية تونسية.
وإن كنت من محبي السهر والطرب لكن بعيدا عن ضوضاء المقاهي ورائحة التبغ والشيشة، لك أن تذهب إلى المهرجانات الفنية، فمهرجان يؤمّن فقرات متنوعة وسهرات في عدد من الأماكن و الفضاءات بالمدينة القديمة.
خلال شهر رمضان الكريم كانت أزقة “المدينة العتيقة” الضيقة التي تحتضن الحفلات، تتحوّل إلى مدينة ليلية تزدهر فيها الحركة، حتى إنه يصعب على المارة التي تعلو محيا وجوههم الابتسامة والسرور، تجاوز تلك الأزقة الضيقة في أوقات متأخرةِ من الليل.
فضلا عن المقاهي، كانت المدينة القديمة عامرة بمساجدها، ففي رمضان تتنوع الأنشطة الدينية وتزدان المساجد وتستقبل مرتاديها في صلاة التراويح، ويعلو صوت إمام جامع الزيتونة القريب من قصر الحكومة مرتلا للقرآن الكريم.

يقول عامر الحاجي، “يستقبل روح المدينة و قلبها النابض جامعة الزيتونة آلاف الزوار والمصلين و المتهجدين و المستكشفين و العشاق و المارة في رمضان، فلصلاة التروايح في الزيتونة نفس خاص قادم من أعماق التاريخ يجعل كل ما يتجول في رحابه يستحضر ويشعر بعظمة الإسلام،” ويتابع، “كنت أتيه كما يأتيه الزاور من كل بلاد المغرب للاستمتاع بتلك اللحظة العاطفية المتميزة.”
رمضان المدينة القديمة زمن الكورونا
كانت نادية البراني، في كلّ رمضان تخيّر التوجه إلى أزقة المدينة العتيقة حتى تستشعر نكهة رمضان في مكان عريق، يذكّرها بتاريخ تونس و أصالتها، إلا أنها هذه السنة افتقدت كلّ ذلك ولم يكتب لها أن تذهب للمدينة وتقوم بطقوسها الرمضانية هناك، مثلها مثل باقي التونسيين.
بدوره يقول محمد سويدي أحد المتيمين بحب المدينة العربي، “دائما ما كان للمدينة العتيقة سفرُ عبر الزمن، فهي التي تأخذنا بهيجان أسواقها و اكتظاظ أنهجها و ارتفاع أصوات المآذن من المساجد، و ارتفاع أصوات المغنين و العازفين الراقصين من المقاهي، و لكل أذن فيها وتر و عود و لكل قلب فيها عطر.”
ويستدرك سويدي بالقول لنون بوست، “رغم أن المدينة العتيقة مدينة عابرة الزمن، تقف بعطرها و ألوانها و أسوارها منذ مئات السنين تنفخ من روحها في الناس و في روادها، ألا أن زمن الكورونا كان زمنا توقفت فيه المدينة.
ويتابع، “مدينة لم تتوقف مئات السنين، مرت بها حروب و مر بها غزاة و مرت بها طوائف من الحكام و لم يوقفها زمن، نراها اليوم تقف عاطلة عن دورها الحاضن بروحها العتيقة للشباب الذي يشكو فراغا روحيا، تملأه المدينة بسحرها، هذه السنة، توقف سحرها و أحالها زمن الكورونا على بطالة وجودية ليس لها مثيل عبر الزمن.”
اختطفت كورونا من التونسيين رونق وعبق المدينة العتيقة في رمضان الكريم، وسرقت منهم صخبها وضوضاءها، وحرمتهم أجر التعبد في مساجدها
جاء فيروس كورونا فأفقد المدينة بريقها، وغاب عنها أصوات الباعة ورنين الطرق على النحاس التي تطوق أرجاءها، وأنغام المألوف والموشحات التّونسية التي تطرب مسامع مجالسها ومقاهيها، وغاب عنها روادها.
لم تعد المدينة العتيقة كما هي، فقد أصبحت اليوم “خالية” من عبقها وضوضائها وروحها، كما هو الحال لأغلب مناطق البلاد بعد أن فرضت السلطات التونسية الحجر الصحي الشامل ابتداء من الـ 22 من شهر مارس/آذار الماضي لمواجهة انتشار فيروس كورونا.
كل معالم المدينة أقفلت أبوابها مخافة تفشي مرض كورونا بين روادها، محلات بيع الحلويات والشاشية والملابس والمجهورات والمقاهي والمساجد أوصدت أبوابها الخشبية في مشهد لم تعرفه المدينة العتيقة منذ زمن تأسيسها.
مسألة وقت
يقول عامل الحاجي لنون بوست، ” مؤسف و محزن ما فعلته كورونا في مدينتنا الحبيبة، زوار محرومون اضطروا لملازمة البيت مما يضاعف حالة الضغط النفسي لديهم وتجار متضررون خاصة أنهم يعانون مصاريف الكراء و الضرائب و غيرها.”

تحول مدينة القديمة إلى مكان صامت كأن سكانه هجروها، لا يمكن أن يكون وفق عامر الحاجي إلا “مسألة وقت لا أكثر وتعم الحركة فيها من جديد، وتبعث فيها الروح ويعود لها أهلها وأصحابها الذين افتقدوها لأشهر عديدة.
وينصح “الحاجي” التونسيين بأن يلتزموا بالحجر الصحي وبالإجراءات التي فرضتها السلطات لمحاربة فيروس كورونا المستجد، حتى تتجاوز البلاد هذه الذائقة بسرعة وترجع الحياة إلى طبيعتها. وبلغ عدد المصابين بهذا الفيروس في تونس أمس 1026 حالة من بينها 600 حالة شفاء و44 حالة وفاة و382 حالة إصابة لا زالت حاملة للفيروس وهي بصدد المتابعة.
اختطفت كورونا من التونسيين رونق وعبق المدينة العتيقة في رمضان الكريم، وسرقت منهم صخبها وضوضاءها، وحرمتهم أجر التعبد في مساجدها وأطفأت أنوار مسجدها الأكرم، لم يبق في المدينة شيء مفتوح إلا ذكريات التونسيين.