مع مرور ما يزيد عن 60 يومًا على تفشي الوباء في العالم، فُقِدت الملايين من الوظائف بمختلف القطاعات في دول العالم، وتوالت الأخبار عن إفلاس آلاف الشركات الصغيرة والكبيرة على حدٍ سواء، مؤكدةً أن هذه الأزمة أكثر فجاعةً وضراوةً من أزمة 2008، فالعالم الآن يقع بين فكي كماشة يضغطان في اتجاهات متضادة على الحكومات والشركات العالمية، وليس هناك مؤشرات واضحة وحاسمة عن إيجاد لقاح فعال ينقذ العالم من الشلل المفاجئ الذي أصابه.
ومع كل يوم يستمر فيه الإغلاق العام، تضطر الحكومات لزيادة إنفاقها وديونها لتثقل بذلك كاهل مواطنيها من دافعي الضرائب لسنوات طويلة. مثلًا، في الولايات المتحدة الأمريكية، تشير التوقعات بأن آثار الأزمة المالية على الحكومة قد تفوق خسائر مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
كما وصفت منظمة العمل الدولية، أزمة فيروس كورونا بكونها أسوأ كارثة عالمية منذ الحرب العالمية الثانية، مشيرةً في تقريرها الأخير أن العالم سيخسر أكثر من 195 مليون وظيفة بدوام كامل حول العالم، من بينها خمسة ملايين في الدول العربية، إلى جانب تسجيل أكثر من ثلاثة وثلاثين مليون طلب بطالة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال سبعة أسابيع فقط، لتمسح بذلك كل فرص العمل التي خُلِقت منذ فترة “الكساد العظيم” 2008-2009، و لمجابهة هذه الأزمة ومنع الاقتصاد من الانهيار ضخت حكومات العالم تريليونات الدولارات.
حالة من عدم اليقين
الآن، توجهت بعض حكومات العالم لإعادة فتح اقتصاداتها، مراهنةً على وعي مواطنيها ومسؤوليتهم الاجتماعية في الالتزام بتعليمات التباعد الاجتماعي وما يشابهها من إجراءات وقائية أخرى ضرورية، في خطوةٍ يعتبرها الكثيرون مقامرة غير محسوبة تودي بآلاف الأرواح وتقوض الاقتصاد بدلًا من أن تساعده على التعافي. ولكن لِنقُل أن الفيروس، لحتى اللحظة الراهنة، انتصر على الجهود العالمية في لعبة عض الأصابع ولم تعد خزائن الدول وبنوكها المركزية قادرة على التحمل لوقتٍ أطول، فهل سيعود الاقتصاد إلى ما كان عليه سابقًا؟
الحقيقة، أن لا أحد يملك جوابًا واضحًا ودقيقًا على هذا السؤال، لأن التجربة التي يعيشها العالم حاليًا ليست مسبوقة ولا زالت تأثيراتها المدمرة مستمرة، ولكن الاقتصاديون يحاولون بناء تصور على المدى المتوسط حول عمق الضربة التي تلقاها الاقتصاد ليتمكنوا من توقع المدى الزمني المطلوب لتعافي الاقتصاد العالمي، وليس بأيديهم حاليًا سوى مجموعة من التساؤلات التي ستتشكل أجوبتها تدريجيًا مع انتهاء إجراءات الإغلاق العام، وحينها فقط يمكن بناء تصورات سليمة وقاطعة حول طبيعة الاقتصاد في المستقبل القريب.
ويتمحور فحوى تلك التساؤلات حول تأثيرات الأزمة على السلوكيات الاجتماعية، ومدى ثقة الناس بالأشياء العادية الروتينية التي كانوا يمارسونها قبل الفيروس، وكيفية تعامل رجال الأعمال مع المعطيات الجديدة، وخططهم المقترحة لطمأنة الزبائن وضمان استجابتهم، والسؤال الأكثر إثارة للحيرة هو ما شكل هذه الطمأنينة؟
الاقتصاد العالمي سيتعلم الكثير، وسيكسب صلادة في الاستجابة للتحديات المستقبلية، مثله مثل الجهاز الصحي الذي لم يكن مستعدًا لمواجهة الأزمة.
وتبقى هذه الأسئلة معلقة لحين معرفة متى سيكون الخروج من المنزل آمنًا، لأن العالم حتى اليوم تخيم عليه أجواء الارتباك، إذ نرى حاليًا دولًا تخفف من إجراءات وقيود العزل، وأخرى تعيد فرضها بعد أن كانت سمحت بعودة الحياة إلى وتيرتها الطبيعية، والسبب في مواقفها المترددة أنه ليس هناك دليلًا أو وصفة محددة لإدارة هذه الأزمة، وكل ما سبق عبارة عن تجارب واجتهادات للتعامل مع شيء لم يتم التعامل معه مسبقًا.
عدا عن أن هذه التجارب، باختلاف أشكالها ومقاييسها، تسير في خط واحد، وهو كيفية التأقلم مع الوضع الحالي، الأمر الذي يجعلنا عالقين في التفكير في كيفية التعايش مع الفيروس بدلًا من التفكير في مرحلة “ما بعد كورونا”. أما الجانب الإيجابي في هذا الشق، أن الاقتصاد العالمي سيتعلم الكثير، وسيكسب صلادة في الاستجابة للتحديات المستقبلية، مثله مثل الجهاز الصحي الذي لم يكن مستعدًا لمواجهة الأزمة.
كيف أثرت الأزمات العالمية السابقة على قراراتنا الشرائية والاستثمارية؟
رغم ضبابية التكهنات والسيناريوهات، لاحظ مختصون في علم الاقتصاد السلوكي (Behavioral Economy) بعض التغييرات التي تطرأ على سلوكيات الأفراد بعد حدوث أزمة ما، فبالنظر إلى أحداث عالمية سابقة عبر التاريخ، وجدوا أن الناس الذين حصلوا على رخصة قيادة في أواخر سبعينيات القرن الماضي، أي خلال فترة أزمة النفط، يشترون المحروقات بكميات أقل من غيرهم.
الناس أكثر حساسيةً تجاه الخسائر مقارنة مع المكاسب، وبذلك يسعى هؤلاء الأفراد إلى التركيز دومًا على تجنب الخسائر في المقام الأول، أكثر من اهتمامهم بجني الأرباح.
ويعتقد كذلك باحثون في مقر الاحتياطي الفدرالي الأمريكي في فيلادلفيا، أحد أهم البنوك التي تؤثر قراراته على العالم، فإن أن الأفراد الذين عاصروا أزمة الرهن العقاري (2008-2009) في الولايات المتحدة الأمريكية، يشترون عقارات أقل من غيرهم، وعزوا ذلك لقوة تأثير شعور هؤلاء الذين أصابهم الذعر بـ “النفور من الخسارة” أو “انحياز تجنب الخسارة” (Loss Aversion Bias)، وهي نظرية نفسية تُعرف بميل الأفراد إلى التأثر بالخسارة أكثر من الربح، والخوف من خسارة المال أكثر من كسبه، إذ يرون أن ألم الخسارة له تأثير مضاعف على نفسياتهم أكثر من تحقيق الأرباح.
ما يعني أن شعورهم بالألم عند فقدان 10 دولارات أكبر من شعورهم بالسعادة أو الرضا عند العثور على 10 دولارات أخرى، لأن الناس أكثر حساسيةً تجاه الخسائر مقارنة مع المكاسب، وبذلك يسعى هؤلاء الأفراد إلى التركيز دومًا على تجنب الخسائر في المقام الأول، أكثر من اهتمامهم بجني الأرباح.
وبناءً على هذه النظرية، يرى الباحثون أن شعور “النفور من الخسارة” يصبح أقوى عندما يكون الفرد مسؤولًا عن نتائج خياراته الشخصية، وفي الوقت الذي تستمر فيه أزمة فيروس كورونا من المرجح أن تتعمق المشاعر السلبية لدى الناس ويزداد تخوفهم مما هو خارج عن سيطرتهم بالأساس، ونحن نتحدث عن قرار عودتهم إلى الصالات الرياضية والمطاعم ودور السينما وغيرها من أماكن التجمعات العامة، وهي قرارات عليهم اتخاذها في مرحلة ما بعد إنهاء إجراءات الإغلاق العام.
وبالتالي سيلقي هذا الشعور بظلاله على كل خطوة يخطوها العالم، صغيرة أو كبيرة. على سبيل المثال، قد نشهد في المرحلة المقبلة كسادًا في مبيعات مباني العقارات المكتبية حيث أن ملايين الموظفين في مختلف القطاعات إما فقدوا وظائفهم أو أصبحوا يعملون من المنزل، وكنتيجة لهذا الوضع، سيشهد هذا القطاع خسائر قد يؤدي بالمستثمرين في القطاع العقاري بنفس الصدمة التي واجهونها عام 2008، وذلك بعزوفهم عن الاستثمار لسنوات طويلة لاحقة.