عندما ظهرت أول الأجهزة التقنية “القابلة للارتداء” ظن البعض أن هذه غاية التكنولوجيا ومنتهاها، وهي أولى المحاولات لربط الإنسان بالتكنولوجيا بشكل مباشر، وسرعان ما ازداد الطلب عليها وتنوعت استخداماتها، وكان الاستخدام الطبي على رأس القائمة.
لكن ما لم يمر بخاطر أشد الحالمين بمستقبل التكنولوجيا أن نرى تكنولوجيا يمكن تناولها أو ابتلاعها، لكن هذا بالفعل ما حدث.
قبل البدء في الحديث عن أنواع تلك التقنية ومجالات استخداماتها يجب أن نعرف ما المقصود بـ”التكنولوجيا القابلة للابتلاع“.
تعريفها وتاريخها
ببساطة “التكنولوجيا القابلة للابتلاع” هي أجهزة إلكترونية صغيرة بحجم كبسولة الدواء، تتكون من مواد متوافقة حيويًا مع أجزاء جسم الإنسان الداخلية، مزودة بمعالج دقيق ووحدة تحكم وأجهزة استشعار ومراقبة، مما يمنحها القدرة على الاتصال عن بعد، ويكثر استخدامها في الرعاية الصحية في صناعة تشخيص الأمراض ومراقبتها.
يعود تاريخ أول منتجات هذه التقنية لعام 2001، التي جاءت على شكل كبسولة مزودة بكاميرات غرضها التنظير الداخلي لمرضى القولون وكانت من لإنتاج شركة “Medtronic”.
منذ صنع تلك الكبسولة ارتفعت مبيعاتها إلى ملايين القطع خلال فترة وجيزة وانتشرت في معظم دول العالم، ووفقًا لتقرير “MarketsandMarkets“، بلغت الاستثمارات في هذه التكنولوجيا الصاعدة حدود 491 مليون دولار عام 2016، وازداد نموها بمقدار 19%، ويتوقع أن يبلغ الاستثمار فيها قرابة الـ9 مليارات دولار عام 2024.
ويوضح راهول كومار، محلل أبحاث السوق قائلًا: “الدوافع الرئيسية لنموها هي الحاجة إلى مراقبة المرضى في الوقت الحقيقي وضمان الالتزام بالأدوية ومراقبة الأمراض المزمنة وتقديم خيار للاختبارات التشخيصية الدقيقة والأقل إزعاجًا للأشخاص”.
احتاج العلماء إلى نوع جديد من مصادر الطاقة المشغلة لهذه الأجهزة، التي تتحمل الأحماض الموجودة داخل جسم الإنسان وتستمر لفترة طويلة وعند تفككها لا تطرح مواد سامة
أبرز المشاكل التي تواجه تطوير تقنية “التكنولوجيا القابلة للابتلاع”
عند بدء العلماء بتطوير هذه التقنية، كانت أكبر العقبات التي واجهتهم هي صناعة البطارية الخاصة بتشغيلها، فكما هو معروف أن معظم البطاريات الموجودة اليوم في الأجهزة تحتوي على عناصر الليثيوم أو الرصاص أو الزئبق، وكل هذه الأصناف من المواد السامة.
لذا احتاج العلماء إلى نوع جديد من مصادر الطاقة المشغلة لهذه الأجهزة، التي تتحمل الأحماض الموجودة داخل جسم الإنسان وتستمر لفترة طويلة، وعند تفككها لا تطرح مواد سامة، ولتحقيق هذه الأهداف، يحتاج المهندسون إلى مواد قوية متوافقة حيويًا مع جسم الإنسان، فتم الاتجاه إلى أحماض المعدة للاستفادة منها في توليد الطاقة.
ولجعل تلك الأجهزة مقبولة أكثر عند الناس، تم تصميمها لتكون أصغر حجمًا وأكثر نعومةً وغير سامة وقادرة على المرور بأمان عبر الجهاز الهضمي، كما يقول كريستوفر جيه بيتينجر أستاذ مشارك في علم المواد والهندسة والهندسة الطبية الحيوية في جامعة “كارنيجي ميلون”.
كشف الباحثون كيفية استخدامهم كبسولة لاسلكية مزودة بأجهزة استشعار وبطارية ومقياس حرارة وجهاز إرسال لاسلكي لمراقبة إنتاج الغازات في الجهاز الهضمي
أنواعها واستخداماتها
كان استخدام هذه التقنية بمختلف أنواعها هو استخدام طبي بحت، إذ جرى استخدامها لأغراض المراقبة والتشخيص أو توصيل العلاج لأجزاء محددة في الجسم أو بغية الدراسة والاستكشاف للأعضاء الداخلية.
استخدام كبسولة قابلة لِلابتلاع لمراقبة الحالة الصحية
أحد تلك الحلول من بنات أفكار باحثين وخبراء من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذين ابتكروا كبسولة قابلة للابتلاع مصنوعة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد التي تنقل البيانات عبر البلوتوث.
بعد ابتلاع الكبسولة، تكشف ذراعيها على شكل حرف Y وتستقر في معدة المريض، حيث يمكن أن تبقى لمدة شهر، وخلال تلك الفترة، تجمع الكبسولة معلومات عن جسم المريض وتنقل البيانات إلى الهاتف الذكي الخاص بالمستخدم.
كبسولة تشخيص
كشف عن هذه الابتكارات مجموعة من الباحثين الأستراليين الذين ابتكروا كبسولة إلكترونية مصممة لتحليل تكوين الغازات في الأمعاء الغليظة والصغيرة وإرسال البيانات إلى جهاز خارجي في فواصل زمنية مدتها 5 دقائق.
في دراسة نشرت بالمجلة عام 2018، كشف الباحثون كيفية استخدامهم كبسولة لاسلكية مزودة بأجهزة استشعار وبطارية ومقياس حرارة وجهاز إرسال لاسلكي لمراقبة إنتاج الغازات في الجهاز الهضمي البشري. بفضل المستشعرات، تستطيع الحبة اكتشاف مستويات الأكسجين والهيدروجين وثاني أكسيد الكربون.
استخدامها في حقن الأنسولين بالجسم
تحقن هذه الحبة الذكية الأنسولين مباشرة في معدة المرضى، ابتكار آخر طوره معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يمكن أن يحسن حياة الملايين من الأشخاص الذين يعانون من مرض السكري.
الطريقة الأكثر شيوعًا لتناول الأنسولين للأشخاص المصابين بداء السكري من النوع الأول هي عن طريق الحقن، لكن العملية يمكن أن تكون مزعجة ومؤلمة، لذلك، توصل الباحثون إلى بديل، حبة ذكية تسمى “SOMA“.
تتكون SOMA من كبسولة وإبرة صغيرة مصنوعة من الأنسولين المجفف بالتجميد، بمجرد تناول القرص، يذوب غلافه بالماء ويطلق الإبرة ويحقنها في المعدة، وبما أن جدار المعدة لا يحتوي على مستقبلات ألم، فإن العملية غير مؤلمة تمامًا.
استلهم الباحثون في تصميم SOMA من “السلحفاة النمرية”، وهي نوع من السلحفاة الموجودة في إفريقيا لها قشرة ذات قبة شديدة الانحدار، مما يسمح لها بتصحيح نفسها إذا تدحرجت على ظهرها.
يستغرق إطلاق الأنسولين بالكامل في مجرى الدم نحو ساعة، وبعد ذلك تتعطل الكبسولة في الجهاز الهضمي.
استخدامها في تنظير وعلاج القولون
يبدأ معظم سرطان القولون بنمو بسيط يسمى “الأورام الحميدة”، وهذه الأورام قبل السرطانية التي إن تم كشفها في البدء فحتمًا ستنجي الكثيرين من تطور المرض من أن يصبح خطيرًا.
التحضير لتنظير القولون بغية التشخيص هي تجربة غير مريحة، في بعض الأحيان يمكن أن يكون التحضير غير مناسب ومزعج، حيث يختار البعض التخلي عن الإجراء تمامًا، مما يمكن أن يشكل خطرًا على صحة المريض.
لهذا السبب، أنشأ المختصون “Check-Cap“، وهي كبسولة غير قابلة للهضم لفحص سرطان القولون لضمان عدم تخلف أي مريض عن إجراء التنظير.
تستخدم كبسولة Check-Cap التي يمكن ابتلاعها الأشعة السينية بجرعة منخفضة لفحص الجهاز الهضمي في أثناء تحركه على طول الجهاز الهضمي، وتُستخدم هذه الفحوصات لاكتشاف السلائل السرطانية في القولون بالمقام الأول، مما يجعل الكبسولة اختبارًا وقائيًا وليست علاجًا للسرطان.
وفي أثناء استخدامها الكبسولة لمراقبة وتشخيص القولون اكتشف الأطباء خصائص جديدة لم يعلموا بها من قبل وهي احتواء القولون على الأكسجين، وهو عكس الاعتقاد السابق عند الأطباء.
كبسولة علاج السرطان
أطلقت “Proteus” وهي شركة متخصصة في الطب الرقمي برنامج حبوب ذكية لتحسين الالتزام بالأدوية لمرضى السرطان.
تشتهر Proteus بتطوير “Abilify MyCite”، أول حبة رقمية معتمدة من إدارة الغذاء والدواء (FDA) عام 2017.
تم إنشاء الدواء المجهز بجهاز استشعار للمرضى الذين يعانون من النسيان في تناول أدويتهم، وبالنسبة للمرضى الذين يكافحون من أجل تناول الأدوية بانتظام، فإن التأكد من تناولهم الجرعة المناسبة في الوقت المناسب هو جزء حاسم من العلاج.
تستهدف الحبوب الذكية هذه المرضى الذين يعانون من سرطان القولون والمستقيم في المرحلة الثالثة أو الرابعة، فبدلًا من تناول دواء العلاج الكيميائي المنتظم، يتم إعطاء المرضى هذه الكبسولات المحتوية على العلاج، بمجرد ابتلاع القرص سيتم تنشيط المستشعر وإرسال إشارة إلى بوابة إلكترونية، ستظهر البيانات (الوقت واليوم الذي تم فيه تناول الدواء ونوع الدواء وحجم الجرعة).
وأفضل ما في الأمر أن تكلفة هذا العلاج للمرضى ليست أعلى من أدوية العلاج الكيميائي العادية.
ختامًا عقبات تواجه انتشارها
لا تزال أجهزة الاستشعار القابلة للهضم مفهومًا جديدًا، وتبقى فكرة ابتلاع جهاز استشعار يحتوي على جميع المكونات الإلكترونية “تحديًا نفسيًا” بالدرجة الأولى، كما تواجه الحبوب الذكية عقبات تنظيمية وقد يستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تصبح هذه التكنولوجيا سائدة.
ومثل أي تقنية أخرى يمكنها التقاط البيانات وإرسالها، فإن الأقراص الرقمية مصحوبة أيضًا بمخاوف تتعلق بالخصوصية، نظرًا لأن غالبية الحبوب الذكية مدمجة بمستشعرات يمكنها الاتصال بهاتف ذكي كي يسمح لمتخصصي الرعاية الصحية بالوصول إلى البيانات، فهناك دائمًا خطر إساءة استخدام شخص ما لها.