كشفت واشنطن عن نيتها تقليص وجودها العسكري في منطقة الشرق الأوسط والخليج، وذلك في ضوء ما أعلنه مسؤولون عسكريون أمريكيون لصحيفة “وول ستريت جورنال” بشأن سحب الولايات المتحدة بطاريات باتريوت ومقاتلات وجنود من السعودية بجانب الضغط من أجل سحب قواتها المتمركزة في سيناء ضمن قوات حفظ السلام هناك.
التقرير المنشور نقل عن المسؤولين الأمريكيين إشارتهم إلى سحب أربع بطاريات لمنظومة “باتريوت” الأمريكية (تنتجها شركة “رايثون”) من المنطقة، 2 منها تحميان المنشآت النفطية في السعودية، لافتة إلى أن بحث إدارة الرئيس دونالد ترامب تخفيض الوجود البحري كذلك في منطقة الخليج.
وألمحت الصحيفة إلى ضغوط يمارسها وزير الدفاع الأمريكي مارك أسبر، لسحب الـ400 جندي المتمركزين في شبه جزيرة سيناء بمصر، رغم معارضة وزارة الخارجية والحكومة الإسرائيلية لهذه الخطوة، خشية استعادة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” حضوره بشكل قوي مرة أخرى، بحسب التقرير.
ويرى بعض المقربين من دوائر صنع القرار في البيت الأبيض أن أنشطة الجيش الأمريكي في شمال سيناء تحمل في ثناياها إهدارًا لموارد وزارة الدفاع، منوهين أن الخطر على أرواح الجنود الأمريكيين هناك لا يبرر الميزانيات المنفقة على الأعداد الموجودة هناك، تزامن ذلك مع تصاعد المطالب بإعادة النظر في العلاقات مع القاهرة في ظل الانتقادات الموجهة لها بشأن سجلها الحقوقي.
يذكر أن القوات الأمريكية تشارك إلى جانب عدد من الدول الأخرى في تشكيل قوات لحفظ السلام في سيناء وفق اتفاقية السلام الموقعة بين “إسرائيل” ومصر 1979، وبمقتضاها يوجد 1156 جنديًا من 13 دولة مختلفة، من بينهم 400 مجند أمريكي، وقد خفضت واشنطن من حجم وجودها هناك عام 2016 من 700 جندي إلى 400 فقط.
وعلى الرغم من التقليل من شأن تلك الخطوة في إحداث أي تغير في المشهد السياسي في المنطقة، فإنها ربما تقود إلى عدد من الاستنتاجات والسيناريوهات بشأن دوافعها في هذا التوقيت، خاصة أنها تحمل الكثير من الأبعاد، بدءًا بأزمة النفط التي تعصف باقتصادات الدول النفطية، مرورًا بمساعي الدول خفض كلفتها الاقتصادية في ظل الخسائر التي منيت بها جراء الإجراءات التي فرضتها آليات التعامل مع فيروس كورونا المستجد، وصولًا إلى تصاعد الخلاف الأمريكي مع دول الخليج بشأن السياسة العامة المتبعة تجاه الصين في الآونة الأخيرة.
تراجع التهديد الإيراني
السيناريو الأول لتبرير تلك الخطوة، بأنها جاءت بعدما اعتبرت واشنطن أن التهديد الذي تمثله إيران على مصالحها في المنطقة تراجع، بحسب ما ذكره مصدر أمريكي لوكالة “فرانس برس”، لافتًا إلى أن اثنتين من البطاريات المنشورة في المنطقة، نشرتهما أمريكا في السعودية بعد الاعتداءات الصاروخية التي استهدفت منشآت نفطية في المملكة قبل عدة أشهر، مؤكدًا أنهما تغادران الآن.
تيار من المسؤولين الأمريكيين يرى أن التعزيزات العسكرية التي أقرتها أمريكا في الدول المجاورة لإيران، بجانب الضربات التي تلقتها طهران مؤخرًا وكان آخرها اغتيال الجنرال قاسم سليماني، كان لها تأثيرات قوية في الحد من النفوذ والقوة الإيرانية في المنطقة، هذا بخلاف انشغال السلطات الإيرانية بمواجهة وباء كورونا المتفشي لديها بصورة كبيرة، أرهق معها أجهزتها ومواردها كافة.
هذا السيناريو أقره بعض الخبراء العسكريين الأمريكيين، من بينهم المحارب السابق ديفيد دي روش، الأستاذ المساعد في مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا بجامعة الدفاع الوطني الأمريكية، الذي لا يعتبر هذا الإجراء مهمًا في حد ذاته، لافتًا في تصريحاته لـ”الجزيرة” أن بلاده أرسلت قواتها للمنطقة في ظرف معين ولفترة محددة، وحين ينتهي الظرف فإن بقاء القوات ليس منطقيًا، ومن ثم عليه المغادرة ودون أسباب أو مبررات.
الرأي ذاته تبناه المسؤول الأمريكي السابق، تشارلز دان، والباحث حاليًّا في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، حيث يرى أن واشنطن ما أقدمت على تلك الخطوة إلا حين استشعرت بتراجع التهديد الذي تمثله إيران، وبسؤاله عن علاقة هذا الإجراء بعلاقات واشنطن بطهران، أشار إلى عدم وجود مؤشرات قوية على هذا الربط، إلا أنه أوضح في الوقت ذاته أنه على ما يبدو أن الأوضاع تتحسن بصورة عامة في الآونة الأخيرة.
لا يعرف أحد، كما لم يشر المسؤولون، عن المعيار الذي اعتمدته واشنطن في تقييمها للخطر الإيراني، ومدى تراجعه من عدمه، وما إذا كانت تعتبر أن الأزمات الاقتصادية التي تمر بها ربما تكون دافعًا قويًا لإعادة النظر في سياساتها الخارجية لا سيما تجاه أمريكا، إلا أن صوتًا بات يظهر بين الحين والآخر بشأن احتمالية أن تكون هذه الخطوة بمثابة إشارة إيجابية من إدارة ترامب للإيرانيين ربما تكون أرضية للتوصل إلى اتفاق بينهما.
أزمة النفط
السيناريو الثاني الذي فرض نفسه تفسيرًا للخطوة الأمريكية، يتمحور حول الانهيار الكبير في أسعار النفط العالمية الذي كان على رأس أسبابه حرب الأسعار بين السعودية وروسيا، هذا بجانب التراجع الكبير على الطلب بسبب غلق الأجواء والحدود وهو الإجراء الاحترازي الذي لجأ إليه العالم لمواجهة تفشي وباء كورونا.
ألقت تلك الحرب بظلالها القاتمة على سوق النفط الصخري في أمريكا، وهو ما وضعه في موقف حرج أمام أصحاب شركات النفط والعاملين فيها، حيث طالبوه بالتدخل أكثر من مرة، بعد الخسائر الكبيرة التي تعرضوا لها بسبب هذا الانهيار الكبير في الأسعار التي جاءت بالسالب في بعض الأحيان.
وكان ترامب في أول رد فعل له على ما حدث، هدد بأن إدارته تبحث إمكانية وقف شحنات النفط القادمة من السعودية كإجراء لدعم قطاع التنقيب عن النفط الصخري في الداخل، جاء ذلك ردًا على مطالبات من بعض النواب الجمهوريين بوقف الشحنات بموجب سلطته التنفيذية.
وفي نهاية أبريل الماضي ذكرت وكالة “رويترز” نقلًا عن مصادرها بأن ترامب هدد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بقطع الدعم العسكري عن بلاده وسحب قواته من المملكة، إذا استمرت في إغراق الأسواق بالنفط في ضوء حرب الأسعار مع روسيا، إلا أن المتحدث باسم سفارة الرياض لدى الولايات المتحدة، فهد الناظر، نفى صحة تلك التقارير، لافتًا إلى أنه تم تحريفها.
وضمن هذا السيناريو هناك رأي يشير إلى أن إقدام الولايات المتحدة على تلك الخطوة ربما يغري الحوثيين بمزيد من الأعمال العسكرية ضد أهداف سعودية، وهو ما يشعل الأجواء في المنطقة، الأمر الذي ينعكس على سوق النفط – كعادة الأزمات والتصعيد -، فتعاود الأسعار ارتفاعها شيئًا فشيئًا، وهو ما حدث قبل ذلك في أثناء حرب الناقلات النفطية والتصعيد الدائر في مياه الخليج في الربع الأخير من العام الماضي.
التماهي السياسي مع الداخل
تعرضت إدارة ترامب خلال العام الأخير للعديد من الانتقادات بسبب علاقتها بدول الخليج لا سيما السعودية، حيث برزت مطالب عدة من برلمانيين وسياسيين بقطع العلاقات مع تلك الدول وتقليص الدعم إلى أقل درجة، كنوع من العقاب جراء الانتهاكات الحقوقية التي تمارسها، سواء في الداخل أم في اليمن.
ودومًا ما كان يُتهم ترامب بمحاباة ولي العهد السعودي على حساب مرتكزات بلاده الديمقراطية والإنسانية التي يتشدق بها الشارع الأمريكي، ولطالما أجهض مشروعات برلمانية لوقف الدعم العسكري المقدم للسعودية، مستخدمًا حق الفيتو الممنوح له في مثل هذه المواقف.
غير أن ترامب على أبواب انتخابات رئاسية قادمة، يسعى للفوز بولاية ثانية من خلالها، وربما وجد في خطوته تلك فرصة لمغازلة الأصوات المعارضة له في ملف علاقاته بالرياض، وعليه يساير مجموعة السياسيين والبرلمانيين المعروفين بمواقفهم المتشددة إزاء المملكة، الذين حملوها مسؤولية انهيار سوق النفط بفعل حرب الأسعار التي خاضتها ضدّ موسكو، وكان لها أثر سلبي على منتجي النفط في الولايات المتحدة.
التلويح بين الحين والآخر بسحب أو تخفيض الجنود الأمريكيين في سيناء يأتي هو الآخر في سياق الدعاية السياسية للانتخابات المقبلة، فالحفاظ على أرواح الجنود مهما كانت المغريات المادية، وتجنب تعريض حياة أي منهم للخطر في ظل استعادة الجماعات المسلحة نشاطها في تلك المنطقة مرة أخرى خلال الأيام الماضية، ربما يكون مادة دعائية ثرية يخاطب بها الرئيس الشارع الأمريكي قبيل الماراثون الانتخابي.
الحلب.. المال مقابل الحماية
عقلية التاجر المعروف بها ترامب، التي كان لها دور كبير في إنعاش الخزانة الأمريكية بمليارات الدولارات من هنا وهناك، لم تغب عن حزمة السيناريوهات التبريرية لقراءة الخطوة الأمريكية المفاجئة، حيث ذهب فريق إلى احتمالية أن تقف “نظرية الحلب” وراء القرار الأمريكي.
الحماية مقابل المال.. رفع ترامب هذا الشعار أمام الحكام السعوديين أكثر من مرة، وصل بعضها إلى التهديد بأنه لولا حمايته للعاهل السعودي فلن يستمر في منصبه أكثر من أسبوعين، وهي التصريحات التي باتت دارجة على لسان ترامب، حتى اعتادها السعوديين وما عادت تستفزهم كما كانت في السابق.
نجح ترامب خلال ولايته الأولى في حلب السعوديين بصورة لم تشهدها أي دولة أخرى، فمع أول زيارة له للرياض بعد توليه مقاليد الأمور في يناير 2017، عاد بقيمة استثمارات تجاوزت نصف تريليون دولار، عززها بعد ذلك بعشرات المليارات في صورة صفقات سلاح واستثمارات سعودية داخل الولايات المتحدة.
يعلم الأمريكان مدى قلق حلفائهم السعوديين من الإيرانيين، ومن ثم فإن إقدام واشنطن على سحب قواتها وصواريخها من المملكة، من الممكن أن يُغري الإيرانيين وحلفائهم كما أشرنا آنفًا، وهو ما يمثل تهديدًا للأمن والاستقرار السعودي في هذا الوقت الحرج، ومن ثم لن يجد السعوديون بدًا من الأبواب الأمريكية لطرقها، وحينها سيوظف ترامب عقليته السوقية، المال مقابل الحماية.
الصين.. علامة استفهام
أخذت الحرب التجارية بين أمريكا والصين منحى آخر بعيدًا عن مساعي النفوذ والسيطرة على النصيب الأكبر من سوق الاقتصاد العالمي، وصل إلى تبادل الاتهامات بين الطرفين بشأن مسؤولية كل طرف عن تفشي وباء كورونا، وهي التهمة التي من الممكن أن تطيح بطرف دون آخر حال ثبت صحة الاتهامات بشأنها.
وخلال الآونة الأخيرة طورت دول الخليج علاقاتها مع بكين، في ظل ما تتبناه من إستراتيجيات تنويع مواردها الاقتصادية بعيدًا عن عائدات النفط، وهو التوجه الذي أثار حفيظة الأمريكان بصورة دفعت خارجية ترامب إلى تهديد حلفائه في الشرق الأوسط من تعميق علاقاتها مع الصين.
في تصريح جدلي له مع “رويترز” قبل يومين، حذر مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر، أنه على دول الخليج العربية أن تأخذ علاقتها بالولايات المتحدة بعين الاعتبار عند التعامل مع الصين، مؤكدًا قوله “على هذه الدول أن تفكر في قيمة شراكتها مع الولايات المتحدة”، مضيفًا “نريد أن تبذل الدول الشريكة لنا العناية الواجبة”.
وفي ظل غياب المعلومات الرسمية عن دوافع واشنطن وراء خطوتها الأخيرة فإن الباب مفتوح لكل السيناريوهات والاحتمالات، ومن المرجح ألا تحتاج إلى وقت طويل لتقييمها، كما في الوقت ذاته وكما أشرنا بداية التقرير أنها لن تحمل التأثير المتوقع من البعض، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها أمريكا لهذا الإجراء.