خلال حملته الانتخابية، جمع قيس سعيد مجموعة من أنصاره للعمل معه، بعضهم من طلبته في الجامعة والبعض الآخر زملاء دراسة أو شغل ومن عائلته الموسعة والضيقة أيضًا، برز هؤلاء الأنصار على الساحة السياسية التونسية في أثناء تلك الحملة بمداخلاتهم الإعلامية وتحركاتهم الميدانية.
لكن عقب فوز سعيد بالرئاسة وحكم تونس، غاب العديد منهم عن المشهد إما كرهًا أو طوعًا، وبقيت قلة قليلة حول الرئيس، أبرزهم شقيقه نوفل سعيد الذي تحول وفق بعض التونسيين إلى رجل الظل في قرطاج رغم أنه لا يحمل أي صفة رسمية في الدولة، ما جعل البعض يتحدث عن عودة حكم العائلة في تونس.
مؤشرات عديدة
أول أمس الخميس، حطت طائرة تركية في مطار جربة جنوب البلاد، تحمل مساعدات طبية موجهة إلى ليبيا، أثار هذا الموضوع جدلًا في البلاد، فلم يصدر أي توضيح من السلطات الرسمية إلى أن جاء التوضيح من شقيق الرئيس نوفل سعيد وقال إن تونس تطبق القانون الدولي الإنساني لا أكثر ولا أقل.
قبلها بيومين، كشف نوفل سعيد أيضًا، أن شقيقه الرئيس ألغى صفقة شراء زهور وأكاليل لفائدة رئاسة الجمهورية بقيمة تناهز 300 ألف دينار، ونشر سعيد الوثيقة التي تثبت ذلك، دون أن يكشف مصدرها وهو الذي لا يحمل صفة رسمية في الدولة تمكنه من الإطلاع على هذه الوثائق.
قبل ذلك، كان نوفل سعيد قد دعا إلى ضرورة تغيير النظام السياسي “المريض” في تونس حسب تعبيره، مع تهجمه على المنظومة الحزبية واعتبارها سبب الداء في تونس، وهو نفس الموقف الذي يتبناه الرئيس بناء على تصريحاته وخطبه ولقاءاته الإعلامية قبل الانتخابات وبعدها.
تحكم نوفل سعيد في سياسات قرطاج ظهر جليًا في استقالة العديد من مستشاري الرئيس في الأشهر الماضية
كما دعا شقيق الرئيس في أكثر من مرة إلى تنقيح الدستور، معتبرًا إياهًا مهمة عاجلة وأكيدة بحجة أن تونس لم تعد تحتمل “العبث الدستوري”، كما سبق أن أبدى استغرابه من الإجراء المعمول به بالدستور الذي يجعل رئيس الحكومة مسؤولًا أمام برلمان فاشل في تقديره.
تدخلات شقيق الرئيس الذي لا يحمل أي صفة رسمية في الدولة أو أي منصب سياسي أو حزبي، لم تتوقف هنا، فبالعودة قليلًا إلى الوراء، تحديدًا للدور الثاني للانتخابات الرئاسية، عزل نوفل سعيد، وفق الناشط السياسي التونسي سعيد عطية، الرئيس الحاليّ عن التواصل مع المحيط الخارجي وقطع حتى حبل التواصل بينه وبين أبرز داعميه رضا لينين وسنية الشرايطي.
أضاف سعيد عطية في حديثه لنون بوست، “الجميع يتذكر أنه ليلة انتصار قيس سعيد بالرئاسة على حساب نبيل القروي كيف تحدث شقيقه مطولًا في الإعلام، في الوقت الذي غاب فيه الرئيس وخيم الصمت لوقت طويل”.
رسم سياسات الرئيس
قيس سعيد الذي فاز بأغلبية ساحقة بمنصب رئاسة البلاد في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، دون أن يقدم برامج انتخابية لأنه “لا يريد بيع الأوهام” ولأن “الشعب سئم الوعود الزائفة”، ترك مهمة رسم السياسات وتقديمها للشعب لشقيقه نوفل.
وفقًا لسعيد عطية، فقد “أظهرت منشورات نوفل سعيد الافتراضية سياسات رئاسة الجمهورية وظهر نوفل من خلال نفس تلك المنشورات أنه هو الراسم والمخطط لهذه السياسات، في ظل عدم تعقيب الرئاسة عليها سلبًا أو إيجابًا”.
يضيف محدثنا “بعد انتخاب شقيقه في منصب الرئاسة، قفز نوفل سعيد لواجهة الأحداث سعيًا منه للظهور كرجل الظل المتحكم في سياسات القصر، رغم وجود نادية عكاشة مدير ديوان رئيس الجمهورية ورشيدة النيفر الناطقة الرسمية”.
الرئيس قيس سعيد وشقيقه نوفل
يرى عطية في حديثه لنون أن الغموض المخيم حول محيط الرئيس قيس سعيد وبعض الارتباك الذي ساد أداء مؤسسة الرئاسة يؤكد وجود تجاذبات كبيرة تحدث بين شقيق الرئيس وبعض طاقمه الاستشاري”، وتابع “الواضح أن شقيق سعيد يمثل حاليًّا رقمًا صعبًا بمحيط قصر قرطاج وربما يمثل إشكالًا سياسيًا كبيرًا بالبلد”.
بدورها تقول المحللة السياسية التونسية خولة بن قياس: “ما يحدث في البلاد وما نلامسه ونراه يؤكد أن شقيق الرئيس هو من يحرك حجر الشطرنج في كواليس قصر قرطاج، في ظل وجود فريق ضعيف يعمل مع قيس سعيد”.
تحكم نوفل سعيد في سياسات قرطاج ظهر جليًا في استقالة العديد من مستشاري الرئيس في الأشهر الماضية، بعد أن رفضوا أن يكونوا مجرد ديكور في القصر، لا تتم استشاراتهم في المجالات التي عينوا من أجلها.
خشية من حكم العائلة
طالما ردد أستاذ القانون قيس سعيد في تصريحات متعددة قبل فوزه بالرئاسة أو بعدها بقليل، بأن عائلته لن يكون لها دخل في السياسة، كما طالما تعهد أنه لن يشغل أقاربه وأصهاره في قصر قرطاج، ولن يسعى لتمتيعهم بامتيازات.
صحيح أنه لم يعين أحدًا من هؤلاء إلى حد الآن بصفة رسمية، لكن الظاهر أن أخاه أصبح المتحكم في القصر وله تأثير كبير في الشأن العام واتخاذ القرارات، فقد غزا الحياة السياسية في تونس ولم يكتف بالتدخل في الكواليس ومن وراء ستار.
هذا الأمر يحيلنا إلى تجارب مريرة وذكريات مؤلمة عاشها التونسيون طيلة عقود من سطوة عائلات الرئيس على الحكم، وتدخل أقاربه في مقاليد الرئاسة، بدأ من عائلة الحبيب بورقيبة مرورًا بعائلة زين العابدين بن علي وأصهاره وصولًا إلى عائلة الباجي قائد السبسي.
هناك العديد من المؤشرات القوية تؤكد أن عائلة قيس سعيد تريد التدخل والتأثير المباشر في الحكم
لم ينس التونسيون بعد، زوجة الحبيب بورقيبة، وسيلة بن عمار الملقبة بـ”الماجدة” التي كان تتدخل في عمل الحكومة والرئاسة، كانت تعين وتعزل المسؤولين وتقرر باسم الرئيس، دون أن يعارضها أحد ومن يعارضها مآله السجن.
نفس التجربة تكررت مع ليلى بن علي وعائلتها، فقد تحكموا في كل شيء، وأحكموا سيطرتهم على قصر قرطاج والقصبة وباردو، يعينون ويعزلون كما يشاؤون، وتحكموا في الاقتصاد وفي العمل المدني والجمعياتي أيضًا، لم يتركوا شيئًا إلا وغزوه.
عبثت عائلة بن علي وعائلة زوجته “الطرابلسية” بمؤسسات الدولة وأخضعوها لإمرتهم وسلطانهم، عبثوا بالدستور والمؤسسة التشريعية، ليمهد الطريق أمام الرئاسة مدى الحياة سنة 2002، ولعبوا بالقضاء والمؤسسة الأمنية فقتلوا العشرات وشردوا المئات واعتقلوا الآلاف.
يخشى التونسيون تكرّر تجربة بن علي في الحكم
سنة 2014 وما تلاها من فترة حكم الباجي قائد السبسي، عرفت تونس نفس التجربة، فقد عمل السبسي على تكريس حكم العائلة وحاشيته المقربة، وحاول تثبيت حكم ابنه حافظ وفرض وصايته على الدولة ومؤسساتها، مستهينًا بالشعب الذي ثار ضد بن علي وإدارته.
من جهتها أبدت الصحافية خولة بن قياس خشيتها من عودة حكم العائلة في تونس، في ظل وجود سياسيين هواة في قرطاج، ورئيس لا نعرف هل هو قادر على حماية المسار الديمقراطي أم لا بعد أن أثبت عددم قدرته على حماية قصره من أخيه، وتختم بقولها “الشعب انتخب قيس سعيد ولم ينتخب عائلته أو أخاه”.
يخشى التونسيون من تكرار تجربة تونس المريرة مع حكم العائلة خلال فترة حكم سعيد، خاصة أن هناك العديد من المؤشرات التي تؤكد مساعي أفراد من عائلة الرئيس للتدخل والتأثير المباشر في الحكم بدلًا من البقاء على الهامش وخلف الستار.