ترجمة وتحرير: نون بوست
قبل عام واحد احتفلت إيران باليوم الوطني للجيش، من خلال استعراض ضخم لقدراتها العسكرية. حينها كانت التوترات تتصاعد بينها وبين إدارة ترامب، ولذلك استعرضت إيران دباباتها وصواريخها طويلة المدى محملة على ظهور الشاحنات التي كانت تجوب شوارع طهران. واستعرضت أيضا إيران تشكيلات منظمة تظهر تنوع الجيش، ضمت التركمان الذين كانوا يرتدون قبعات من الفراء الأبيض، وأبناء القبائل العربية الذين كانوا يرتدون سترات بنية مع أغطية للرأس باللونين الأسود والأبيض. وكان عناصر القوات الخاصة يرتدون بدلات الكاكي ويمرون أمام الرئيس حسن روحاني وكبار قادة الجيش الإيراني.
ولكن في هذا العام كان العرض مختلفا تماما، والرسالة أيضا. ففي ظل وجود أكثر من مائة ألف حالة إصابة بفيروس كورونا في إيران، ظهرت خلال اليوم الوطني للجيش تشكيلات عسكرية ترتدي الزي الواقي والأقنعة الطبية، إلى جانب طوابير من سيارات الإسعاف، والعيادات المتنقلة المحملة على ظهور شاحنات، وعربات عسكرية ترش كميات كبيرة من السائل المعقم في الهواء. وكان عناصر الفرقة الموسيقية العسكرية يؤدون عرضهم وكل واحد منهم بعيد عن الآخر مسافة مترين. كما أن الرئيس حسن روحاني لم يكن حاضرا في هذا العرض، ووجه رسالة للجيش قال فيها: “إن العدو اليوم خفي عن الأعين، والأطباء والممرضون في الخطوط الأمامية للمعركة. إن جيشنا ليس رمزا للعسكرة، بل مظهر من مظاهر دعم الأمة والحفاظ على مصالحها القومية.”
وهكذا فإن الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر اضطرابا في العالم على مدار سبعة عقود، اهتز في الشهرين الماضيين على وقع كارثة مزدوجة، بعد تفشي فيروس كورونا والانهيار التاريخي لأسعار النفط. ورغم أن إيران كانت في البداية البؤرة الرئيسية لتفشي الوباء في المنطقة، فإنه بحلول يوم الأربعاء الماضي، سجل 17 بلدا عربيا إلى جانب إيران وإسرائيل عددا جمليا من الإصابات يفوق 220 ألف، مع أكثر من 9 آلاف فارقوا الحياة.
وبالتزامن مع هذه الأزمة الصحية، تعرضت اقتصاديات دول المنطقة إلى صدمة عنيفة بعد انخفاض أسعار النفط إلى مستويات تاريخية في الشهر الماضي، وذلك بسبب اجتماع عاملين مؤثرين هما زيادة الإنتاج وانخفاض الطلب على النفط والغاز بسبب حالة الحجر الصحي المفروضة في العالم.
وقبل عام واحد، كان سعر برميل النفط عند مستوى 67 دولارا. ولكن خلال الشهر الماضي انهارت الأسعار في أنحاء العالم، ليصل سعر النفط الأمريكي لأول مرة إلى ما دون الصفر. وقد عجز المنتجون عن تخزين الكميات المتوفرة، واضطر البعض منهم لدفع المال للمشترين لتخليصهم من بعض الشحنات التي لم تكن هنالك مساحة لتخزينها. لذلك تقول سوزان مالوني، الباحثة في معهد بروكينغز الأمريكي: “لا أرى كيف سيتعافى الشرق الأوسط. هذه الأزمات سوف يكون لها تأثير مدمر على المنطقة، بسبب اجتماع فيروس كورونا مع انهيار أسعار النفط الذي تعاني منه دول تمثل مصدر دخل هام لباقي الدول المجاورة.”
ومنذ شباط/ فبراير الماضي، تغيرت الصور في بلدان الشرق الأوسط وتغيرت أجندات القادة السياسيين، بتغير الحقائق على أرض الواقع. ففي محافظة إدلب السورية، آخر المعاقل التي تدور فيها الحرب الأهلية، كانت هنالك شاحنة تحمل لافتات ضخمة يدوية الصنع تصور فيروس كورونا باللون الأحمر، تجوب شوارع المدينة لتحذير السكان الذين دمرتهم الحرب من هذا الوباء الداهم، الذي يفوق نظام الأسد خطورة.
وفي المملكة السعودية ظهر الحرم المكي وهو خال من الناس بشكل صادم. ففي مارس/ آذار قررت المملكة تعليق استقبال الحجاج والمعتمرين، رغم أن الحج يمثل أحد الأركان الخمسة للإسلام، وهذه الشعيرة لم تتوقف منذ غزو نابليون لمصر في 1798. كما أن العائلة المالكة السعودية دخلت في عزلة فعلية منذ أن أصاب الفيروس حوالي 150 من الأمراء الأميرات. وتشير التقارير الصحفية إلى أن الملك سلمان انعزل في جزيرة في البحر الأحمر قريبة من مدينة جدة، أما ولي عهده الطموح محمد بن سلمان فقد انعزل مع دائرة مقربيه في مكان بعيد في المنطقة التي ينوي تحويلها لمدينة المستقبل، وذلك بحسب تقرير لمجلة نيويورك تايمز الأمريكية.
هذه الرغبة في النجاة من الوباء طغت على أكبر الخلافات في المنطقة. إذ أن الإسرائيليين أغرقوا ورشات الخياطة في قطاع غزة بطلبيات تصنيع الأقنعة الطبية وباقي الملابس الواقية من العدوى، فيما اختفت الرسوم الجدارية المعادية لإسرائيل من جدران قطاع غزة وحلت محلها رسوم تجسد فيروس كورونا وأشخاص يرتدون الأقنعة.
أما السعودية فقد أعلنت عن وقف لإطلاق النار في الحرب التي تخوضها منذ خمس سنوات في اليمن، ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران، وهي خطوة اعتبرت مؤشرا على الرغبة في إنهاء الحرب.
أغلب دول الشرق الأوسط تفتقر إلى إطارات طبية ومستشفيات ومعدات تمكنها من توفير الرعاية الصحية اللازمة أثناء تفشي الفيروس، كما تفتقر أيضا للموارد المالية لإنقاذ اقتصادياتها من الانهيار
هذه الأزمة المزدوجة الصحية والنفطية، تأتي في ظل تواصل الاضطرابات والعنف في المنطقة، حيث يشهد الشرق الأوسط ثلاثة حروب أهلية، واحدة في اليمن تدور رحاها منذ خمس سنوات، والأخرى في ليبيا منذ ست سنوات، وفي سوريا منذ تسع سنوات. إلى جانب ذلك هنالك احتجاجات في العراق منذ أشهر عديدة، وتعرض لبنان لانهيار نظامه المصرفي، وشهدت إسرائيل انتخابات هي الثالثة في غضون عام واحد، فيما يقبع الملايين من اللاجئين والنازحين في مخيمات مؤقتة وبدائية في الأردن والعراق ولبنان، مع عودة الهجمات الانتحارية والاغتيالات التي يقوم بها تنظيم الدولة.
وباستثناء إسرائيل، فإن أغلب دول الشرق الأوسط تفتقر إلى إطارات طبية ومستشفيات ومعدات تمكنها من توفير الرعاية الصحية اللازمة أثناء تفشي الفيروس، كما تفتقر أيضا للموارد المالية لإنقاذ اقتصادياتها من الانهيار.
لذلك فإن هذه الأزمة تمهد الطريق للمزيد من الاضطرابات والتوتر في الشرق الأوسط. إذ أن حوالي 60 بالمائة من سكان المنطقة أعمارهم تحت الثلاثين، وهو ما قد يؤثر بالإيجاب على عدد الناجين من الوباء. إلا أن هذا الجيل الشاب كان أيضا في طليعة المحتجين في هذه الدول، والآن قد يعود مجددا للتعبير عن غضبه، لأنه سيكون الشريحة الأكثر تضررا بارتفاع معدلات البطالة. وفي العديد من الدول في الشرق الأوسط، كان حوالي ثلث الشباب يعانون من البطالة قبل الوباء. وفي لبنان مثلا، خرج المتظاهرون وتحدوا قرار الحجر الصحي في طرابلس، وقاموا بحرق البنوك للاحتجاج على انهيار العملة الوطنية وتأثير ذلك على معيشتهم. وقد توفي شاب يبلغ من العمر 26 عام اسمه فواز السمان، في المواجهات مع الجيش اللبناني. وسرعان ما أطلقت عليه تسمية شهيد ثورة الجوع. وتقول مالوني: “إن هذه الحادثة مثلت نقطة تحول خطيرة في الأوضاع، وسيكون لها تأثير سياسي طويل المدى، وتؤدي لتغذية المشاعر الشعبية وغضب المواطنين ضد حكوماتهم.
أما إيران التي تعد البؤرة الرئيسية للوباء، فإنها أحصت حوالي نصف العدد الجملي للإصابات في الشرق الأوسط. وقد تم إثبات وجود العديد من حالات العدوى في 23 دولة في القارات الأربعة، منها الولايات المتحدة والسويد وتايلاند ونيوزلندا، كلها مصدرها إيران. هذا الوباء لا يزال في مراحله الأولى في أجزاء أخرى من الشرق الأوسط، بحسب ما أكده بول سالم رئيس معهد دراسات الشرق الأوسط في واشنطن، الذي يحذر من أن “المناطق الأكثر هشاشة، مثل مخيمات اللاجئين السوريين والفلسطينيين في الدول المجاورة، والأحياء الفقيرة في الدار البيضاء والجزائر العاصمة، ومناطق النزاع في اليمن وليبيا، ومناطق الكثافة السكانية العالية مثل قطاع غزة، لديها قدرة محدودة على التعامل مع تفشي العدوى”.
ويضيف بول سالم: “بالنظر إلى عدم وجود أي علاج أو تلقيح ضد المرض، وضرورة تواصل الحجر الصحي العام لوقت طويل، فإن حصيلة الخسائر البشرية خلال العام أو العامين المقبلين قد تكون هائلة. وعدد الأشخاص الذين سيموتون في الشرق الأوسط بسبب الوباء يمكن أن يتجاوز عدد ضحايا الحروب التي شهدتها المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى.”
وتواجه الحكومات أيضا تحديات اقتصادية صعبة، إذ أن الجزائر التي يوجد فيها أعلى نسبة وفيات بالفيروس في أفريقيا، وتحصل على 60 بالمائة من مداخيلها من بيع المحروقات، تتعرض الآن لأزمة حادة. وخلال هذا الأسبوع، أعلن الرئيس عبد المجيد تبون أن الموازنة العامة سوف يتم خفضها إلى النصف. كما أن ميزانية المملكة السعودية للعام 2020 تم احتسابها على فرضية أن سعر البرميل سيكون أكثر من ثمانين دولارا. هذا البلد الذي يعد أكبر منتج للنفط، والذي يعتمد على هذه الموارد لتأمين 87 بالمائة من مداخيله، أصبح الآن مضطرا لسحب 32 مليار دولار من احتياطاته الأجنبية، والتداين من أجل تأمين نفقاته. أما مخطط رؤية 2030 الذي يهدف إلى تعصير اقتصاد البلاد وتنويع موارده، والذي يشرف عليه ولي العهد، فإن تأمين نفقاته يبدو الآن غير ممكن.
وجبات الإفطار بات الآن يتم تناولها على نطاق ضيق، مع تحضير وجبات بسيطة بسبب حالة الحجر الصحي
يشار إلى أن الاتفاق المبرم في الشهر الماضي بين 23 دولة مصدرة للنفط، من أجل خفض الإنتاج بحوالي 10 ملايين برميل يوميا، قد تكون له آثار محدودة على الأسعار. ففي نيسان/ أبريل، توقعت الوكالة الدولية للطاقة أن الطلب العالمي على النفط سوف ينخفض بمقدار 29 مليون برميل يوميا. ولذلك فإن العراق وليبيا وإيران والدول الخليجية تتجه نحو تكبد عشرات الملايين من الدولارات التي كانت تحصل عليها سابقا.
وللتعامل مع هذا الوباء، يبدو أن بعض حكومات المنطقة المعروفة باستبدادها أصبحت الآن أكثر تشددا من ذي قبل، حيث قامت بغلق الفضاءات العامة، وفرضت سيطرة على حرية تعبير وتصرفات المواطنين الذين يواجهون المزيد من البطالة والجوع. كما أن دولة الإمارات التي سجلت أكثر من 15 ألف حالة إصابة بفيروس كورونا، فرضت غرامة تفوق قيمتها 5 آلاف دولار على أي شخص يناقض الرواية الرسمية حول الوباء. والمملكة السعودية التي سجلت أكثر من 30 ألف إصابة فرضت إجراءات حظر تجوال صارمة ومنعت الدخول والخروج من عدة مدن. كما أن مصر التي سجلت أكثر من 7 آلاف حالة عدوى، قررت تجريم “نشر الذعر حول الوباء”، بينما منح البرلمان المزيد من الصلاحيات المطلقة للرئيس عبد الفتاح السيسي والأجهزة الأمنية. ويقول جو ستورك، مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة هيومن رايتس ووتش: “إن الحكومة المصرية تستخدم الوباء كذريعة لتوسيع نطاق قانون الطوارئ عوضا عن إجراء الإصلاحات. يجب على السلطات المصرية التعامل مع المخاوف الجدية على الصحة العامة، دون وضع أدوات إضافية للقمع.”
وختاما، تزامنت هذه الأزمة المزدوجة مع حلول شهر رمضان، الذي بدأ في 24 أبريل/ نيسان. وفي العادة يكون هذا الشهر واحدا من أكثر فترات هذا العام سعادة وابتهاجا بالنسبة للمسلمين، الذين يصومون من شروق الشمس إلى غروبها، ثم يفطرون في آخر اليوم في أجواء احتفالية تجتمع فيها العائلات والأقارب والأصدقاء والجاليات الإسلامية. ولكن وجبات الإفطار بات الآن يتم تناولها على نطاق ضيق، مع تحضير وجبات بسيطة بسبب حالة الحجر الصحي. وكانت الأردن من بين عدة دول إسلامية منعت الصلاة في المساجد في رمضان. ويقول بول سالم: “لو كان قادة دول المنطقة يتمتعون بالحكمة، لقرروا خفض الإنفاق العسكري، وإنهاء كل تدخل مباشر أو غير مباشر في الحروب، والتركيز عوضا عن ذلك على قضايا الصحة والشأن العام. وكانت موجات الاحتجاجات التي سبقت الوباء قد أظهرت أن الشرق الأوسط بات في غاية الجهوزية للتغيير، ولكن في ظل تاريخ المنطقة الحافل بالدكتاتورية وأمراء الحرب والميليشيات والنخب الفاسدة، فإن حظوظ النجاح في تحقيق التغيير تبدو ضعيفة. وهذا الأمر لا يبشر بالخير بالنسبة لمستقبل دول المنطقة بعد انقشاع وباء كورونا.
المصدر: نيويوركر