بعد طول انتظار، أفرج الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في عز الأزمة الصحية التي تشهدها البلاد منذ شهرين كاملين، بسبب تفشي وباء كورونا، عن مسودة الدستور المنتظر، ليكسر الجمود السياسي ويعيد الحياة إلى الساحة خاصة أنه استبق هذه الخطوة بإعلانه عن انتخابات برلمانية ومحلية مبكرة قبل نهاية 2020.
وتضمنت مسودة الدستور الجديد الموجود حاليًّا على طاولة الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام، في انتظار الشروع في مناقشتها الأسبوع القادم، مفاجآت بعضها لم تكن متوقعة، أبرزها إخراج الجيش الجزائري من عزلته العسكرية.
الجيش خارج الحدود لأول مرة منذ 1973
بحسب المادة 30 من الدستور الجديد، أصبح بإمكان الجيش الجزائري أن يتجاوز الحدود للمشاركة في مهمات ما بشروط وهي الخطوة التي وصفها الرأي العام والطبقة السياسية بـ”المفاجئة وغير المتوقعة”.
وتضمنت مسودة التعديل الدستوري الجديد التي طرحتها رئاسة الجمهورية للنقاش، تعديلات تسمح بإرسال وحدات من الجيش إلى الخارج بشروط وهو خيار لم يكن مسموحًا به منذ السبعينيات، كما أنه يمثل أحد ثوابت العقيدة العسكرية الجزائرية، حيث كانت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 آخر حرب شاركت فيها وحدات من الجيش الجزائري خارج البلاد.
وتنص المادة 31 الجديدة على ما يلي: “يمكن للجزائر في إطار الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية وفي ظل الامتثال التام لمبادئها وأهدافها أن تشارك في عمليات حفظ واستعادة السلام”، ويعتبر هذا التعديل المقترح تحولًا في العقيدة العسكرية الجزائرية التي ظلت منذ السبعينيات تمنع إرسال وحدات عسكرية للخارج، وذلك بموجب نص دستوري.
وأعطت التعديلات الجديدة، الضوء الأخضر للقاضي الأول للبلاد، بعد استشارة البرلمان بغرفتيه، للسماح لجيش بلاده بالمشاركة في مهمة ما خارج الحدود الإقليمية، وهو ما يعد تغييرًا جذريًا ولافتًا في العقيدة العسكرية للجيش، فقتال القوات الجزائرية خارج الحدود كان من بين الخطوط الحمراء التي لا ينبغي تجاوزها منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
في السياق يصف النائب البرلماني السابق محمد حديبي، هذا القرار بـ”الصائب” لأن العقيدة العسكرية المعمول بها في وقت سابق وضعت الدولة الجزائرية دائمًا في حرج، ويقول لـ”نون بوست”: “لأول مرة يحدث تغيير جذري في عقيدة الجيش ويوسع نشاطه الخارجي”.
ويرى محمد حديبي أن أكبر المتضررين من هذا القرار هم اللاعبون الدوليون بدول الجوار والساحل الإفريقي والعمق الإفريقي، الذين عملوا على تحييد الجزائر من التأثير في توجيه مآلات الأحداث الجارية في المنطقة الإقليمية بمحيط الجزائر ووضعها في زاوية الابتزاز الأمني والعسكري والاقتصادي، ومما زاد الحاجة أكثر هو إعادة رسم الخريطة السياسية وتشكل الكيانات والدول، ويؤكد النائب البرلماني السابق أن هذا القرار يمثل كابوسًا لهذه الدول التي كانت في راحة من أمرها.
ومن جهته يقول الإعلامي الجزائري أحسن خلاص، إن الجزائر أرادت أن يكون لها دور في حل النزاعات بإشراك القوات المسلحة في إطار أممي ولا علاقة لها بعقيدة الجيش.
ويصف المتحدث، هذا الخيار بـ”الإستراتيجي” لأنه لا يعقل أن ترأس لجنة السلم والأمن الإفريقي وهي لا تساهم في حفظ السلام بقواتها بل تكتفي بدعم مالي ولوجيستكي، ولا يعقل أن تمارس الجزائر الوساطة في إطار الأمم المتحدة دون أن يكون لها إسهام عسكري.
بينما ترى حركة البناء الوطني (حزب سياسي محسوب على التيار الإسلامي في البلاد )، أن إتاحة الدستور للجيش الجزائري بالمساهمة خارج الحدود، يحتاج إلى “توضيحات وتحديد”، بسبب المخاطر التي قد تنجر عنه مستقبلًا، فالمهام الملقاة على كاهل الجيش الجزائري متعددة وكبيرة ومتشعبة، لذلك تعتقد الحركة أن الموضوع يحتاج إلى “توضيح أكثر حتى لا نستنزف جيشنا في معارك يفتعلها الكبار وندفع ثمنها نحن والصغار، ويبقى ظهر الجزائر عاريًا”.
نائب رئيس وتعزيز صلاحيات رئيس الحكومة
ومن بين ما تضمنته مسودة الدستور الجديد، استحداث منصب نائب رئيس الجمهورية يعينه الرئيس، وهو المنصب الذي أثار جدلًا كبيرًا خلال الولاية الرئاسية الأخيرة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بعد تعاظم مشاكله الصحية بسبب إصابته بجلطة دماغية عام 2013، أقعدته على كرسي متحرك.
ويمنح الدستور الجديد للقاضي الأول للبلاد، حق إقرار حالة الطوارئ لمدة 30 يومًا، لكن شرط الحصول على موافقة البرلمان لتجديدها أو تجديد حالة الحصار الاستثنائي، وهو ما يعزز سلطة البرلمان وصلاحياته الرقابية على الحكومة واستجوابها وحق سحب الثقة منها.
ومنعت المسودة الجديدة، النواب من الاستمرار لعهدات طويلة في البرلمان، حيث تم تحديد العهدة البرلمانية بعهدتين فقط، إضافة إلى ذلك منع استعمال الحصانة النيابية في أي قضايا وممارسات لا علاقة لها بالعمل النيابي، إضافة إلى دسترة الهيئة العليا لتنظيم الانتخابات.
وعززت مسودة الدستور الجديد صلاحيات رئيس الحكومة ومبدأ استقلالية العدالة من خلال استبعاد مهام وزير العدل من المجلس الأعلى للقضاء بعدما كان في وقت سابق هذا الأخير رئيس المجلس بالنيابة عن رئيس الجمهورية، إضافة إلى ذلك تضمنت مسودة الدستور الجديد أحكامًا تضمن احترام الحريات الأساسية على غرار تجريم التعذيب وسرية المراسلات السرية والخاصة والمعطيات ذات الطابع الشخصي، وحماية ممارسة العبادات دون تمييز، وحق الاجتماع والتظاهر وحرية الصحافة والتعبير.
الأمازيغية مادة صماء
ومن بين المواد التي وجهت لها انتقادات بالجملة، المقترح القاضي بإدراج اللغة الأمازيغية كلغة رسمية ووضعها في خانة المواد غير القابلة للتعديل أو ما يعرف بالمواد الصماء، وهي التي تشمل عادة موضوع الهوية، وفي هذا السياق يقول الأستاذ في القانون الدستوري، قزو أمحند آكلي، في تصريح لـ”نون بوست”: “نقل اللغة الأمازيغية إلى جملة المواد الصماء الثابتة تعتبر من أهم الثغرات التي تضمنها الدستور الجديد، لأنه كان من المفروض تفادي استحداث لغتين في مجتمع واحد”، ويعتقد المتحدث أن هذا المقترح من شأنه خلق انقسامات مستقبلًا.
ويرى الأستاذ في القانون الدستوري، أن المسودة تضمنت ثغرات بالجملة، أبرزها عدم الإشارة إلى المرجعية الإسلامية، ويشير إلى ضرورة توافق التشريعات الجزائرية مع المرجعية الإسلامية، وأيضًا إبقاء المجلس الأعلى للقضاء تحت سلطة رئيس الجمهورية رغم استبعاد وزير العدل والنائب العام للمحكمة العليا نهائيًا من المجلس، بعدما كان وزير العدل هو رئيس المجلس بالنيابة عن رئيس الجمهورية، ونقل رئاسة المجلس بالنيابة إلى رئيس المحكمة العليا.
كذلك اعترضت حركة البناء الوطني، على إدراج اللغة الأمازيغية في خانة المواد الصماء غير القابلة للتعديل مستقبلًا، وقالت في بيان لها: “الجزائر واحدة وشعبها واحد واللغة الوطنية الرسمية واحدة وغير قابلة للنقاش والمزايدة، وللرضوخ أمام جماعات الضغط “، في تلميح منها إلى وجود ضغوط لتصنيفها في خانة المواد الصماء غير القابلة للتعديل.
وفي تعليقه على ما ورد داخل المسودة، يقول الإعلامي الجزائري أحسن خلاص، في تصريح لـ”نون بوست”: “ما تم الإفراج عنه ليس بدستور جديد بل تحسينات وتعديلات تقنية للدساتير السابقة ابتداءً من 1989″، ويعتقد أحسن خلاص أن اللجنة توخت الحذر من الخوض في الخيارات السياسية الكبرى، إذ أبقت على جوهر دستور 1989 والتعديلات المعتبرة التي أدرجت عليه في 1996 واكتفت بإدراج تحسينات فنية بعضها كانت متوقعة والبعض الأخرى أحدثت مفاجأة.
تحفظ وتريث
بالمقابل طرحت حركة البناء الوطني تحفظات بشأن ما ورد في مسودة الدستور، وأثارت مسألة تكريس مطالب الحراك وشعاراته، وقالت على لسان رئيسها: “كان متوقعًا أن تكرس الوثيقة مطالب الحراك الشعبي وشعاراته وتتضمن الديباجة جميع مطالبه، وتعلن عن قطيعة مع كل ممارسات الماضي البالية، وتؤسس لبناء طبقة سياسية جديدة غير ملوثة ولا متورطة في فساد سياسي ولا مالي”.
وأثار رئيس حركة البناء الوطني عبد القادر بن قرينة، المسألة المتعلقة بـ”صلاحيات الرئيس الجزائري”، وقال إنها تحتاج إلى تدقيق أكثر بما يستجيب لبناء دستور يوازن بين السلطات، ويشير المتحدث إلى أن الوثيقة تضمنت العديد من الحقوق التي لم تكن مدرجة في الدستور السابق، فهي بالضرورة محل ترحيب ولكن لا ندري ما معنى إطلاق الحريات العامة وعدم تقييدها بالقانون، وكثير من الممارسات المرفوضة شعبيًا وحضاريًا يضعها أصحابها في خانة الحريات ولم يقيدها أي قانون”.
وفي تعليقها على ما ورد في مسودة الدستور، اعتبرت حركة مجتمع السلم الجزائرية (أكبر الأحزاب الإسلامية في البلاد)، أن مخرجات اللجنة الدستورية لم تلب الطموحات المرجوة ولا تعبر عن طموحات أطياف الشعب الجزائري خلال الحراك الشعبي ومطالب التغيير المجمع عليها.
المسودة لم تفصل في طبيعة النظام
بحسب ما ورد في بيان الحركة، فإن مسودة الدستور لم تفصل في طبيعة النظام السياسي، إذ أبقته هجينًا لا يمثل أي شكل من أشكال الأنظمة المعروفة في العالم (الرئاسية أو البرلمانية أو شبه الرئاسية)، حيث تحرم الوثيقة الأغلبية من حقها في التسيير، ولا تلزم تسمية رئيس الحكومة من الأغلبية، وهو أمر يناقض كلية معنى الديمقراطية التمثيلية، ويلغي جزءًا أساسيًا وجوهريًا من الإرادة الشعبية المعبر عنها في الانتخابات التشريعية.
وكانت حركة مجتمع السلم الجزائرية التي تمثل أكبر تنظيم لإخوان الجزائر، قد طالبت بنظام برلماني، وكشف القيادي في الحركة أحمد صادوق، في تصريح لـ”نون بوست” أن النظام البرلماني يعطي صلاحيات أكثر للبرلمان لمراقبة عمل الحكومة بل وإقالة الحكومة إذا اقتضى الأمر ذلك بهدف تكريس المحاسبة والشفافية والرقابة.
ويصف أحمد صادوق المرحلة الحاليّة بـ”الغريبة”، فالدستور المعمول به حاليًّا وعدله الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة عام 2016، أعطى صلاحيات إمبراطورية لرئيس الجمهورية والبرنامج الذي تطبقه الحكومة هو برنامج الرئيس لكن هذا الرئيس لا يحاسب في البرلمان، يعني يحكم ويقرر لكنه لا يحاسب، ويصف المتحدث هذا الوضع بـ”الخطير” لأنه يجعل النظام السابق ورئيسه يتغولان على كل المؤسسات.
وقالت الحركة: “الوثيقة الدستورية ذات طابع شعبوي يؤدي إلى التضييق على الأحزاب من حيث التأسيس والممارسة السياسية والحق الكامل لتمثيل ناخبيهم، وهو ما يؤثر سلبًا على الأداء البرلماني بشكل مخالف لكل التوجهات الدستورية العالمية”.
إضافة إلى ذلك لم تعط هذه الوثيقة الصلاحيات الكافية للهيئات المنتخبة والكفيلة بتجسيد المادتين السابعة والثامنة من الدستور (تنصان على الإرادة الشعبية) اللتين تمثلان مطلبًا أساسيًا من مطالب الحراك.
وأبدت الحركة قلقها من الغموض المحيط بمنصب نائب الرئيس من حيث دوره وصلاحياته وطريقة تعيينه، واعتبرت أن “التعديلات الدستورية لم تلغ المخاوف على صعيد الحريات وتأسيس الجمعيات وحرية الإعلام، بسبب إحالة ترتيبات ذلك إلى القوانين والتنظيمات، وعدم توفير أي ضمانات دستورية في المشروع لنزاهة الانتخابات، إضافة إلى وجود مواد مبهمة في الدستور”.