“زيادة الأعداد مسؤولية المواطن، والدولة قامت بتوفير كل شيء، والنظام الصحي المصري من أقوى الأنظمة الصحية في العالم التي استجابت لإجراءات مواجهة كورونا”، أثارت وزيرة الصحة المصرية هالة زايد، بهذا التصريح حالة من الجدل بخصوص ما يحمله من مؤشرات أقلقت البعض بشأن قدرة الدولة على مواجهة تفشي فيروس كورونا.
التصريح الصادر أمس يأتي بعد القفزة الكبيرة التي شهدتها معدلات الإصابة اليومية بالفيروس، حيث وصل إلى 488 حالة إصابة جديدة ليرتفع العدد إلى 8964 إصابة إجمالية حتى الـ9 من مايو 2020 فيما كانت الوفيات 11 حالة ليصل إجماليها 514 حالة، وهي الأرقام التي جاءت بمثابة الصدمة لكثير من المصريين.
مثار القلق الأبرز هو ما ألمحت إليه الدولة من تبينها لتوجه عام يقضي بعودة الحياة الاقتصادية تدريجيًا بعد عيد الفطر، في ظل الخسائر التي مني بها الاقتصاد المصري والضغوط التي يمارسها رجال الأعمال لإعادة تدوير العجلة مرة أخرى قبل تفاقم الخسائر، وهو ما يعني بشكل واضح اختيار إستراتيجية “مناعة القطيع” كحل وحيد للتعايش مع الفيروس.
راهنت الحكومة المصرية بداية الأزمة على قلة أعداد الإصابات في ظل تراجع معدلات المسوح والتحليلات التي تجرى للمواطنين، هذا بجانب ما كان يعول عليه بشأن وعي المواطن، غير أن القفزات الكبيرة التي شهدتها المعدلات خلال الأسبوعين الأخيرين ضربت بإستراتيجيات الحكومة عرض الحائط لتجد نفسها في مأزق حقيقي.
ومع الإطالة المتوقعة لأمد الأزمة وفي ظل الإمكانات المتواضعة للنظام الصحي المصري في مقابل عدم استجابة الغالبية العظمى من المصريين لإجراءات الوقاية يبقى السؤال: هل ترفع الحكومة المصرية يدها شيئًا فشيئًا ليجد المواطن نفسه مع الوباء وجهًا لوجه لحين التوصل إلى علاج فعال للفيروس؟
إلى متى يصمد القطاع الصحي؟
الوضع المتدني للنظام الصحي في مصر يجعل الرهان عليه في مواجهة الأزمة الحاليّة رهانًا خاسرًا، خاصة بعد فشل العديد من الأنظمة الصحية في كبريات دول العالم في التماشي مع الوباء، رغم الفارق الكبير في مستوى الخدمة وأعداد المصابين وإستراتيجيات العلاج.
ومن حيث قدرات الدولة على التصدي لكورونا، تقع مصر في المرتبة الـ87 من بين 195 دولة في درجة الاستعداد لمواجهة الفيروسات الوبائية، فيما تحتل المرتبة الـ108 في درجة الاستعداد لحالات الطوارئ، وذلك وفقًا لمؤشر الأمن الصحي العالمي.
الأرقام المعلنة بشأن معدلات الإصابة وفق الإحصاءات الرسمية منذ كشف أول حالة في منتصف فبراير الماضي، لم تكن مقلقة بالمرة، فالرقم 8964 وهو إجمالي عدد الإصابات أقل بكثير مقارنة بدول العالم، وهي الرسالة التي عزف عليها كثيرًا الإعلام الموالي للنظام طيلة الفترة الماضية، في محاولة لتصدير صورة أن كل شيء تحت السيطرة، وهو ما كان بالفعل قبل أن تتفاقم الأوضاع لاحقًا خلال الشهر الأخير.
يتضح خداع هذا الرقم مع معرفة إجمالي عدد المسوحات التي تم إجراؤها ونسبتها إلى عدد المواطنين، مقارنة بالدول الأخرى مثلًا صاحبة أرقام الإصابات الكبيرة، حتى يتسنى للجميع الوقوف على حجم تفشي الوباء.
ووفقًا لموقع www.worldometers.info/coronavirus فإن الحكومة المصرية أجرت مسحًا لـ90 ألف مواطن فقط، من إجمالي 100 مليون هم إجمالي عدد السكان، بنسبة قدرها 879 مسحًا لكل مليون مواطن، وهو رقم متواضع جدًا قياسًا بدول أخرى مجاورة مثل السعودية والإمارات وقطر وتركيا.
هذا المؤشر يعيدنا مرة أخرى إلى خريطة النظام الصحي في البلاد في محاولة للبحث عن إجابة بشأن قدرتها على الصمود حال خروج الوضع عن السيطرة، وهو الأمر المتوقع حال بقيت المعدلات وفق قفزاتها الأخيرة، ما دفع نقابة الأطباء المصرية لتوجيه خطاب للحكومة بضرورة فرض حظر كلي شامل لمدة أسبوعين لوقف هذا النزيف المتصاعد في الأعداد والوفيات.
وفق البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي)، يبلغ إجمالي عدد الأطباء البشريين 120606 أطباء، وإجمالي عدد هيئة التمريض هو 219452 ممرضًا وممرضةً، وعدد الصيادلة في مصر هو 52692.
وبحسبه بسيطة فإن هناك طبيبًا واحدًا فقط لكل 805 مواطنين، وممرض لكل 443 شخصًا، كذلك الوضع في عدد الأسرة في المستشفيات، فهناك سرير واحد فقط لكل 736 مواطنًا، ومستشفى لكل 52569 مصريًا، وهي أرقام صادمة تعكس حالة التدهور الكبير في تلك المنظومة التي حذر الكثير من انهيارها سريعًا بسبب الجائحة.
أما من حيث القدرات الإسعافية، يبلغ عدد سيارات الإسعاف 2912 سيارةً، وعدد مراكز الإسعاف 1464 مركزًا في كل محافظات مصر، أما عدد المستشفيات في شتى محافظات الدولة فيبلغ 1848 بالإضافة إلى 89 مستشفى جامعيًا يتبع وزارة التعليم العالي.
الكارثة تتعاظم مع فقدان المنظومة لكوادرها الطبية، حيث فقدت المستشفيات والمراكز الصحية والوحدات وملاحقها أكثر من 30% من الأطباء، بسبب الاستقالات المقدمة للسفر للخارج، وبحسب الإحصاءات الرسمية فإن قرابة 6300 طبيب وطبيبة تقدموا باستقالاتهم من العمل في وزارة الصحة منذ عام 2016 وحتى بدايات 2019.
طبيعي أن هذا التهالك الذي باتت عليه المنظومة الصحية المصرية على مدار عشرات السنين، سينعكس بالفعل على مستوى رضا الشعب الذي يتلقى معظمه خدماته العلاجية في المستشفيات الحكومية التي يعاني كثير منها من موت إكلينيكي، وهو ما تثبته دراسات استطلاعات الرأي.
وكانت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية قد نشرت تقريرًا في 30 من أبريل الماضي أشار إلى احتمالية تكرار سيناريو “الإنفلونزا الإسبانية” عام 1918 في مصر، وبداخله استند كاتب التقرير أستاذ العلوم السياسية نائل شامة إلى استطلاع رأي أجرته مؤسسة “الباروميتر العربي” كشف أن 31% فقط من المصريين راضون عن الأداء الإجمالي للخدمات الصحية الحكومية في الفترة من عام 2018 إلى عام 2019، بانخفاض قدره 19 نقطة عن عام 2010.
الموت أو الإفلاس.. مأزق الحكومة
أيهما أكثر خطورة على الدولة: فرض المزيد من القيود لإلزام الناس في بيوتهم حتى السيطرة على الوباء ولو كان ذلك على حساب الاقتصاد أم تخفيف القيود وإعادة عجلة الحياة مرة أخرى حتى لو كان المواطن هو الضحية؟ معضلة حقيقية تعاني منها معظم حكومات العالم لا سيما العالم النامي.
المشهد في مصر ينقسم إلى قسمين: الأول يمثله فريق رجال الأعمال وبعض الساسة وهو أنصار عودة الحياة الاقتصادية مرة أخرى تجنبًا لمزيد من الخسائر التي من الممكن أن تدخل اقتصاد الدولة في نفق مظلم من الصعب الخروج منه في الوقت الراهن.
ويتقدم هذا الفريق رجال الأعمال: حسين صبور ونجيب ساويرس ورؤوف غبور، ممن يتبنون الرأي القائل “أعيدوا الناس للعمل فورًا حتى لو مات بعضهم فالأهم ألا تفلس الدولة”، محذرين من أن “رجال الأعمال سيجدون أنفسهم مضطرين إلى الاستغناء عن عدد كبير من موظفيهم أو تخفيض رواتبهم إذا استمر الإغلاق”.
السيسي نفسه كان أحد أبرز من تبنوا هذا الرأي، مؤكدًا في تصريحات متلفزة له في 11 من أبريل الماضي أن المخاطر الناجمة عن تعطل العمل والاقتصاد أكبر بكثير جدًا من تفشي فيروس كورونا، وأن توقف الحياة بشكل كامل – ردًا على مطالبات فرض حظر شامل – أمر خطير على ملايين العاملين في الدولة، معلنًا حزمة من القرارات الاقتصادية التي يصب أغلبها في صالح رجال الأعمال.
يذكر أن معدل الفقر بين المصريين تجاوز حاجز الـ32% ما يعني أن قرابة 32 مليون مصري يعانون من الفقر والعوز، فيما بلغ حجم العمالة غير المنتظمة (لا عقود ولا تأمينات ولا معاشات) المتأثرة بتوقف عجلة الإنتاج 11.8 مليون عامل، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وبإلقاء الكرة في ملعب وعي المواطن وتحميله مغبة تفاقم الوضع يبدو أن الحكومة تسعى لتنفيض يدها من هذه المسؤولية، متبنية بشكل ضمني إستراتيجية التعايش السلمي مع الفيروس، كل يتحمل مسؤولية نفسه، وأن يقتصر دور الدولة على الحالات الحرجة فقط تجنبًا لانهيار المنظومة الصحية بشكل كامل يصعب معها بعد ذلك أي ترميمات ظاهرية.
الإجراءات التي تم كشفها والتصريحات الرسمية الصادرة عن مسؤولين ووزراء خلال الساعات الماضية تسير في هذا الاتجاه، وآخرها ما أدلى به المتحدث باسم مجلس الوزراء، نادر سعد، حين أشار إلى أن اقتصادات العالم لن تستمر في الإغلاق، مشيدًا بما أسماه “بُعد نظر” الحكومة المصرية في فرض حظر جزئي وليس كليًا لاستمرار عجلة الإنتاج مع اتباع الضوابط الطبية.
المتحدث ألمح ضمنيًا إلى إعادة فتح المصالح الحكومية والأماكن المغلقة ودور السينما والمسرح وغيرها خلال وقت قريب، إلا أنه في الوقت ذاته وضع عددًا من الشروط للتعايش معها، منها أن يكون ارتداء الكمامات إجباريًا على الجميع مع فرض عقوبات لمن لم يلتزم بتلك التعليمات.
ومع كل تخفيف تُقدم عليه الحكومة لإجراءات الوقاية المتبعة، يتزايد شعور القلق لدى المواطن الذي يتابع بترقب القفزات الكبيرة في معدلات الإصابة اليومية وفق البيان الرسمي لوزارة الصحة، ليعزز هذا التناقض (تخفيف القيود مع زيادة معدلات الإصابة) حجم الخوف بشأن ما هو قادم، ويبقى الأسبوعان القادمان هما المحك الحقيقي لتقييم المشهد الذي يتوقع أن الأمور قبلهما ستختلف عن بعدهما بصورة كبيرة.