قلما تجد شارعًا في مدن السودان دون أن يخاطب سمعك صوت مديح أو ذكر يصدر عنه، من داخل المطاعم والمحال التجارية، داخل وسائل النقل العامة والخاصة، عبر المذياع الرسمي، حتى تحولت البلاد إلى لوحة كبيرة تمتزج بداخلها خيوط الصوفية المتنوعة.
انتقلت تلك الحالة إلى المظهر العام للمواطن السوداني، فبات سمته أقرب للصوفية، رداؤه وعباءته ولفافة رأسه وعصاه، حتى الأهازيج التي يدندن بها، وحيدًا كان أو وسط جماعة، كلها توحي للناظر أن هذا البلد الحضاري الكبير متشبع بأوتار التدين التي تغلغلت في عروقه وجرت في شرايينه.
ورغم مساعي الكثيرين تجريد الشعب السوداني من هويته الدينية، أيًا كانت الفرقة التي ينتمي إليها، فإنها باءت جميعًا بالفشل، ليؤكد السودانيون أن التدين ليس مسألة عارضة تأخذ دورتها وتمر أو توجه سياسي قد يثبت فساده مستقبلًا، بل هي حالة روحية تسكن الوجدان وتضرب بجذورها في باطن حضارة تعود إلى آلاف السنين.
وقد فطن الحكام الذين جلسوا فوق عرش السلطة على مدار العقود الماضية إلى ولع الشعب بالتدين ومكانة الفرق الدينية في نفوسهم، وعلى رأسها الصوفية الأكثر انتشارًا، ومن هنا بدأت محاولة توظيف هذه الحالة لتحقيق أهداف وطموحات سياسية وأمنية، كان التصوف فيها الأداة الأكثر إنجازًا وتأثيرًا مقارنة بالقوى الناعمة الأخرى.
ثلاث مراحل
مثّل قيام السلطنة الزرقاء أو كما يطلق عليها مملكة سنار (1504-1821م) على أنقاض مملكة سُوبا المسيحية علامة فارقة في تاريخ المجتمع السوداني وعلاقته بالإسلام، حيث حملت هذه السلطنة التي يطلق عليها مملكة سنار (مدينة تقع في وسط السودان حاليًّا) إشارة واضحة بأن إفريقيا تفتح ذراعها للإسلام بعد سقوط الأندلس مباشرة.
آمن حكام سنار بأهمية العلم وقيمة العلماء، ففتحوا الباب أمام علماء العالم للوفود إلى السودان، وأجزلوا لهم الهبات والعطايا، لتعليم الناس أمور دينهم، وبنوا لهم العديد من المراكز الدينية لتعليم الفقه والشريعة، حتى أصبحت البلاد في وقت قصير أحد أبرز قلاع العلم في إفريقيا.
لم يعرف السودانيون التصوف تحت حكم سلاطين سنار، غير أنه في نهاية حكمهم بدأت تظهر نزعات قبلية عميقة، الأمر الذي دفع بهم إلى السماح بانتشار التصوف وبعض الفرق الدينية الأخرى، في محاولة لإلهاء الناس عن التعصب والتوجه نحو التدين وطقوسه الروحية، وهو ما تحقق لهم بالفعل وقلده الحكام فيما بعد.
ويعود دخول التصوف للسودان إلى منتصف القرن السادس عشر الميلادي، وعلى مدار ما يقرب من خمسة قرون كاملة، ارتبطت الصوفية وما يندرج تحتها من فرق ومذاهب فرعية بالحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع السوداني، فباتت جزءًا من شخصيته وملمحًا من ملامح الهوية.
يميل الباحثون إلى تقسيم مراحل معرفة السودان بالصوفية إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى، تلك التي تندر فيها المعلومات بشأن أي ملامح صوفية في البلاد، وهو ما فسره كثيرون بأن ذلك يعني أن تلك المرحلة لم تشهد فيها الدولة أي حركة صوفية، سواء من الداخل أم الخارج، حيث كان الجميع على المذهب السني الذي دخل على يد الصحابي الجليل عبد الله بن أبي السرح رضي الله عنه الذي فتح السودان، ثم تلاه هجرات القبائل العربية.
أما المرحلة الثانية، فكانت تلك التي شهد فيها المجتمع باكورة أول حضور صوفي على يد الطريقة الشاذلية، حيث نجحت في فرض نفسها وتحقيق انتشار كبير في بعض المناطق الريفية، حتى جاءت المرحلة الثالثة، التي بدأت تقريبًا أواخر القرن السابع عشر الميلادي، وظهرت فيها مؤثرات الحجاز القوية.
وفي تلك المرحلة بدأت معرفة السودانيين بالعديد من المذاهب الصوفية، فظهرت السمانية والختمية والإسماعيلية وغيرها من الطرق الأخرى التي أخذت على عاتقها نشر تعاليمهم ومبادئهم وأورادهم الخاصة، ومحاولة توسعة رقعة حضورهم بالعديد من الطرق.
40 طريقة صوفية
تنتشر الصوفية في معظم ربوع البلاد بصورة كبيرة، وتتخذ كل طريقة من مدينة محددة ثقلًا لها، وبحسب الباحثين فإن عدد الفرق الصوفية في السودان يتجاوز 40 طريقة، أشهرها القادرية بفروعها المتعددة والختمية والسمانية والشاذلية والمكاشفية والمجذوبية والإدريسية الأحمدية والرشيدية والتيجانية والإسماعيلية وعدد من الطرق الثانوية.
ويتمتع أقطاب الصوفية المنتمون لها بمكانة اجتماعية كبيرة، كما كانوا ينالون حظوة التقرب من الحكام والسلاطين، وباتوا من أصحاب الكلمة المسموعة لديهم، كما تقلدوا أكبر الوظائف وأهمها في المجتمعات، فكانوا يحتكرون وظائف المعلم والإمام والمأذون والطبيب.
أما عن التوزيع الجغرافي لنفوذ الصوفية في السودان، فنجد أن الطريقة السمانية تتمركز وسط السودان، وهناك مراكز أخرى فرعية في غربي أم درمان، أما الطريقة التيجانية فتتمركز في دارفور والمناطق القريبة منها مثل “شندي والدامر وبارا والأبيض”، إضافةً إلى وجود فروع لها في أم درمان والخرطوم.
فيما تتخذ الطريقة القادرية من وسط السودان ومنطقة ولاية النيل مرتكزًا لها، هذا بجانب فروع أخرى في “البرهانية والتسعينية والدندراوية والأدارسة”، بينما الطريقة الختمية التي يتزعمها محمد عثمان الميرغني، تنتشر بصورة مكثفة في شرقي السودان وشماله والخرطوم بحري.
علاقة الصوفية بالسياسة
نجاح التيارات الصوفية في التشعب – رأسيًا وأفقيًا – داخل أوصال المجتمع السوداني، وتأسيسها لدور اجتماعي وثقافي كبير، ما ضاعف من مريديها الذين بات لهم نفوذ روحي على الشعب، كل هذا أغرى رجالات السياسة والحكام في توظيف هذا الحضور لصالح أهداف أخرى.
ومع 2017 دخلت الصوفية السودانية وكر السياسة من أوسع أبوابه، حيث تم تأسيس أول حزب صوفي في البلاد، برئاسة عبد الجبار الشيخ بلال، وهو شيخ الطريقة السمانية الطيبية (الحزب الصوفي الديمقراطي)، ليسدل الستار على النظرة التقليدية للصوفية من حيث السكون والزهد والترفع عن ترف الحياة وملذاتها وتجنب فتنها.
وجاء في نص البيان التأسيسي للحزب: “نكتب إليكم بخصوص تسجيل حزبنا (الحزب الصوفي الديمقراطي) من ضمن منظومة الأحزاب السودانية، حزب يضم في بوتقته جماعة من أهل التصوف وأحبابهم بالبلاد، حزب وطني يسعى لتحقيق قيم الديمقراطية والقومية والعدالة والحرية والمساواة بين الناس بالبلاد”.
الكاتب السوداني عباس صالح أورد عددًا من الدوافع وراء إعلان هذا الحزب رغم وجود الصوفية بشكل أو بآخر في المسرح السياسي السوداني، عبر عددٍ من الأحزاب الأخرى، منها حزب “الأمة القومي” الذي يتزعمه الصادق المهدي، ويستند على طائفة الأنصار المنبثقة من الثورة المهدية، كذلك “الحزب الاتحادي الديمقراطي” المنبثق من طائفة الختمية التي تنتمي له عائلة رئيس المجلس الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان، وكلتا الطائفتين صوفية الجذور، ويعتبر حزب “المؤتمر الوطني” أكبر حاضنة لرموز الحركة الصوفيَّة.
ومن أبرز الدوافع التي ساقها صالح في مقاله المنشور بموقع “عربي 21” تصعيد المواجهة مع التيار السلفي وهيمنته على المنابر الدعوية، بجانب محاولات المتصوفة التباعد عن الدولة والحزب الحاكم وتحميلها مسؤولية انتشار السلفية على حساب التيارات الدينية الأخرى.
هذا بجانب التماهي مع السياسات الدينية لبعض الأطراف الخارجية، على رأسها الإمارات التي تدعم شبكات التصوف السياسي، في مواجهة التيارات السنية الأخرى، علاوة على تآكل الثقة بين الدولة وحزبها من جهة، وقطاعات من المتصوفة من جهة ثانية.
أصبحت الطرق الصوفية انشطارية في توسعاتها، حيث تحولت إلى فرق قبلية، متخلية في ذلك عن شعاراتها القومية، حسبما أشار الدكتور حيدر إبراهيم رئيس مركز الدراسات السودانية، الذي أوضح أن التأثير القوي للطرق الصوفية جعل الأنظمة والقوى السياسية حريصة على استثمار قوته قي معاركها السياسية.
فبجانب التغلغل داخل مفاصل الأحزاب السياسية كما ذكرنا آنفًا، فإن الطريق بات مفتوحًا أمام المتصوفة لشغل المناصب الكبرى في شتى المجالات الأخرى، كما هو الحال مع الشيخ حسن الفاتح قريب الله، أحد مشايخ الطريقة السمانية الطيبية، الذي وصل إلى درجة الأستاذية، مخلفًا وراءه زهاء مئة مؤلف علمي.
الأمر ذاته تكرر مع الشيخ كمال عمر الذي كان أمينًا للشؤون السياسية في الاتحاد الاشتراكي في عهد الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري، الذي يصفه إبراهيم بأنه مثال حي “للاستخدام السياسي للطرق الصوفية في المعارك السياسية لأنه عجز بنظره عن أن يبني حزبًا سياسيًا يجمع الناس حوله”.
وفي الغالب لا تلعب الطرق الصوفية دورًا سياسيًا إلا حينما يطلب منهم ذلك ويوظفهم الساسة والحكام، هكذا أضاف رئيس مركز الدراسات السودانية، منوهًا أنه هذا ديدن السلطات والساسة الذين تعاقبوا على حكم السودان، مستعرضًا بعض التجارب التي تم توظيفهم فيها سياسيًا، من بينها استخدامهم من السلطات لمحاربة عدد من المثقفين الذين ظهروا بعد ثورة 1924، حيث جعلتهم عصا في مواجهة تزايد شعبية المثقفين وتطويقًا لجماهيريتهم التي تتسع حينها يومًا تلو الآخر.
وفي السنوات الأخيرة وظفت الحكومة السودانية أقطاب الصوفية وفرقهم لمحاربة التيارات المتشددة في شتى مناحي البلاد، مستخدمة في ذلك تيار التصوف كقوة ناعمة لها ثقل ميداني ونفوذ روحي وتأثير مجتمعي في الشارع السوداني، وبالفعل حقق هذا التوظيف مآربة على أكثر من اتجاه.