لا يشك الخبراء والمختصون في المجال الاقتصادي أن البنك المركزي في تونس أو في أي مكان آخر في العالم يمثل ركيزة الاقتصاد والملاذ والحصن الأخير للحكومات لمجابهة التحديات والأزمات المستجدة كالتي نعيشها منذ فترة (كوفيد-19 وتداعياته)، وفي ظل استمرار تعطل محركات النمو الإستراتيجية، وضعف الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التونسية مؤخرًا، أُثيرت تساؤلات عديدة عن دور البنك المركزي في دعم مجهودات الدولة للتصدي للجائحة، وفي وضع خريطة طريق للتصدي للمخاطر الاقتصادية الناجمة عنها، تكون فتحًا لمرحلة جديدة تقطع نهائيًا مع السياسات الاقتصادية القديمة وتؤسس لحقبة قوامهما الاستقرار المالي والنهضة التنموية والاستقلال الاقتصادي.
ضرورة اقتصادية
من المعلوم أن لاستقلالية البنوك المركزية دورًا في إرساء دعائم النمو والاستقرار الاقتصادي والنقدي، إضافة إلى معاضدة مجهودات الدول في تخطي الأزمات المالية كالأزمة الاقتصادية التي ضربت أغلب بلدان العالم عام 2008 وأيضًا جائحة كورونا المتواصلة اليوم، وبيّنت دراسات أكاديمية مختصة أن البنوك المركزية الأكثر استقلالًا عن السلطة التنفيذية (الحكومات) وكذلك السلطة المالية (وزارات المالية)، أكثر جدوى من نظيراتها التي تقبع تحت الإشراف المباشر وتصدر عنها سياسات نقدية أفضل وبالتالي فهي تُحافظ بصورة فعّالة على استقرار وتقوية الاقتصاد لأطول مدى.
ومن هذا الجانب، فإن الشؤون المتعلقة بالسياسة النقدية وجب إبعادها بقدر المستطاع عن أيادي الفاعلين السياسيين كأعضاء الحكومة والمشرعين الذين يعملون في أغلب الأحيان وفق منطق الترضيات لناخبيهم أو لشركائهم في الحكم، وبالتالي فإن السياسات لن تخرج عن هذا الإطار وستتفق مع مصالحهم السياسية والانتخابية (منها إخضاع البنك لضغوط سياسية تتعلق بانتهاج سياسة نقدية توسعية قبيل الانتخابات)، ولكنها تضر بقيمة النقود وترفع معدل التضخم، لذا ينبغي إسناد أمر البنك المركزي لإدارة مستقلة عن الحكومة (تكنوقراط).
ويُراهن أصحاب هذا الطرح على أن البنوك المركزية قادرة على المحافظة على استقرار طويل الأجل للأسعار، إذا كانت صياغة السياسة النقدية بأيدي مسؤولين بعيدين عن السياسة وتجاذباتها، حيث يكون باستطاعتهم النظر إلى المدى الطويل بعين مجردة من كل الصراعات الحزبية على السلطة.
مؤيدو استقلال البنك المركزي يؤكدون أن الدور الأساسي لهذه المؤسسة يكمن في مقاومة التضخم من أجل الحفاظ على الاستقرار وتعزيز الثقة من أجل استقطاب الاستثمار الخارجي، ولا يمكن اعتبارها وسيلة لتمويل جنون الإنفاق الذي تنتهجه بعض الحكومات لمواجهة المطالب الاجتماعية، في مقابل ذلك وجب على الدولة تقوية وضع ماليتها العمومية وتشجيع المنافسة بين البنوك التجارية إذا كانت تريد الحصول على أسعار فائدة منخفضة سواء كان ذلك داخليًا أم خارجيًا.
خطيئة سياسية
يؤكد المحللون أن تدخل البنك المركزي لتعديل التوازنات المالية، يمكن أن تكون له تأثيرات إيجابية على مستوى كبح التضخم، كما يمكن أن تكون له آثار على تكاليف تمويل المؤسسات وقروض الأفراد، وأن استقلالية هذه المؤسسات تعد إشكالًا رئيسيًا في حال كانت سياساته مناقضة لمصالح الشعب وتطلعاته، فهي تعمل على تجريد الدولة من أدواتها المالية وتجعلها رهينة البنوك التجارية.
في تونس، يُمكن القول إن استقلال البنك المركزي، كان وليد صراع سياسي بحت بين بعض الأحزاب وحركة النهضة وغريمها نداء تونس، وجاءت في سياق المناكفات واتهامات متبادلة بمحاولة السيطرة على هذه المؤسسة الحيوية وإبقائها تحت سلطة الحكومة لاستعمالها وفق أجنداتها وتوجهاتها.
ومن ناحية أخرى، يؤكد الخبير الاقتصادي جمال الدين العويديدي في حديث لـ”نون بوست” أن استقلالية البنك المركزي التونسي كلمة حق أُريد بها باطل، ولا تنم عن إرادة سياسية لتغيير الأوضاع المتمثلة في اقتصاد هش وبيئة استثمار غير مستقرة، بل تأتي في سياق تدخل دولي في الشؤون الداخلية للبلاد، كاشفًا أن فرنسا وفي إطار تغيير نظام البنك المركزي في أبريل 2016 حاولت تغيير اسم المؤسسة من البنك المركزي التونسي إلى البنك التونسي مثل البنك الفرنسي إلا أنها تراجعت بسبب وجود بنك يحمل ذات الاسم، وهي أولى مؤشرات التبعية.
وفي وقت سابق، أثارت عضوية سفير فرنسا بتونس أوليفيي بوافر دارفور “بلجنة قيادة الدراسات الإستراتيجية وإعادة بناء وتنمية الاقتصاد التونسي” صلب البنك المركزي التونسي، جدلًا على صفحات التواصل الاجتماعي وصل حد اتهام المسؤولين بالتساهل مع السيادة الوطنية، ما دفع البنك إلى إصدار بيان نفى فيه استمرار عمل اللجنة، وأكد أنها أتمت أشغالها المتمثلة في إعداد وثيقة عمل بمناسبة انعقاد مؤتمر “الاستثمار في تونس، الديمقراطية الناشئة” في سبتمبر/أيلول 2014.
وشدد العويديدي في معرض حديثه على ضرورة تعديل القانون الأساسي للبنك المركزي التونسي الذي منع هذه المؤسسة السيادية من تقديم السيولة المالية لخزينة الدولة بطريقة مجانية وفرض على الدولة اللجوء للبنوك التجارية للاقتراض بنسب فائدة مُشطّة، أثقلت المديونية العمومية ومكنت البنوك الخاصة من مرابيح طائلة، مشيرًا إلى أن قرار الاستقلالية جاء مباشرة بعد بيع 4 بنوك تونسية لجهات خارجية استحوذت عليها فرنسا، فيما أعادت الخامس لأسباب غامضة، وهي الاتحاد الدولي للبنوك (UIB) والاتحاد البنكي للتجارة والصناعة (UBCI) والبنك التونسي، إضافة إلى البنك التونسي الكويتي، كما تم التفريط في بنك الجنوب لفائدة التجاري بنك وهي مجموعة مغربية.
مؤكدًا أن الاستقلالية المزعومة حضرت لها مسبقًا فرنسا التي عملت على استبدال قانون 1958، وتأتي أيضًا في سياق محاولة بنك روتشيلد فرض سياسات نقدية على الحكومات من أجل تعزيز مرابيحه وتحكمه في المالية الدولية.
كانت تونس، بحسب الخبير، تلجأ إلى البنك المركزي من أجل سحب سيولة (التمويل النقدي) في حدود معينة (من 2 إلى 4 مليارات دولار) دون نسبة فائدة وذلك بداية يناير من كل عام لتسهيل قانون المالية، إلا أن القانون الجديد (الفصل 25) منعها من ذلك، وأصبح البنك المركزي يقوم بإدانة البنوك الخاصة والأخيرة تُقرض الدولة سواء بالعملة المحلية أم الأجنبية بنسب فائدة تتراوح من 10 إلى 11% (2% في باقي الدول) مع تحميلها مخاطر سعر الصرف، ما كلّف الدولة في 2019 مليار و609 ملايين دينار، في مقابل ذلك جنت البنوك الخاصة أموالًا طائلة، وأصبح بإمكانها لي ذراع الدولة بفعل القانون الجائر الذي لا يخدم مصالح الدولة، كما كرّس تغيير القانون الأساسي الابتزاز وأثقل الدين العام الذي قارب 72.7% من الناتج المحلي الإجمالي.
ودفعت جائحة كورونا تونس مجددًا إلى الاقتراض من البنوك التونسية بقيمة 1.2 مليار دينار (413 مليون دولار) بالعملة الأجنبية للتصدي لأزمة فيروس كورونا، إضافة إلى تمويلات خارجية تجاوزت 6.5 مليار دينار أهمها القرض السريع الممنوح من صندوق النقد الدولي بقيمة 746 مليون دولار (2.2 مليار دينار) إلى جانب قرضين بقيمة 850 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي (نحو 2.7 مليار دينار) وآخر بقيمة 809 ملايين دينار من البنك الإسلامي للتنمية.
ويُمكن جرد تداعيات قرار استقلالية البنك المركزي فيما يلي:
- أغلب البنوك (42 مؤسسة) تُخيّر الاستثمار في تمويل الدولة بقروض مضمونة الاسترجاع عوض الاستثمار في القطاعات المنتجة التي تعرضها لمخاطر العجز عن السداد.
- الدولة أصبحت تزاحم القطاعات المنتجة من خلال اقتراضها المتواصل من البنوك، التي يفترض أن تعطي الأولوية لتوجيه القروض نحو المشاريع الاستثمارية والتنموية.
- أغلب القروض الموجهة للدولة لا تخدم الاقتصاد، فهذه التمويلات لا تذهب إلى القطاعات الإستراتيجية التي تحرك عجلة النمو.
- تراكم أرباح البنوك الخاصة على حساب الدولة، حيث حققت الأخيرة نسبة نمو بين 11 و21%، في حين كانت نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي في حدود 1.8%.
الاقتصاد في أرقام
- قائم الدين الخارجي متوسط وطويل المدى سيبلغ بنهاية 2020 نحو 80.957 مليار دينار مقابل 76.974 مليار دينار سنة 2019.
- خدمة الدين الخارجي متوسط وطويل المدى ستبلغ 9.501 مليار دينار سنة 2020 مقابل 9.265 مليار دينار سنة 2019 أي بزيادة بنسبة 2.5%.
- مستوى التضخم بلغ 6.3% بعد أن كان في حدود 6.2% خلال شهر مارس و5.8% خلال شهر فبراير.
- توقعات بانكماش الاقتصاد التونسي بنسبة 4.3% في عام 2020.
إلى ذلك، فإن استقلال المركزي التونسي يهدف في مرحلة أولى إلى إخضاعه لمنظومة التدويل المالي والأَمْوَلة، ومن ثم عزله عن الاقتصاد الوطني وتطلعات المواطنين، وتأتي أيضًا في إطار ضرب دور الدولة الرئيسي في قيادة مسار التنمية والإقلاع الاقتصادي، ونتيجة للضغوط والإملاءات الخارجية الصادرة عن هيئات النقد الدولية التي ما انفكت تُقايض الدولة عن طريق القروض والمساعدات المالية.
وما رسملة البنوك العمومية ومشروع إصلاح النظام الضريبي والقانون الخاص بالنظام الأساسي للبنك المركزي، إضافة إلى مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق “الأليكا” المذلة بين الاتحاد الأوروبي مع تونس، إلا أدوات بيد الليبرالية المتوحشة للوقف مجددًا على أجساد الدولة النامية ومحاولة منها لنفخ الروح في نظامها المتهاوي وأسواقها الراكدة.
هل تعيد أزمة كورونا الحسابات؟
البنك المركزي التونسي أمام اختبار وطني حقيقي، فإما ان ينخرط في مجهود الدولة لمجابهة تداعيات كورونا الاقتصادية والاجتماعية وإما أن يبقى بمعزل عن الأحداث وهو أمر قد يدفع الحكومة والمشرعين إلى إعادة حساباتهم والتفكير مجدّدا في تعديل القوانين الضابطة لعمل البنك تماهيًا مع المستجدات والأزمات، فاستقلالية البنك المركزي ليست هدفًا في حد ذاتها بل هي إطار معين للوصول بها إلى نجاعة السياسة النقدية تكون بالضرورة متناسقة مع الأهداف الإستراتيجية للتنمية الاقتصادية بالبلاد، خاصة أن التقارير الدولية المنشورة تحدثت عن تراجع الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية بما يقارب 50 مليار دولار، وكذلك خسارة مليوني وظيفة على أقل تقدير.
تداعيات كوفيد-19 على النسيج الاجتماعي لعدد من الدول العربية ومنها تونس، نتيجة عدم الاستجابة السريعة لتتلاءم مع مستجدات الأحداث، دفع بعض خبراء السياسة النقدية إلى اعتبار أن هذا هو الوقت المناسب لتجاوز سياسة الفصل النقدي بين الحكومة والبنك المركزي، فلا يُمكن التعامل مع تداعيات كورونا ومجابهة خطر الكساد الاقتصادي المتمثل في بطء النشاط وضعف الطلب دون تدخل قوي من البنوك المركزية.
وهو الأمر الذي أكده وزير التجارة السابق محسن حسن في حديثه لـ”نون بوست”، حيث أوضح أن بعض البنوك المركزية العربية انخرطت في مجهودات حكوماتها لمجابهة تداعيات الجائحة، وبيّن أن المغرب لجأ للبنك المركزي الذي موله في حدود 5% من موارد الجباية لـ2019، وهو الأمر ذاته في مصر، حيث صادق البرلمان منذ يومين على تنقيح القانون البنك المركزي بما يمكنه من تمويل خزينة الدولة في حدود ضبطها المشرع، فيما لم يتحرك المركزي التونسي لمعاضدة المالية العمومية وتحركات الحكومة.
الخبير الاقتصادي، أشار إلى أن الاستقلالية التامة للمركزي التونسي لا معنى لها في هذا الظرف خاصة أن نظيراته في جل الدول تدخلت مباشرة في تمويل الحكومات منذ بداية الأزمة، والمركزي التونسي مطالب إضافة إلى دوره الرئيسي في المحافظة على نسب ضعيفة للتضخم، بدور تنموي وبأن يكون رافعة للاستثمار، مشيرًا إلى أن التحكم في الأسعار والتضخم لا يكون بالضرورة عبر رفع الفائدة المديرية (7.35%)، خاصة أن الأخيرة لها انعاكسات كبيرة على الاستثمار ومحركات النمو.
وكان روسيل جونز الشريك في شركة “لليويلين كونسالتنج” للأبحاث والاستشارات بلندن قد أكّد بدوره، أنه “قد يتم تجاوز الحاجز بين التمويل الحكومي والبنوك المركزية قريبًا جدًا، إذا استمر تدهور الاقتصادات بسبب الجائحة، سترى البنوك المركزية تقوم بتمويل الحكومات مباشرة، وستفعل ذلك بشكل صريح، إنها مجرد مسألة وقت”.
ويقترح الخبراء توسيع دائرة تدخل البنك المركزي وأن لا يقتصر اهتمامه على استقرار الأسعار فقط، بل كذلك على تحديد السياسة المالية والتنمية الاقتصادية للبلاد، إضافة إلى إشراكه في خلق مواطن شغل وقنوات للسياسة النقدية وإثبات مدى تأثيرها على السياسة الضريبية لأن استمرارية هذا الغموض يمكن أن تولد تضارب مصالح بين هدف السياسة الضريبية والنقدية المتمثل في السيطرة على الأسعار وعدم وجود تنسيق يتسبب في التضخم.
ويعتبر بنك اليابان المركزي مثالًا حيًا على ضرورة تدخل المؤسسة وانخراطها في رفع التنمية محليًا، فالبنك المذكور عمل على شراء كميات كبيرة من السندات الحكومية منذ عقدين من الزمان للمساهمة في إخراج الاقتصاد من دائرة الكساد، والآن أصبحت ميزانية البنك المركزي أكبر من الاقتصاد الياباني نفسه، ويمتلك نحو 43% من إجمالي السندات الحكومية.
البنك المركزي الياباني يخفف السياسة النقدية ويضخ تمويلات هائلة في الأسواق المالية، خلال اجتماعه الطارئ لمواجهة التداعيات الاقتصادية لانتشار فيروس /كورونا/ المستجد (كوفيد 19).#قنا
— وكالة الأنباء القطرية (@QatarNewsAgency) March 16, 2020
بين الرأيين، يبرز ثالث يجمع بين السابقين ويعتبر أن استقلالية البنوك المركزية ليست بالضرورة فكرة سيئة، شريطة أن تُدفع هذه المؤسسات من أجل تدعيم الصناعة وزيادة الإنتاج الوطني بصفة تضمن خلق فرص العمل عبر تشجيع الاستثمار والمحافظة على التوازنات المالية واستقرار العملة، مع الإبقاء على نسبة تضخم منخفضة.
بالمحصلة، فإن استقلالية البنوك في الدول النامية التي لم تعرف بعد استقرارًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ولم تدخل بعد في طور الإنتاج والتنمية، لم تعطِ شيئًا يُذكر على الصعيد العملي، لذلك من أجل إنجاح عملية إعادة بناء اقتصادات قوية وصلبة قادرة على عبور تداعيات الأزمات المستجدة بسلام، يجب منحها الأمان والدعم من خلال تحصينها من الاستقلالية باعتبارها أداة لهيمنة قوى خارجية لا تُفكر إلا في مصالحها وفي الحفاظ على النظام المالي الدولي.