أعلنت الحكومة السعودية حزمة من الإجراءات التي وصفتها بـ”المؤلمة” لمواجهة التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا المستجد، على رأسها إيقاف بدل غلاء المعيشة بدءًا من شهر يونيو/حزيران المقبل ورفع نسبة ضريبة القيمة المضافة من 5% إلى 15% بدءًا من الأول من يوليو/تموز، بحسب ما ذكرته وكالة الأنباء السعودية “واس”.
وتأتي هذه الإجراءات بعد أسبوع واحد فقط من تصريحات وزير المالية السعودي محمد الجدعان، الذي ألمح خلالها إلى أن بلاده ستتخذ إجراءات صارمة للتعامل مع آثار الفيروس، مضيفًا “جميع الخيارات للتعامل مع الأزمة مفتوحة حاليًّا”، وذلك في مقابلة تليفزيونية أجراها السبت قبل الماضي.
الجدعان أوضح في مقابلته إلى أن أثر تلك الجائحة على الاقتصاد الوطني سيبدأ ظهوره ابتداءً من الربع الثاني من هذا العام (من أبريل/نيسان حتى نهاية يونيو/حزيران)، لافتًا إلى أن المالية السعودية لا تزال بحاجة إلى ضبط أكبر وإعادة هيكلة لخريطة النفقات من أجل مواجهة التحديات.
البيان الصادر عن الحكومة ونشرته “واس” صباح اليوم أشار إلى أن الحكومة اضطرت إلى إلغاء “بعض بنود النفقات التشغيلية والرأسمالية لعدد من الجهات الحكومية وخفض اعتمادات عدد من مبادرات برامج تحقيق الرؤية والمشاريع الكبرى للعام المالي 2020”.
اتخاذ عدد من الإجراءات الإضافية لمواجهة الآثار المالية والاقتصادية الناتجة عن جائحة فيروس #كورونا المستجد.#واس_عام pic.twitter.com/5KRIKcBaBh
— واس العام (@SPAregions) May 11, 2020
محاولة لإنقاذ الموازنة من العجز
تهدف الإجراءات التقشفية التي من المرجح أن تطال رواتب الموظفين إلى الحفاظ على الاستقرار المالي والاقتصادي من منظور شامل، على المدى المتوسط والطويل، وفق ما أوضح الجدعان في بيانه، لتجاوز الأزمة الراهنة بأقل قدر من الأضرار على المملكة والسعوديين.
وتعد تلك الحزمة الجديدة إكمالًا لما سبقها في مارس الماضي حين أقدمت المملكة على تخفيضات في إنفاق الميزانية بمقدار 50 مليار ريال، بما هو نسبته 5% من إجمالي النفقات المعتمدة في ميزانية العام الحاليّ، وذلك بعد الصدمة التي تعرضت لها جراء انهيار أسعار النفط من جانب، وتراجع الطلب العالمي عليه بسبب الغلق من جانب آخر.
وكان العاهل السعودي في يناير 2018 قد أصدر أمرًا ملكيًا بصرف بدل غلاء معيشة قيمته ألف ريال (267 دولارًا) شهريًا، للموظفين المدنيين والعسكريين، ضمن حزمة مزايا وبدلات أخرى شملت العسكريين المشاركين ضمن قوات الجيش السعودي في جنوب المملكة في حربه ضد الحوثيين.
وقد تسببت الإجراءات الاحترازية التي لجأت إليها المملكة لمنع انتشار الوباء في غلق الكثير من الأنشطة الاقتصادية، الأمر الذي انعكس سلبًا على حجم الإيرادات والنمو الاقتصادي، وهو ما عرض الموازنة العامة للدولة لهزة كبيرة، تحتاج إلى ترتيب الأوراق من جديد لوقف ما تعرضت له ولا تزال من نزيف مستمر.
عانت الموازنة السعودية على مدار السنوات الخمسة الماضية من تزايد في معدلات العجز، ما دفع السلطات لاتخاذ العديد من القرارات لعلاج هذا الأمر، مستندة في ذلك إلى محاولة تقليل النفقات عبر حزمة من الإجراءات التقشفية التي اتخذتها خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
وكان آخر فصول مسلسل العجز المتواصل ما حققته في الربع الأول من العام الحاليّ، حيث سجلت المملكة عجزًا بلغ 9 مليارات دولار مقارنةً بالفائض البالغ 7.4 مليار دولار المسجل في الربع الأول من عام 2019، مع توقعات باستمرار هذا العجز المصحوب بآثار اقتصادية سلبية حادة خلال بقية العام الحاليّ.
ومن بين الإجراءات التي اتخذتها السلطات السعودية لسد العجز في الموازنة رفع أسعار الوقود بنسب تجاوزت في بعض الأحيان 80% على عدة مراحل، وتطبيق ضريبة القيمة المضافة بداية من شهر يناير/كانون الثاني 2018، هذا بجانب سياسة الاقتراض من المواطن عبر طرح صكوك للبيع، في خطوة لجمع أكبر قدر من السيولة المالية.
وكان لتلك الإجراءات تداعياتها المجتمعية السلبية، حيث زادت معدلات الفقر في البلد الأغنى نفطيًا في المنطقة، وهو ما كشفته صحيفة “واشنطن بوست” حين أفادت بأن “ما بين مليونين وأربعة ملايين سعودي يعيشون على أقل من 530 دولارًا شهريًا” أي (17 دولارًا يوميًا)، وأن “الدولة تخفي الفقر بشكل جيد”.
مأزق الاقتصاد السعودي
تلقى الاقتصاد السعودي بحسب وزير مالية المملكة ثلاث صدمات متتالية، كان لها أسوأ الأثر عليه، الأولى تتعلق بالانهيار الكبير في أسعار النفط، بسبب تراجع الطلب العالمي جراء إجراءات الغلق، وهو ما انعكس على إيرادات الدولة، لا سيما الدول التي تعتمد على النفط كأكبر مواردها الاقتصادية ومنها السعودية.
أما الصدمة الثانية فكانت نتيجة توقف أو تعليق الكثير من الأنشطة الاقتصادية، وهو ما انسحب أيضًا على حجم الإيرادات غير النفطية والنمو الاقتصادي، فيما تذهب الصدمة الثالثة إلى استنزاف خزينة المملكة لزيادة الاعتمادات المخصصة لقطاع الصحة من أجل مواجهة الوباء، بجانب إجراءات تخفيف تداعيات الفيروس على المواطنين.
وقد هوت عائدات تصدير النفط السعودي بنسبة 24% على أساس سنوي إلى 34 مليار دولار خلال الربع الأول من العام الحاليّ، بينما تراجعت الأصول الاحتياطية للمملكة إلى أدنى مستوى منذ 9 سنوات، إلى 473.3 مليار دولار، وهو ما ألقى بظلاله القاتمة على تصنيف المملكة عالميًا.
حيث خفضت وكالة موديز للتصنيف الائتماني العالمية، في الأول من مايو الحاليّ، النظرة المستقبلية للسعودية من “مستقرة” إلى “سلبية” بسبب المخاطر التي من الممكن أن تواجهها الرياض بسبب انهيار أسعار النفط، كما توقعت أن يصل حجم الدين العام نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 38% لعام 2020، ليقفز إلى 45% بعدها في المدى المتوسط.
صندوق التقد الدولي في مارس الماضي حذر من اندثار ثروات السعودية عام 2035، حال عدم اتخاذها الإجراءات الإصلاحية في منظومة سياساتها المالية، وذلك نظرًا لارتكازها في المقام الأول على عائدات النفط، التي توقع أن تندثر أو على الأقل تتراجع بصورة كبيرة خلال السنوات القادمة.
هناك العديد من المؤشرات التي تجسد حجم الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد السعودي، منها ما كشفته النشرة الإحصائية الشهرية لمؤسسة النقد العربي السعودي (البنك المركزي) لشهر مارس 2020، حيث أشارت إلى تراجع الأرباح المجمعة للبنوك العاملة في المملكة إلى نحو 3.98 مليارات ريال (1.09 مليار دولار)، في مارس الماضي، بتراجع قدره 21% مقارنة بأرباح نفس الشهر من عام 2019، التي بلغت آنذاك نحو 5.06 مليارات ريال (1.35 مليار دولار).
وعلى المستوى العام فقد سجلت البنوك السعودية انخفاضًا ملحوظًا في أرباحها التراكمية منذ بداية هذا العام لتصل إلى نحو 13.67 مليار ريال، بتراجع قدره 2% مقارنة بنفس الفترة من عام 2019 التي بلغت نحو 13.9 مليار ريال، وهو ما يعمق وقع الأزمة المالية التي تعتصر قطاعات المملكة.
ومن ضمن المؤشرات على مأزق الاقتصاد السعودي تهاوي الاحتياط النقدي الأجنبي، ليصل في مارس الماضي إلى أقل مستوى لها منذ 20 عامًا، حيث انخفض قرابة 27 مليار دولار، كما أشارت المؤسسة إلى أن صافي الأصول الخارجية للمملكة هبط في مارس إلى نحو 1.775 تريليون ريال (473.33 مليار دولار) مقابل 1.865 تريليون ريال (497.33 مليار دولار) بنهاية شهر فبراير السابق له، متراجعة بنسبة 4.8%.
الأمر ذاته ينسحب على استثمارات الأوراق المالية في الخارج، التي تمثل أكثر من 60% من إجمالي موجوداتها، حيث تراجعت بنسبة قدرها 7.1% ما قيمته 86 مليار دولار، لتبلغ نهاية مارس 1.122 تريليون ريال، مقابل 1.208 تريليون ريال بنهاية الشهر السابق له.
وهكذا تأتي جائحة كورونا وتداعياتها لتعمق جراح الاقتصاد السعودي الذي يعاني طيلة السنوات الماضية من نزيف مستمر جراء سياسات ولي العهد التي أرهقت موازنة الدولة في مسارات إنفاق مثيرة للجدل، وفي ضوء توقع إطالة أمد الأزمة الحاليّة، تظل التحديات كبيرة أمام اقتصاد المملكة، لا سيما أن الاقتصاد العالمي سيحتاج إلى فترة زمنية ليست بالقصيرة للعودة إلى ما قبل ظهور كوفيد 19.