“إنه يتقال اسم “ابن تيمية” بكل وضوح في مسلسل بيتابعه مئات الملايين وأنتج تحت رعاية الدولة المصرية دي ليلة تاريخية ونصر عظيم”.. بهذه الكلمات عبر الباحث المصري إسلام بحيري، عن فرحته بما وصفه “الانتصار” للإشارة بصورة علنية داخل مسلسل “الاختيار” المقدم عبر الفضائيات المصرية، إلى شيخ الإسلام وربطه بالفكر المتشدد والإرهاب.
لم يكن البحيري المتخصص في تشويه تراث الإسلام والمحكوم عليه سابقًا في قضايا ازدراء أديان إلا حالة تعكس النشوة التي انتابت البعض بعدما تم ذكر اسم ابن تيمية (الملقب بشيخ الإسلام) داخل المسلسل المنتج على مرأى ومسمع ورعاية من المخابرات المصرية وجهاز الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، وذلك رغم تدارك العمل بعد ذلك لهذه الانتقادات في الحلقات التالية.
اختصار الأزمة التي تواجهها الدولة المصرية في معضلة الدين والتطرف وتحميل الإسلام وحده مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع وغض الطرف عن العدو الحقيقي للبلاد القابع على بوابتها الشرقية والتقليل من شأن العداء معه، رسائل عدة حملها العمل الدرامي، لتثير حالة من الجدل داخل الشارع المصري.
ففي أحد مشاهد العمل ظهر ممثل يجسد شخصية “متطرف” أو “تكفيري” وهو يبرر قتل المدنيين وعناصر الجيش مستشهدًا بتعاليم الشيخ ابن تيمية، مستندًا في ذلك إلى حديث شريف اقتطع من سياقه ونسبه إليه، لتبدأ بعدها اللجان الإلكترونية موجة الهجوم على الإمام الراحل، ليُأتى بعدها في حلقات تالية بأحد رجال الدين الأزهريين ليوضح حقيقة تلك الانتقادات والتفسير الخاطئ لفتاوى ابن تيمية.
ليست هذه المرة الأولى التي يتعرض خلالها شيخ الإسلام للهجوم، ومن الواضح أنها لن تكون الأخيرة، لكن الوضع هذه المرة يختلف من حيث الشكل والمضمون، فلم يصدر الهجوم عن باحثين بصورة منفردة كما في السابق، بل جاء عبر عمل يتابعه الكثيرون تحت رعاية الدولة وبتوجيه مباشر من رئيسها، ورغم معالجة المسلسل لهذا الخطأ لاحقًا إلا أن الوضع لم يتغير إذ انقسم الشارع إلى قسمين، أحدهما مؤيد للهجوم على ابن تيمية ورافض لأي تدارك، والآخر رافض لأي مساس به أيا كان نوعه.
وأمام تلك الحملة الشرسة التي يتعرض لها شيخ الإسلام، انبرى الكثير من المتابعين في الدفاع عنه، حيث تصدر وسم #ابن_تيمية_مش_ارهابي، مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، كما طالب المغردون بوقف الإساءة لرموز الإسلام، وحثوا على ضرورة التعرف أكثر عليه من خلال وسم #اعرف_ابن_تيمية.. فمن هذا الإمام المفترى عليه؟
ضحية السلفية المعاصرة
لم يكن ابن تيمية الرمز الإسلامي الوحيد الذي تعرض للظلم والتشويه، لكن ما واجهه له خصوصية مختلفة من حيث السياق الزماني والموضوعي، وهنا يمكن القول إن هذا العالم على وجه التحديد كان ضحية السلفية المعاصرة.
باتت البنوك الإسلامية اليوم تعتمد في تعاملاتها على أقوال ابن تيمية واجتهاداته
وجد السلفيون المعاصرون في شخص ابن تيمية ضالتهم لأسباب عدة، ربما شهرته الواسعة وعلمه الغزير، كذلك تقاطعه في كثير من آرائه مع أهواء التيار الجديد، فتحول مع مرور الوقت إلى علامة تجارية أو بالأحرى ماركة مسجلة حصرًا على أتباع السلفية.
وبالفعل مع مرور الوقت تم فلترة تراث ابن تيمية بما يتواءم مع أهواء المعاصرين، فتم التعامل معه وكأنه أحد تلامذة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي يرى البعض أنه كان أحد أسباب الإضرار بالإمام وسيرته، ونقطة الضعف التي ارتكز عليها الملحدون المشككون في التراث تحت عباءة التنوير.
ورغم ثراء فكر شيخ الإسلام وشموله لكل القضايا الحياتية، فإن تلك الأبواب كافة أغلقت بفعل فاعل، ولم يفتح منها إلا باب واحد فقط يخدم أهداف ورؤية السلفيين المعاصرين، فانحسر ابن تيمية لديهم في تابوهات لا يمكن الافتئات عليها، فهو عدو الصوفية والسيف المسلط على رقاب الشيعة ومحارب الأشاعرة والعالم الذي لا يجد غضاضة في الإفتاء بقتل المدنيين حال حيدهم عن الطريق الذي يريده التيار الجديد.
وعلى النقيض تمامًا لم يفكر هؤلاء ممن أساؤا لابن تيمية في جرأته التجديدية بالاجتهادات الشرعية، فالرجل خاض العديد من المعارك من أجل قناعاته الفكرية، مخالفًا بها آراء بعض كبار الأئمة الكبار، الأمر الذي دفع لأجله ثمنًا غاليًا.
فعلى سبيل المثال أقر المبادئ الأولى للمعاملات المالية الإسلامية وباتت البنوك الإسلامية اليوم تعتمد في تعاملاتها على أقواله واجتهاداته، كذلك الأمر في الأحوال الشخصية، لا سيما فيما يتعلق بأحكام الطلاق، وذلك حين أصر على رأيه بأن الطلاق بالثلاث في ذات الوقت يعد طلقة واحدة، مخالفًا بذلك رأي الأئمة، وهو ما زج به في السجن ستة أشهر رغم تجاوز عمره الستين في هذا الوقت.
ومن أجمل ما قيل في جرأته الاجتهادية ما رواه عنه تلميذه ابن القيم حين قال: “سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونوَّر ضريحه يقول: مررتُ أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقومٍ منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنَّما حرَّم الله الخمر لأنها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمرُ عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم”.
علاقة خاصة بربه
انحصرت المعارك الفكرية بين التابعين للشيخ والمهاجمين له في ساحة نزال ضيقة بشأن بعض أفكاره التي تم تفسيرها بصورة أو بأخرى، فخرجت عن سياقها الذي قيلت فيه، غير أن الأغلبية غضوا الطرف، عمدًا كان أو سهوًا، عن العديد من الجوانب المضيئة في حياته لا سيما علاقته بربه.
الباحث الإسلامي أبو بكر القاضي في مقاله المنشورة بجريدة “الفتح” المصرية، استعرض بعض ملامح تلك العلاقة التي وصفها بأنها “ذات خصوصية مضيئة” انعكست بشكل كبير على طلابه وتلامذته الذين نقلوا عنه بعض الإطلالات الوضاءة من حياته الإيمانية والسلوكية وأخلاقه وشيمه ومعاملاته ودعوته وإصلاحه.
تعرض ابن تيمية لحملة افتراءات غير مسبوقة في تاريخ الإسلام، سواء ممن رفعوه في درجة ترتقي للأنبياء أم ممن رموه بتهم التطرف والتكفير
القاضي لفت إلى أهمية إظهار تلك الجوانب لإنتاج الشخصيات المتوازنة الناضجة المكتملة البناء والتكوين، لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ومن أبرزها، إقباله على ربه، فقد روي أنه إذا أُشكلت عليه فهم آية التجأ إلى مسجد مهجور ووضع جبهته على التراب وردد قوله: “يا معلم آدم علمني، يا معلم إبراهيم فهمني”.
كذلك زهده في الدنيا وتقلله وفقره وإيثاره الآخرة، فكانت حياته تعبيرًا عن حسمه لقرار تفضيل الآخرة على الدنيا، ووصف الباحث هذه الحالة بأنها “انعكاس لعلاقة العبد مع ربه حبًّا وشوقًا، ويقينًا وإنابة، وخوفًا ورجاءً، فتراه مؤثرًا ربه على كل شيء وراغبًا إليه، زاهدًا في كل شيءٍ سواه، وباذلًا لربه كل شيء”.
علاوة على ذلك كان ابن تيمية يتمتع بالكرم والسخاء والنبل مع الأعداء بما لم يصل إليه أحد من شيوخه وطلابه، ففيه قال ابن فضل العمري أحد معاصريه: “كانت تأتيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، فيهب ذلك بأجمعه ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه لا يأخذ منه شيئًا إلا ليهبه ولا يحفظه إلا ليتصدق به، وكان يتصدق حتى إذا لم يجد شيئًا نزع بعض ثيابه فيصل به الفقراء”.
وزاد ابن القيم من نافلة القول: “كان يدعو لأعدائه، ما رأيته يدعو على واحد منهم، وقد نعيتُ إليه يومًا أحد معارضيه الذي كان يفوق الناس في إيذائه وعدائه، فزجرني وأعرض عني وقرأ: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، وذهب الساعة إلى منزله فعزى أهله، وقال: “اعتبروني خليفة له ونائبًا عنه، وأساعدكم في كل ما تحتاجون إليه! وتحدث معهم بلطف وإكرام بعث فيهم السرور، فبالغ في الدعاء لهم حتى تعجبوا منه”.
ابن تيمية.. المفترى عليه
تعرض ابن تيمية لحملة افتراءات غير مسبوقة في تاريخ الإسلام، سواء ممن رفعوه في درجة ترتقي للأنبياء أم ممن رموه بتهم التطرف والتكفير وتحويله إلى إمام التكفيريين الجديد ومرجعيتهم الفكرية والأيديولوجية.
وهنا يقول الخبير التربوي الشيخ رجب أبو بسيسة، بأن الحملة الممنهجة التي تستهدف شيخ الإسلام تمهد للطعن في الكتاب والسنة، لافتًا في تصريحات له “ابن تيمية جدد الله – عز وجل – به شباب الإسلام بعد أن أنهكه داء الجهل والانحراف والبدع والخرافات، فهو رجل أنار الله – عز وجل – به منار السنة وأطفأ نار البدعة”.
أما فيما يتعلق برميه بالإرهاب والتطرف، أضاف أن هذا لا يصدقه عقل، منوهًا أنه أكثر من رد على الخوارج، “ولولا تراثه الفكري لانتشر في الأمة منهج التكفير والتفجير، وما استطعنا الرد على هؤلاء المارقين”.
الرأي ذاته اتفق معه فيه الداعية الإسلامي المصري أحمد حمدي الذي قال إن إلصاق تهمة الإرهاب والداعشية بالعالم الفقيه ليس جديدًا، مؤكدًا أن الواقع يثبت أن فتاوى شيخ الإسلام أنقذت بيوت المصريين من الهدم، وشدد الداعية الإسلامي على ابن تيمية أنقذ بيوت المصريين من الهدم، بفتاواه بشأن مسألة الطلاق المعلق وسجن بسببها في زمانه، مؤكدًا أن بفضله تأخذ دار الإفتاء المصرية والقانون المصري بفتواه وهو ما حال دون تطليق أغلب المصريات.
وبالعودة إلى ما استشهد به مسلسل “الاختيار” بشأن استناد التكفيريين إلى فتاوى ابن تيمية في قتل المدنيين والجيش حتى لو كانوا مسلمين، فإن اقتطاع الفتوى من سياقها هو السبب وراء انتشارها بهذه الصورة، رغم ما تحمله من نوايا غير طيبة من أجل تشويه صورة الإمام.
البداية تعود إلى عام 1260م حين هزم سيف الدين قطز جيش التتار في عين جالوت، وقتها انسحبوا إلى بلاد فارس، ومنهم من دخل الإسلام، وبعد مرور قرابة 40 عامًا جاء ملك تتاري اسمه “قازان” على رأس جيش كبير من التتار الفُرس لأجل غزو الشام ودخول دمشق.
كان قازان يتمتع بذكاء حاد، فأرد أن يحدث الفرقة بين جيش المسلمين، فأشهر إسلامه وسمى نفسه “محمود غازان” وأرسل رسالة إلى الخليفة العباسي في القاهرة يعلن تأييده وأنه سيحارب تحت راية خلافته، تزامن ذلك مع إعلان الكثير من جنود التتار إسلامهم خلف قائدهم.
بسوء نية اختزل المتربصون فتوى الإمام واقتطعوها من سياقها الزماني والمكاني والظرفي ليرموا الشيخ بفتوى قيلت في ظروف استثنائية
وهنا دب الخلاف والشك في نفوس الجيش المسلم، فطالما دخل التتار في الإسلام، فلم محاربتهم ومقاومتهم، ويتساوى في ذلك تبعيتهم للمماليك أو التتار، وفي الوقت ذاته أرسل قازان جواسيس بين جنود الشام ومصر ينشرون دعاوى حرمة قتال جنود التتار المسلمين.
وبالفعل أتت تلك الحرب النفسية والخديعة التي قادها التتار أكلها، حيث نجحوا في هزيمة المماليك ودخلوا دمشق عام 1299، وعاثوا في المدينة فسادًا وقاموا بعشرات المذابح، في هذا الوقت كان ابن تيمية الذي لم يكمل عامه الـ37 موجودًا في دمشق.
وأمام تلك الوضعية التي رأى فيها العالم الفقيه جنود المسلمين وقد خارت قواهم وضعفت عزائمهم وخدعوا بحيلة دخول التتار الإسلام، أفتى بوجوب قتال “جيش الطاغوت” في إشارة منه إلى التتار، حتى إن نطقوا بالشهادتين، كما أفتى بردة جنود جيش التتار ووجوب محاربتهم.
وبالفعل بعد مرور 4 سنوات تقريبًا من الإعداد الجيد وفرز الصالح من الطالح والمخلص من المخادع، انتصر المماليك بقيادة الملك الناصر محمد بن قلاوون ومعه علماء المسلمين وعلى رأسهم ابن تيمية على التتار في معركة سهل شقحب 1303م.
من هنا جاءت مسألة تكفير ابن تيمية لجيوش تنطق بالشهادة وظهرت مصطلحات على شاكلة “جيش الطاغوت” و”جيش الردة” وهي المستخدمة من التكفيريين ونقلها المسلسل المُنتج من شركة المتحدة المدعومة من المخابرات المصرية.
لكن للأسف وبسوء نية اختزل المتربصون فتوى الإمام واقتطعوها من سياقها الزماني والمكاني والظرفي ليرموا الشيخ بفتوى قيلت في ظروف استثنائية ولأسباب محددة، وهو ما يشير إليه الفقهاء بعدم وجوب الاستعانة بمناط خاص في الإسقاط على حكم عام.
قالوا عنه
كبار علماء الأمة وشيوخها الثقات أثنوا على ابن تيمية وفكره، وتسجل صفحات التاريخ عشرات الأقوال التي قالها العلماء بحق شيخ الإسلام منها ما قاله الإمام محمد بن عبد البر السبكي: “والله ما يبغض ابن تيمية إلا جاهلٌ أو صاحبُ هوًى، فالجاهلُ لا يدري ما يقول، وصاحبُ الهوى يصُدُّه هواه عن الحقِّ بعد معرفته به”.
كذلك ما عبر به القاضي ابن دقيق العيد “لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلًا كُلُّ العلوم بين عينيه، يأخُذ ما يريد ويَدَع”، فيما أشار ابن فضل الله العمري بأنه لم تأخذه في الحقِّ لومةُ لائمٍ، و”ليس عنده مُداهنة، وكان مادِحُه وذامُّه في الحقِّ عنده سواء”.
أما الإمام محمد الهادي فقال في شأنه في كتابه “العقود الدرية”: “ابن تيمية هو الشيخ الإمام الرباني، إمام الأئمة، ومُفْتي الأُمَّة، وبَحْر العلوم، سيد الحُفَّاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، شيخ الإسلام، بركة الأنام، وعلَّامة الزمان، وتُرْجمان القرآن، عَلَم الزُّهَّاد، وأوْحَد العباد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين، وصاحب التصانيف التي لم يُسبَقْ إلى مثلها”.
وقد نقل العالم مرعي يوسف الكرمي عن الإمام الذهبي في كتابه “الشهادة الزكية” قوله: “شيخنا الإمام تقي الدين بن تيمية شيخ الإسلام، فرْد الزمان، بحر العلوم، تقي الدين، قرأ القرآن والفقه، وناظَرَ واستدلَّ، وهو دون البلوغ، برع في العلم والتفسير، وأفتى ودرَّس وله نحو العشرين سنة، وصنَّف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه”.
أثرى ابن تيمية المكتبة الإسلامية بموروث هائل من المؤلفات العظام التي تحولت إلى مرجعية لكثير من الأحكام والقوانين ونظم الحكم في بعض المجتمعات، حيث ترك وراءه قرابة 330 مؤلفًا في العديد من المجالات، جمعت كثير منها في مجموع الفتاوى وطبعت في 37 مجلدًا.
وفي الـ20 من ذي القعدة 728 الموافق 25 من سبتمبر 1328 غادر ابن تيمية الحياة وهو في محبسه بقلعة دمشق، بعد صراع مع المرض استمر قرابة 3 أسابيع، لتشهد جنازته حضورًا غير مسبوق، فقُدر عدد من حضر جنازته من 100 إلى 200 ألف من الرجال، وقُدرت أعداد النساء بـ15 ألف امرأة عدا من كن على الأسطح.