شَقّ أجدادنا على مر التاريخ طريقهم في اتجاهات مختلفة بحثًا عن بلاد أمينة وسعيدة، وكانت أمريكا اللاتينية في نهايات القرن التاسع عشر إحدى تلك الوجهات التي اختاروها للبدء من الصفر في تحقيق طموحاتهم، آملين أن تستحق هذه البلاد البعيدة والجديدة عناء المسافات ومشقتها، حيث بدأت موجة الهجرة الأولى من الشرق الأوسط إليها من عام 1860 وحتى 1914، وجاءها آنذاك نحو 1.2 مليون شخص من مختلف أقاليم الدولة العثمانية.
كان الفلسطينيون جزءًا من هذه الحركة رغم قلة أعدادهم، لكن بعد نحو قرن من الزمن أصبحت أمريكا اللاتينية تستضيف أكبر حضور فلسطيني خارج العالم العربي، فبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني والجاليات الفلسطينية بالعالم، يقطن في الدول العربية نحو مليون و337 ألف و400 فلسطيني، ويعيش في قارة أمريكا الجنوبية 821 ألفًا و800 فلسطيني، بينما يسكن في أوروبا 293 ألفًا و800 فلسطيني، وأمريكا الشمالية 299 ألفًا، وآسيا 5 آلاف، وأستراليا 1500 فلسطيني.
نسعى في هذا التقرير إلى تتبع مسارات الهجرة الفلسطينية إلى أمريكا اللاتينية بمراحلها الزمنية الثلاثة: 1870-1916 (خلال حكم الإمبراطورية العثمانية)، وبين عامي 1918 و1948 (في فترة الانتداب البريطاني)، ومنذ النكبة وحتى عام 1970، مع التركيز على الظروف التي دفعت أجدادنا إلى ترك أرض الوطن، والعوامل التي ساهمت في اندماج أحفادهم على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
المحطة الأولى في عام 1870.. الأسباب والدوافع
بدأت المحطة الأولى من الرحلة في أواخر العهد العثماني عام 1870، وكان أغلبية المهاجرين الفلسطينيين من المسيحيين من منطقة بيت لحم، بما في ذلك قريتي بيت جالا وبيت ساحور، وبأعداد أقل من القدس والطيبة ورام الله، ويعود انجذاب هذه الفئة تحديدًا للهجرة لأسباب تتعلق بازدهار السياحة الأوروبية في “الأرض المقدسة”.
وبما أن مدينة بيت لحم حاضنة لمهد المسيح، انتعشت فيها تجارة الحرف الدينية اليدوية وباتت موردًا سياحيًا للصناعات المقرونة بمقدسات المسيحيين والمسلمين، مثل المسابح والصلبان ومصغرات لكنيسة المهد وقبة الصخرة، وتدريجيًا انتعشت الأسواق فيها ولاقت رواجًا وإقبالًا ملفتًا من مختلف الزوار الأجانب.
عام 1866، غادرت سفينتان ميناء إسطنبول وضلتا طريقهما، فوجد العديد من المواطنين العثمانيين من أصل عربي أنفسهم على ساحل ريو في البرازيل
ويبدو من الوثائق التاريخية المتوافرة أن أحد الأسباب التي قربت المسافات بين الفلسطينيين وأمريكا اللاتينية كان ظهور فئة جديدة من التجار المسيحيين الذين سعوا لتوسيع أنشطتهم التجارية في أوروبا، وخاصةً فرنسا، ومن ثم في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب حضورهم المعارض الدولية في أمريكا.
فقد وثق المؤرخ الفلسطيني من بيت لحم عدنان مسلم مشاركة التجار الفلسطينيين في المعرض الدولي لعام 1876 في فيلادلفيا، ومعرض شيكاغو العالمي لعام 1893، والمعرض العالمي لسانت لويس عام 1904، حيث تابع بعض هؤلاء التجار رحلتهم إلى الجنوب، ووصلوا إلى المكسيك وأمريكا الوسطى، وخصوصًا هندوراس والسلفادور والأرجنتين.
يضاف إلى ما سبق عاملان آخران، أولهما ظهور حركة “تركيا الفتاة” (الأتراك الشباب) عام 1908، وإقرار قانون الخدمة العسكرية الذي جعل التجنيد إلزاميًا لجميع الرعايا العثمانيين في عام 1909، وكانت العائلات المسيحية خائفة بشكل كبير من إرسال أبنائها للقتال، ففضلت خيار هجرتهم إلى أمريكا اللاتينية، لا سيما بعد أن أصبح لديهم أقارب هناك.
كان الفقر المدقع الذي عصف بفلسطين في أواخر القرن التاسع عشر سببًا في هجرة أعداد كبيرة من شباب بيت لحم إلى أقطار أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى
ويكمن العامل الثاني في تدهور الوضع الاقتصادي بفلسطين، ففي رواية “البئر الأولى”، يذكر الكاتب جبرا إبراهيم جبرا المشهور من بيت لحم، كيف تحول مسقط رأسه لعش من الفقر والخراب بعد أن تركت العائلات منازلها وهاجرت إلى أمريكا خوفًا من الغرق في دوامة الجوع، إذ كتب في الصفحة رقم 66:
“كان الفقر المدقع الذي عصف بفلسطين في أواخر القرن التاسع عشر سببًا في هجرة أعداد كبيرة من شباب بيت لحم إلى أقطار أمريكا الجنوبية، وأمريكا الوسطى. وزادت الحرب العالمية الأولى من فقر الأهلين وبؤسهم. وكان أثر الهجرة باديًا بوضوح في مطلع العشرينات في خلو الكثير من البيوت والمباني من أصحابها، وفي حالة الإهمال أو التداعي التي تعاني منها مئات المنازل والكروم المحيطة بالبلدة”، لذا يمكننا القول إن الهجرة الفلسطينية كانت مزيجًا من عوامل الخوف من الفقر والحرب، وعوامل الجذب التي تضمنت فرص اقتصادية قوية للتجار المسيحيين من مدينة بيت لحم على وجه الخصوص.
بدايات ليست مثالية
بدأ التجار الفلسطينيون في جميع البلدان ببيع منتجاتهم اليدوية وصناعاتهم البسيطة بالتجول بين الأسواق ودق أبواب المنازل من حي لآخر، وكانت سلعهم الأساسية الحرف الدينية، لكن بعد ذلك تطورت نشاطاتهم شيئًا فشيئًا وتوسعت إلى منتجات أخرى، ولتحقيق هذه الغاية كان لا بد أن يتجنبوا المنافسة مع المهاجرين العرب الآخرين، لا سيما أن نظراءهم من السوريين واللبنانيين كانوا أوفر حظًا في هذا الحقل، حيث تمتعوا بعلاقات تجارية واسعة وبسمعة متينة في السوق.
كان ضباط الهجرة يصفون المهاجرين العرب بـ”الترك” أو “توركو” (TURCO)، بمعنى البائع المتجول، صاحبت هذه اللفظة نظرة سلبية، كما تبعها ظاهرة تُعرف بـ”رهاب الترك”، إشارة إلى رفض الوجود العربي في المنطقة
وبناءً على هذا الوضع، قرر الفلسطينيون البحث عن وجهة جديدة وخالية من المنافسة، فتركوا بوينس آيرس وساوباولو في البرازيل وعبروا كورديليرا لتأسيس أعمالهم في بلدان أصغر من الموانئ الأطلسية الرئيسية، وحينها بدأوا رحلتهم من جديد في تشيلي عام 1880، وانتشروا بأعداد أقل في بيرو وبوليفيا والإكوادور، وفي هذا الفصل نفهم بالتحديد لماذا يشكل السوريون واللبنانيون الغالبية العظمى في البرازيل والمكسيك وفنزويلا (أكبر دول أمريكا اللاتينية)، بينما يمثل الفلسطينيون الأغلبية في تشيلي وبيرو وهندوراس والسلفادور.
عائلة الحاصبين التي هاجرت من فلسطين عام 1933 لتجنب تجنيدهم في الجيش البريطاني
على أي حال، حتى عندما قرر الفلسطينيون البدء من الصفر مرة أخرى في مكان جديد، تجنبًا للمتاعب وسعيًا لأبواب أوسع من الفرص، لم يكن طريقهم خاليًا من العثرات، فقد واجهوا تمييزًا عنصريًا قاسيًا، إذ كان ضباط الهجرة في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، يصفون المهاجرين العرب الذين يصلون بجواز سفر عثماني أو قادمين من بلاد الشام بـ”الترك” أو “توركو” (TURCO)، بمعنى البائع المتجول.
صاحبت هذه اللفظة نظرة سلبية، كما تبعها ظاهرة تُعرف بـ”رهاب الترك”، إشارة إلى رفض الأمريكيين اللاتينيين للوجود العربي في المنطقة، ولكن هذا الانطباع تلاشى مع نمو النشاط التجاري للعرب وظهور الكثير من قصص النجاح الفردية للمهاجرين الفلسطينيين الذين افتتحوا متاجرهم ومشاريعهم الخاصة.
المحطة الثانية (1948-1970).. رؤوس أموال ثقيلة
بدأ وضع المهاجرون الفلسطينيون بالتغير قبل عام 1948، ففي نهاية عقد العشرينيات وبعد تحطم “وول ستريت” عام 1929 وبداية الكساد الكبير، شهدت دول أمريكا اللاتينية تغييرًا في توجهها الاقتصادي، فقد أجبر الانخفاض المفاجئ لصادرات السلع القادة السياسيين على إعادة التفكير بإستراتيجية اقتصاداتهم التنموية، وكان الإجراء الأول هو التركيز على التصنيع المحلي الذي يحل محل الاستيراد.
ولم يكن تحقيق هذه الأولوية ممكنًا لولا مساهمة مجموعة من مالكي الأراضي التقليديين والتجار المهاجرين الذين لديهم رأس المال اللازم لإنعاش العجلة الاقتصادية، ويعد خوان يارور لولا وشقيقه الأصغر نيكولاس مثالًا جيدًا لمثل هذه الشراكة، فقد غادر الأخوان فلسطين عام 1902، وكان لديهم بعض الأقارب في تشيلي وبوليفيا، وبعد بضع سنوات من الاستقرار في البلاد فتح الشقيقان متجرًا، وفي عام 1929 تمكنا من تأسيس مصنع نسيج صغير في عاصمة بوليفيا، لاباز.
في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، دعت الحكومة التشيلية للرئيس أليساندري خوان يارور إلى إنشاء مصنع أكبر في سانتياغو، عاصمة تشيلي، مقابل صفقة مغرية تتضمن الحصول على ضرائب مخفضة للآلات المستوردة وقرض بأكثر من مليون دولار من بنك تشيلي، أكبر مؤسسة مصرفية في البلاد، وغيرها من المزايا السخية، وبالفعل قبل يارور الصفقة وأسس شركة لصناعة القطن، وفي عام 1948 شغل المصنع أكثر من 3000 عامل وساهم في إنتاج 60% من الأقمشة القطنية في البلاد.
برز اسم الفلسطينيين في قطاع تجارة الملابس والمنسوجات، ثم اقتحمت استثماراتهم الأنظمة المصرفية وبدأوا في إنشاء بنوكهم الاستثمارية الخاصة
أصبح خوان أكبر مصنع للنسيج في أمريكا اللاتينية، وفي نفس الفترة – وفقًا لسجلات الجمعية التجارية السورية الفلسطينية -، تم إنشاء 147 مصنعًا صناعيًا في تشيلي بأموال عربية بين عامي 1933 و1937، وكان ثلثها في صناعة النسيج والملابس، الأمر ذاته تكرر في هندوراس، ولكن مع مشاريع أصغر، على سبيل المثال، أسس جاكوبو قطان أول علامة تجارية للملابس في أمريكا الوسطى عام 1930، واشترى أحدث الآلات الصناعية لإنتاج القمصان والسراويل، ليصبح مشروعه لاحقًا أحد أكبر المصانع في أمريكا الوسطى.
عائلة قطان الفلسطينية، إحدى أهم الأسر التي أسست اسمًا لها في سوق هندوراس عام 1920
وبعد أن برز اسم الفلسطينيين في قطاع تجارة الملابس والمنسوجات، اقتحمت استثماراتهم الأنظمة المصرفية وبدأوا في إنشاء بنوكهم الاستثمارية الخاصة، مثلًا في تشيلي أسس خوان يارور عام 1937 Banco de Crédito e Inversiones أحد البنوك التشيلية الرئيسية حتى اليوم.
ونظرًا لمعطيات هذه المرحلة الاقتصادية، بدأ المهاجرون في شراء منازل جديدة وكبيرة بعد أربعينيات القرن الماضي، واتخذوا حينها حي بتروناتو في العاصمة التشيلية مركزًا لهم، حيث احتضنت هذه المنطقة الجيل الأول والثاني من المهاجرين الفلسطينيين الذين عملوا في ورش خياطة صغيرة ومحال للملابس بظروف صعبة، ثم توسعت أعمالهم لاحقًا وانطلقت بهم إلى الثراء والمناصب الرفيعة والمهمة في المجتمع اللاتيني.
ورغم اقتحام البعض منهم فئة البرجوازيات المحلية والطبقات المتوسطة المزدهرة، كانوا لا يزالون يتعرضون للتمييز ويندرجون تحت طبقة “الأثرياء الجدد” الذين اغتنوا حديثًا وسمح لهم المال بشراء سلع وخدمات كانت مقتصرة فقط على الطبقة الثرية، وغالبًا ما يُطلق عليهم مصطلح “محدثي النعمة” في المجتمعات العربية، وخاصةً لأولئك الذين يتباهون بممتلكاتهم، أو كما يُقال غالبًا “الرجال الذين يعرفون سعر كل شيء ولا يدركون قيمة شيء”.
التوسع والتطور
لم تقف النظرة الاجتماعية السلبية طويلًا في طريق المهاجرين الفلسطينيين الذين بدأوا في إظهار اهتمام بالسياسة المحلية في ثلاثينيات القرن العشرين، وبدايةً مع انتخاب العديد منهم رؤساء للبلديات، ومرورًا بظهور أول أعضاء الكونغرس في تشيلي من أصل عربي في الأربعينيات، لكن العقد الأكثر ازدهارًا كان في الخمسينيات عندما كان وزيرا حكومة الرئيس إيبانيز لأول مرة من أصول فلسطينية، وفاقهما أهمية وزير الاقتصاد والتعدين رفائيل تارود سيوادي، المعروف باسم “التوركو تارود”.
لم يكن دخول هذه الساحة سهلًا، ولم تكن الأحزاب المحلية التقليدية حريصة على دمج هؤلاء المهاجرين وخاصةً الأحزاب ذات التوجهات اليمينية، ومع ذلك برز اسمهم من خلال تصاعد الأحزاب التقدمية والشعبية غير التقليدية التي كانت تبحث عن وجودة جديدة ومختلفة.
صادرت الحكومة العديد من المصانع وكانت مصانع الغزل والنسيج في الخطوط الأمامية لهذه الحركة، وكان من بين هذه الخسائر مصنع عائلة يارور وسعيد وحرماس وسومار (عائلات فلسطينية)
عام 1970، فاز سلفادور الليندي، مرشح ائتلاف الأحزاب اليسارية، بالانتخابات الرئاسية في تشيلي بأجندة إصلاحية قوية تحمل اسم “مخطط الإنقاذ” وتتضمن رفع أجور الموظفين بأكثر من 40%، وتأميم القطاعات الإنتاجية الرئيسية مثل إنتاج النحاس والصناعات الغذائية والخدمات التعليمية، لكن الرياح لم تهب كما يشتهي الليندي، ففي عام 1972 توالت المظاهرات الاحتجاجية على الوضع الاقتصادي المتردي في البلاد.
وتحت ضغط النقابات العمالية، صادرت الحكومة العديد من المصانع وكانت مصانع الغزل والنسيج في الخطوط الأمامية لهذه الحركة، وكان من بين هذه الخسائر مصنع عائلة يارور وسعيد وحرماس وسومار (عائلات فلسطينية)، المؤسف أن جزءًا من الطبقة البرجوازية التشيلية التقليدية لم تفعل شيئًا لإنقاذ القطاع، بل وكان البعض راضين سرًا عن رؤية “الترك” يفقدون الثروة التي اكتسبوها بسرعة.
وبذلك لن نتفاجأ حين نسمع أن أصحاب الأعمال الفلسطينيين كانوا معارضين شرسين لحكومة الليندي، إذ ترجمت معارضتهم على أرض الواقع من خلال لعب بعضهم دور حاسم في الانقلاب العسكري ضد الحكومة في سبتمبر/أيلول 1973، وأبرزهم على سبيل المثال خوان وألبرتو قسيس صباغ، شقيقين ولدا في بيت لحم واستقبلا الجنرالات المنشقين في منزلهما قبل أيام قليلة من الانقلاب.
ومع ذلك، يمكننا أيضًا العثور على أفراد من أصل فلسطيني دعموا حكومة الليندي وأُدينوا بالنفي بعد الانقلاب، ومنهم المخرج السينمائي ميغيل ليتين والشاعر والسفير محفوظ ماسيس والوزير السابق رافائيل تارود.
تعافى غالبية هؤلاء الصناعيين من الصدمات السياسية والاقتصادية، متجهين نحو أنشطة تجارية أكثر تنوعًا وتطورًا وخاصة في مجال البنوك والعقارات والإعلام والبيع بالتجزئة
أعادت الحكومة العسكرية أوغستو بينوشيه بسرعة مصانع النسيج إلى أصحابها، والمفارقة هي أن الانقلاب النيوليبرالي للنظام دفع صناعة النسيج إلى الهاوية، لا سيما مع احتدام المنافسة الدولية عام 1975، الواقع الذي أدى إلى انخفاض الإنتاج بنسبة 31% وبالتالي إفلاس العديد من الشركات، ومن المفارقات أيضًا أن هذا التدهور السريع لعجلة الإنتاج كان نتيجة لسياسات وزير الاقتصاد خورخي كاواس لاما، من أصول فلسطينية.
لكن سرعان ما تعافى غالبية هؤلاء الصناعيين من الصدمات السياسية والاقتصادية، متجهين نحو أنشطة تجارية أكثر تنوعًا وتطورًا وخاصة في مجال البنوك والعقارات والإعلام والبيع بالتجزئة، وربما يكون أفضل مثال هو خوسيه سعيد صافي، الذي بدأت عائلته في صناعة النسيج، لكنه اليوم المساهم الرئيسي في مجموعة سعيد، وهي شركة تمتلك ثالث أكبر شركة مراكز تسوق في تشيلي.
كيف ضلوا طريق العودة؟
تسبب الانتداب البريطاني على فلسطين في تعقيد حياة المهاجرين بشكل رهيب، وهذه الصعوبات الجديدة جعلتهم أكثر وعيًا بالخطر السياسي في وطنهم، إذ كانت العقبة الرئيسية التي يواجهونها هي مسألة العودة – المؤقتة أو النهائية -، فحتى فترة الثلاثينيات، كان من الشائع جدًا أن يتنقل المهاجرون ذهابًا وإيابًا بين الدول المضيفة وفلسطين.
وخلال العصر العثماني، تمكن المهاجرون الذين احتفظوا بجنسيتهم العثمانية من العودة بشكل قانوني إلى فلسطين، ومع بداية الانتداب البريطاني تغير هذا الوضع ولم يُسمح بذلك إلا لحملة الجنسية الفلسطينية من إصدار السلطات البريطانية عام 1925، فمع انتهاء معاهدة لوزان، لم يعد جواز السفر العثماني ساريًا، مما خلق صعوبات لآلاف الفلسطينيين المقيمين في الخارج.
في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1947، وبفضل التعبئة القوية للمجتمعات الفلسطينية، قررت تشيلي وهندوراس في اللحظة الأخيرة الامتناع عن قرار الأمم المتحدة.
لنأخذ مثلًا حالة عيسى ناصر الذي ولد في بيت لحم، وهاجر عام 1913 كتاجر إلى تشيلي، بجواز سفر عثماني انتهت صلاحيته مع زوال الإمبراطورية وانتهاء معاهدة لوزان، وبما أنه لم يكن يحمل الجنسية الفلسطينية، فقد احتاج إلى “شهادة طوارئ” صادرة عن القنصلية البريطانية في فالبارايسو ليتمكن من السفر إلى فلسطين، وقد حددت الوثيقة المؤقتة بوضوح أنها “لا تضمن أن صاحب الترخيص سيسمح له بالهبوط أو البقاء في فلسطين”.
لم يكن عدم القدرة على الذهاب إلى فلسطين المشكلة الوحيدة، ففي بعض الحالات مثل تشيلي والمكسيك، منعت هذه الظروف المهاجرين الفلسطينيين من تجديد تصريح الإقامة، أو ما هو أسوأ من ذلك، الحصول على الجنسية، وبالتالي بات هناك آلاف المهاجرين عديمي الجنسية، الأمر الذي لا يهدد وجودهم فقط من الناحية القانونية، وإنما يحظر عليهم أيضًا ممارسة أي أنشطة تجارية، كما هو الحال في السلفادور، مما عرض مصدر الدخل الرئيسي للمهاجرين الفلسطينيين للخطر.
في مواجهة هذه الصعوبات، قرر المهاجرون تنظيم أنفسهم لإيصال أصواتهم للمسؤولين، فقدم المهاجرون عشرات الشكاوى من القنصليات البريطانية لأمريكا اللاتينية، وجادل المهاجرون بأنه لا يزال لديهم أراضٍ بفلسطين، وعلى الرغم من أنهم يشاركون حاليًّا في الأنشطة التجارية في البلدان المضيفة لهم، ما زالوا يخططون للعودة إلى بيوتهم في المستقبل القريب.
وعلى هذا الأساس، تأسست عام 1927 “لجنة الدفاع عن حقوق المهاجرين في المواطنة الفلسطينية” التي جمعت شكاوى المهاجرين وعرضتها على المفوض السامي البريطاني لفلسطين، لكنها لم تحدث فرقًا كبيرًا، ونتيجة لذلك، لم يتمكن إلا عدد محدود للغاية من المهاجرين من الحصول على الجنسية الفلسطينية، في عام 1946، تم توثيق أن 465 شخصًا فقط ممن ولدوا في فلسطين وكانوا يقيمون في الخارج يمكنهم الحصول على الجنسية الفلسطينية.
اختفت هذه الجنسية الفلسطينية في نهاية المطاف مع حدوث النكبة عام 1948، لكن بالنسبة للمهاجرين، كان من الواضح أنها كانت أول تجربة سياسية لفلسطينيتهم، بغض النظر عن حقيقة أنهم نجحوا في الحصول عليها أم لا، فقد كان النضال من أجل الجنسية بحد ذاته ذا مغزى.
في تشيلي اليوم نحو 30٪ فقط من المنحدرين من جذور فلسطينية لديهم آباء من أصل فلسطيني، حيث تعد تشيلي أكثر دول أمريكا اللاتينية احتضانًا للفلسطينيين، فثمة اليوم ما بين 450 ألف ونصف مليون تشيلي من أصل فلسطيني
في الجانب الآخر، خاضوا معركة سياسية مهمة في هذه الفترة تعني بالتعبئة ضد تقسيم فلسطين التي تم التصويت عليها في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1947، وبفضل التعبئة القوية للمجتمعات الفلسطينية، قررت تشيلي وهندوراس في اللحظة الأخيرة الامتناع عن قرار الأمم المتحدة.
في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، بدأت القضية الفلسطينية تكسب صدى واسعًا، فقد أدى ظهور جيل من المثقفين من أصل فلسطيني، إلى جانب وصول المهاجرين الجدد، إلى إحياء الاهتمام السياسي بالوضع في فلسطين. ولكن، لاحقًا خضعت مجتمعات وحكومات أمريكا اللاتينية لفترة من الانقسام والارتباك في موقفها تجاه القضية الفلسطينية، واختلفت نبرة الدعم السياسي في عدة أحداث مفصلية.
على أية حال، تميزت العقود التالية بتعميق الاستيعاب الثقافي وظهور ملامح الاندماج على الصعيد الاجتماعي، ففي عام 1970، أصبح الزواج خارج نطاق المجتمع العربي القاعدة الرائجة، فوفقًا لتحقيقات حديثة، في تشيلي اليوم نحو 30٪ فقط من المنحدرين من جذور فلسطينية لديهم آباء من أصل فلسطيني، حيث تعد تشيلي أكثر دول أمريكا اللاتينية احتضانًا للفلسطينيين، فثمة اليوم ما بين 450 ألف ونصف مليون تشيلي من أصل فلسطيني، ولذلك يقول المثل: “في تشيلي، أينما ذهبت تجد راهبًا وصيادًا وفلسطينيًا”.
هربوا جميعهم من الفقر وعدم الاستقرار والخدمة العسكرية الإلزامية، وقرروا قضاء أشهر في السفر من يافا إلى ساحل فرنسا، وأخيرًا إلى أمريكا اللاتينية بعد أن سمعوا عن أراضيها الخضراء وتجارتها المزدهرة، وعندما وصلوا لم تكن الأراضي مفروشة بالورود ولكنهم نجحوا بعد عقود مريرة من التجارب والمحاولات أن يُأمنوا لأنفسهم مستقرًا بعيدًا عن أرض الوطن.