يضرب المثل في نكران الجميل بعسكر زواوة، فهم المتقدمون في الحرب والمتأخرون في قبض الرواتب وعندما سيترجم إلى العربية لفظ لحم المدافع سيطلق التعبير على عسكر زواوة، فمن يكون هؤلاء العسكر؟ ولماذا نثير اسمهم في هذه الورقة؟
عندما احتلت فرنسا الجزائر، كونت فرقًا عسكريةً من المشاة خفيفة الحركة من أبناء قبائل الجزائر المنتسبين إلى زوايا المرابطين بالوسط والشرق الجزائري (منطقة القبائل الكبرى) واتخذتهم مقدمة لجيوشها الغازية في شمال إفريقيا ومن هناك جاءت التسمية لأبناء الزوايا الذين حرف اسمهم إلى الزواوة، ثم اتسع الانتداب لغير أبناء القبائل من العربان والزنوج وكل قادر على حمل السلاح ويتوسل معيشة براتب ولو كان فيه موته.
هؤلاء عسكر زواوة وهم الذين كانت فرنسا تضعهم في مقدمة جيشها لمواجهة بقية أبناء وطنهم، فيموتون أولًا بعد فتح الطريق للجيش الفرنسي الأبيض، فكان الموت فيهم ولا دية لميتهم ولا راتب والنصر للفرنسيين، فضرب بهم المثل في التقدم بالحرب والتأخر في نيل الجزاء.
نستعيد صورة عسكر زواوة ونحن نراقب حكومتنا حائرة لمن ستعوض الخسائر المادية بعد وباء كورونا.
انكشاف الهشاشة الاجتماعية
الخاسرون من كورونا كثيرون ومتنوعون من عامل البناء الذي توقف عن الحركة إلى صاحب المحل التجاري الصغير المغلق إلى النزل السياحي الذي لم يستقبل أحدًا طيلة شهور ثلاث وسيظل مغلقًا لمدة طويلة بالنظر إلى غياب اليقين الطبي بخصوص انتشار الفيروس وانتقاله بتنقل البشر.
كل هؤلاء يفتحون الآن أفواههم كصيصان لا تطير، وينتظرون أن تزقهم الحكومة في أفواههم فيقتاتون ويكفون عنها. فمن سيحصل على التعويض أولًا؟ وكيف ستقدر الحكومة التعويضات؟
ليس لعمال البناء المعطلين منذ شهور صوت إعلامي ولا لهم نقابات ولا يهتم لفقرهم أحد، فهم في الأعم الأغلب يقبضون أجورهم باليوم أو بالأسبوع، فإذا لم يشتغلوا يتوقف رزقهم، وفيهم فئات كثيرة ممن يجلسون في الطرقات كل فجر ينتظرون أن يرفعهم أحدهم ليوم عمل في مكان ما، كل هؤلاء لا صوت لهم ولا نصير ومثلهم وأهش منهم أفواج كثيرة يرتبط عيشها بالعمل الفلاحي وقد توقف أغلبه.
يوجد مليونا فقير ليس منهم أصحاب النزل، وقد حسبتهم الحكومة خلال عملية توزيع المساعدة الأولية الدنيا (200 دينار)، وكلما تأخرت العودة إلى العمل ازداد عددهم، وسيضاعف العيد شعورهم بالعوز. لذلك يلح السؤال من أين ستبدأ الحكومة في تعويض المتضررين من الجائحة؟
الأعلى صوتًا يقبض أولًا
الهشاشة الاجتماعية تجلت في أوضح صورها خلال أزمة كورونا وتبين أن النقابات لا تهتم بهذه الفئات الاجتماعية الهشة ومدار جهد النقابات في المؤسسات العمومية المهيكلة، حيث ترتفع أصوات بطلب التعويض للموظف الذي لم ينقطع راتبه وإنما حجز عنه وصولات الأكل التي كانت مرتبطة بأيام النشاط، وقد حل حديث التعويضات بعد حديث التضحيات، فمن الذي ضحى؟ ومن الذي يستحق مقابل تضحيته؟
سحائب الدخان التي نراها الآن لا تبشر بخير بل تنذر بتعميق الفجوة الاجتماعية بين الناس وتعميق الفجوة السياسية مع كل مكونات الطبقة السياسية
هنا سيظهر عسكر زواوة والعسكر الأبيض، من يملك وسيلة إعلامية ترفع صوته ومن يملك وسيلة ضغط على الحكومة سيقبض، وسيذهب الفقراء لحم مدافع.
ترتفع الآن أصوات تهديد الحكومة بلغة مشفقة على العمال، لقد كان هناك دومًا ورقة ضغط أو نقطة ضعف لدى كل الحكومات حتى الديكتاتورية منها وهي التهديد بالتسريح أي التخلص من العمالة ورميها في الشارع بالنظر إلى الصعوبات التي تمر بها المؤسسة. وكان هذا يؤدي دومًا إلى حصول المؤسسات الاقتصادية وفي مقدمتها السياحية على كل ما تريد بما في ذلك طرح فواتير الماء والكهرباء التي تبلغ مبالغ مليونية في كل موسم، يكفي أن يجتمع لوبي أصحاب النزل ويبدأ المناحة عن ضعف المردود في الموسم لتأتي الحكومة تمشي على ركبتيها وتعفي من كل عبء مالي، إننا نسمع هذا الخطاب الآن في لحظة بدء الحديث عن التعويضات بعد الحديث عن التضحيات.
لم يقدم أصحاب النزل نزلهم لمقاومة الفيروس يوم كان مطلوبًا منهم أن يقدموا التضحيات والآن برزوا لطلب التعويضات متسلحين بوسائل إعلام يملكونها وبالتهديد بالتسريح أو التوقف عن النشاط أصلًا، وهم يتحدثون بمنطق أنهم يستطيعون إسقاط السماء فوق رأس الحكومة.
والحكومة ترتعد فرقًا فتخلق معارك جانبية وهمية في الغالب، أي تطلق سحائب دخان لتغطي بها تخليها عن مستحقي التعويض، ليفيق الناس على أن أصحاب الصوت الأعلى أخذوا ما أرادوا وبقي الآخرون يفتحون أفواههم لتزقهم الحكومة، فلا تجد لهم إلا خطاب تمجيد التضحية من أجل الوطن، تمامًا كما كانت فرنسا تغدق الأوسمة على عسكر زواوة بعد موتهم وقد كان أقصى أمانيهم الحصول على رواتبهم وقت الحرب.
الحكم في مدار الصراع الاجتماعي
ليس هذا درسًا في الماركسية ولكنه تذكير ببديهيات، فلم يفرق الفيروس بين غني وفقير وإن كان أغنياء كثر قد نجوا إلى جزر معافاة، ولكن آثار الوباء الاقتصادية كانت اجتماعية بالقوة، فالأفقر من الناس ازدادوا فقرًا بينما حافظ المترفون على أرصدتهم، وستكون العودة إلى الحياة من حيث توقف الفيروس فلم يغير من الوضع الاجتماعي شيئًا.
تقف الحكومة حيث انتهى الفيروس، فإما أن تنتشل المفقرين بالفيروس وتعيدهم إلى وضع حياة ممكنة أو أن تزيد في تفقيرهم بإغناء الأغنياء، وليس هناك موقع ثالث للحكومة، فإما مع المفقرين أو مع الأغنياء، في هذا الموقع سيحدد مصير البلد في الأيام والأشهر القادمة وسيحدد مصير الحكومة أيضًا، فهل تملك هذه الحكومة أن تنقذ نفسها وتنقذ البلد من ابتزاز الذين يغيبون عند التضحيات ويحضرون عند التعويضات؟
إن سحائب الدخان التي نراها الآن لا تبشر بخير بل تنذر بتعميق الفجوة الاجتماعية بين الناس وتعميق الفجوة السياسية مع كل مكونات الطبقة السياسية وخاصة الملتفة منها حول الحكومة.