في الساعة الثانية بعد منتصف الليل يوم 11 من يناير 1958، هبطت طائرة عسكرية تحمل 12 ضابطًا سوريًا من المجلس العسكري – الذي يتألف من 24 عضوًا يمثلون الأحزاب السورية وقتها – في مطار القاهرة، يحملون معهم مذكرة بإعلان الوحدة الشاملة مع مصر والانضمام لحكم جمال عبد الناصر، وهي الوحدة التي أعلنت لاحقًا في فبراير من نفس العام.
قد يثير الحدث للوهلة الأولى، شعورًا بالحماسة في نفس المواطن العربي، لكن هذا الحادث، كان من أغرب ما يمكن أن تمر به فئة كبيرة في مجتمع ما من تغييب للوعي وتجاهل لحقائق التغيير وانصياع لعاطفة!
كانت سوريا حتى ذات الوقت، بلدًا ديمقراطيًا يملك حكومة منتخبة يقودها شكري القوتلي، وكانت من أوائل البلدان التي شهدت مناخًا كبيرًا من الحريات بعد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي عام 1946، وأدى ذلك المناخ لبروز أحزاب وتيارات كثيرة منها الحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي عام 1947 على سبيل المثال.
في تلك الفترة من الحرب الباردة، سادت أجواء متوترة وانقلابات عسكرية دعمتها وكالة المخابرات المركزية ضمن سياسة حرب الوكالة التي انتهجها الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور لمواجهة الاتحاد السوفيتي في العالم، وكان من الطبيعي أن تجد تلك التدخلات صدى أكبر في البلدان المنفتحة سياسيًا التي كانت سوريا على رأسها، وبالفعل شهدت البلاد فاصلًا انقلابيًا بين عامي (1949-1954) بدأه حسني الزعيم، الذي واجه انقلابًا آخر بقيادة سامي الحناوي، الذي واجه بدوره انقلابًا ثالثًا بقيادة أديب الشيشكلي لتعود الديمرقراطية بعدها من جديد بفعل ضغط شعبي أجبر الشيشكلي على الهرب نحو لبنان ثم السعودية وأدى لانتخاب شكري القوتلي مرة أخرى في انتخابات عام 1954، التي توصف بأنها من أنجح التجارب الديمقراطية في الشرق الأوسط حتى يومنا هذا.
وفي ظل تزايد الاضطرابات وانقسام الأحزاب على بعضها، بشأن نفوذها، فالجيش تحول إلى أشبه بمليشيات تأتمر بأمر قائدها الحزبي أكثر من كونه كيانًا عسكريًا موحدًا، تزامن معه استفزازات إسرائيلية وتدخلات أمريكية، ثم وصل الحد أن قادة تلك القوات وصلوا إلى حد إعلان الاستنفار في ثكناتهم تحسبًا للفريق الآخر، وهو ما دفع المجلس العسكري لطلب الوحدة من جمال عبد الناصر، حيث تم الطلب دون علم الحكومة المنتخبة أصلًا، التي لم يكن في وسعها – في مواجهة تيار عاطفي جارف – إلا الانصياع وتقديم طلب رسمي بذلك وإلا كانت ستواجه تهمة الخيانة.
إن تجربة الوحدة تسلط الضوء على أزمة فكرية كبيرة لا تزال تعيشها شرائح واسعة في المجتمعات العربية، في تفضيل الحلول السريعة بتفويض رجل واحد للقيام بالتغيير ومحاولة تخطي المراحل الطبيعية للنهضة، التي تستلزم بطبيعة الحال، تحمل تبعات الحرية ووجود آخر في المجتمع يعملون معًا في إطار الدولة الواحدة، مثلما تتطلب صبرًا كبيرًا وتنازلًا من أطراف وأحزاب متعددة لا بد أن توجدها أجواء الحرية والديمقراطية، ولا بد بالتأكيد، أن تسمح أجواء المجتمع الحر لأطراف أخرى – داخلية وخارجية – باستغلالها لنوايا لا تخدم بالضرورة مصلحة البلد وهو ما قد يفضي بالتأكيد لحالة من عدم الاستقرار المؤقت.
في مقابل هذه الحالة، فضلت القوى السورية وقتها حلًا جاهزًا سريعًا وهو تسليم مقاليد الأمور لشخص واحد سمعوا عنه ولم يروه: جمال عبد الناصر، الذي كان نظامه بالضد من أي مفهوم للحرية بأنواعها كافة، إذ كان اشتراطه لقبول الوحدة من أساسها أن يتم حل جميع الأحزاب – كما في مصر -، وأن يصبح النظام الجديد في سوريا نسخة لما هو موجود في مصر، حيث تصبح سوريا الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة.
وهكذا تحولت سوريا – بطبائع الأمور – إلى دولة بوليسية يقودها وزير الداخلية في الإقليم عبد الحميد السراج، مبتكر سياسة تصفية الخصوم وتعذيب المعتقلين وتضييق الحريات المجتمعية والإعلامية بذريعة ضبط الأوضاع والتصدي للمؤامرات، أمور لم تشهدها سوريا من قبل، عجلت بعد 3 أعوام بوأد الوحدة في مهدها بنفس طريقة الحلول الجاهزة التي حاولت فيها القوى السياسية حل مشكلة الانفلات الموجود سابقًا: حل سريع على طريقة الانقلاب العسكري، وكان أحد أسباب الانقلاب الرئيسية – لسخرية الظروف – ضيق الحياة السياسية في ظل دولة الرجل الواحد! وهكذا حصل انقلاب جديد على الانقلاب على الديمقراطية!
يقول الكاتب محمد حسنين هيكل في كتابة سنوات الغليان – كان من المقربين لجمال عبد الناصر في تلك الفترة -: “انتقال الحكم إلى القاهرة أنتج حالة من الفراغ في دمشق، ولم تكن سوريا مستعدة له، فقد كان الناس يصحون وينامون على السياسة، وفجأة ساد نوع من الملل والرتابة لم يكن يكسره إلا شخص عبد الناصر نفسه وذلك لم يكن كافيًا”، كما أن الإبقاء على النظام باتجاه واحد لم يكن سهلًا كما كان يُتوقع حيث يقول هيكل: “برزت الخلافات منذ اليوم الثاني للوحدة بين عبد الحميد السراج وصلاح البيطار أمين عام حزب البعث، ثم انضمت إلى الخلافات باقي التكتلات السياسية التي لها خلاف مع حزب البعث فضلًا عن الجيش الذي يضم أكثر من كتلة غير كتلة السراج والبعث”.
لكن حقائق الحياة لا تعرف الرجوع بالزمن إلى الوراء، وبالتالي فإن باب التغيير بالانقلابات ومحاولة التغيير بتسليم زمام السلطة للرجل الواحد، ما لبث أن فتح عصر الانقلاب والانقلاب على الانقلاب، حتى وصلت مقاليد الحكم إلى حزب البعث بانقلاب عام 1963، ثم لحافظ الأسد عام 1971، لنصل إلى ما وصلنا إليه في سوريا من حكم الأسد الابن الذي تخطى سابقيه بالدمار والخراب!
العراق ومصر.. بعض الأمور لا تقبل القسمة!
لم تكن الحالة السورية فريدة أو مفصولة عن الواقع العربي، لأنها الفكرة ذاتها في أغلب البلدان العربية، فلا خلاف على أن لكل شعب الحق بالحلم بحياة مرفهة حرة كما هو الحال في الدول الغربية، لكن الإشكال يبدأ حين يتم ذلك لتسليم الأمور إلى بطل خارق يُعتقد أنه سيغير الواقع ويملأ الأرض عدلًا وغنى، حلٌ سريع ومريح، يجنب الناس ويلات الحروب والصراعات فيما الكل آمن مطمئن في بيته، وليس هذا موجود إلا في الأساطير!
في العراق، تكرر الأمر وإن تشابه في نفس المبدأ، تكرر في إقصاء فئة بالكامل باعتباره حلًا أسهل من تحمل نتائج وجودها فاعلة في المجتمع وتحمل تبعات ما يعنيه ذلك!
بالتأكيد، كان هناك فرصة بعد العام 2003 ليكون البلد بأفضل مما عليه الآن، لكن من حملوا المسؤولية لم يكونوا مستعدين لوجود تعدد حقيقي، كما أن قطاعات واسعة من الشعب لم تكن مستعدة ولا متفهمة لفكرة الحرية وتبعاتها، التي تعني بالنتيجة وجود رأي آخر وتيار آخر “هناك” قد يختلف كليًا عما نحن عليه “هنا” وأن بناء بلد مستقر قوي يقتضي وجودهم “معنا” بكل اختلافهم عنا.
في أعقاب العام 2003 أدى الانفتاح الواسع لفوضى عارمة متوقع حدوثها بعد فترة طويلة من حكم الحزب الواحد، ثم بدأت المشكلة حين وجدت أطراف أن الظرف لا يسمح بالتعدد، وأن الحل يكمن بإقصاء الآخر لضمان الاستقرار من خلال القضاء هذه المرة وليس الانقلاب العسكري! فظهر قانون الإرهاب المتبوع بحالة الطوارئ، متيحًا صلاحيات غير محدودة لأجهزة الدولة الأمنية للتصرف دون الرجوع للقانون أو القضاء، هذا غير سياسة حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي سيئة الصيت ذات اللون واحد.
وهكذا وجد الآلاف أنفسهم في غياهب السجون بلا سبب، ووصل معدل المعتقلين إلى 30 ألف معتقل سنويًا بلا تهمة واضحة يقضون سنوات طويلة دون محاكمة، كما وجدت قطاعات كبيرة من الشعب نفسها محرومة من أي فرصة عمل في الحكومة أو الأجهزة الأمنية، والأغرب أن ذلك كان يُقابل بقبول من فئة كبيرة من المجتمع، راضية بحل سريع يضمن الاستقرار بدل الفوضى التي ستسببها الحرية! والنتيجة الطبيعية لهذا القبول بالانحراف، أن الشعب استفاق على قضاء فاسد بالكامل – وليس ضد فئة معينة – حوّل العراق إلى أكثر الدول فسادًا في العالم، وحكومة لم تجد مشكلة في قتل 700 متظاهر شارك كثير منهم في معارك التحرير ضد داعش، وكانوا حتى وقت قريب من مؤيدي النظام السياسي القائم!
في مصر، أعاد الدرس نفسه بعد ثورة 25 يناير، بتفويض قطاعات كبيرة منها رجل واحد لحل الأزمة، حل سريع مريح مرة أخرى، يقضي على أولئك “الذين سيستأثرون بالحكم لأنفسهم إلى الأبد”، ليصنع بلدًا قويًا يشبه السويد وسويسرا، بالتأكيد لم يكن كثير من الناس في مصر راضين عن حكم مرسي، ولم يكن في ذلك مشكلة، فهذا ما تعنية الحرية! لكن المشكلة تكمن في الركون إلى حلول للعسكر بدل صناديق الاقتراع، لتكون النتيجة الطبيعية مرة أخرى دولة القمع.
يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة سيف الدين عبد الفتاح: “خلال نحو السنة منذ أحداث الإطاحة بمرسي، جرت عملية واسعة وصاخبة من التحضير للانتخابات، وربطها بمفهوم التفويض الشعبي للسلطة الجديدة في إدارة البلاد، بدعوى إرادة 30/6، ثم نُقل التفويض لحكم مصر وإدارة الصراع السياسي والمستقبلي، من المؤسسة العسكرية وحكومتها المعينة إلى شخص وزير الدفاع المستقيل للترشح لمنصب الرئاسة، عبد الفتاح السيسي، كان الأثر بالغًا حين ظهر السيسي للعيان سياسيًا مدنيًا، مرشحًا للرئاسة، يُسأل عن رؤيته للواقع والمتوقع والمستقبل، وما يجب عمله فيه وبرنامجه، ويستعرض في إجاباته شخصيته وطريقته في التفكير والتعبير وحلوله لمشكلات بلد يئن تحت تلال من المعاناة والقلق، ويعرض مواقفه من القوى السياسية والمجتمعية، ومن الخارج”!
إن البلدان العربية لن تتقدم خطوة واحدة ما لم تتفهم شعوبها مسؤولياتها الكبيرة في تحمل تبعات الحرية بعد زمن طويل من الديكتاتورية، وأن أوروبا وصلت إلى ما وصلت إليه بعد سنوات طويلة من النضال الفكري والسياسي ضد الكنيسة أولًا، وضد الإقطاعيات ثانيًا، وضد الملكية ثالثًا، وكانت الحرية بعد قمع طويل، بابًا لفوضى عارمة شهدتها فرنسا عقب الثورة الفرنسية، بدأ من عهد الإرهاب، وحروب ممالك أوروبا ضد فرنسا، وصولًا لليعاقبة وحروب نابليون، ثم 100 عام من الحروب بين دول أوروبا، انتهت بحربين عالميتين طاحنتين وصلت بعدها الشعوب إلى ما وصلت إليه من دول مدنية وحقوق دستورية – حقيقية – لا علاقة لها بالحقوق الدستورية لعبد القتاح السيسي!
ليس المفترض بالطبع، أن تدخل الأمة صراعات دموية لتصل إلى ما وصلت إليه الشعوب الغربية، وليس عليها أن تقضي قرونًا طويلة من الصراع ضد الديكتاتورية، فالزمن قد تغير وقد لا يحتاج الانتقال إلا إلى بضع سنين، لكن يجدر بالدرجة الأولى إدراك حقائق التاريخ في النهضة وصنعة الدولة المدنية، ومعرفة أن الحرية لها تبعاتها الاقتصادية والأمنية والمجتمعية، ولا نبالغ القول، إذا قلنا إن الموجة الثانية من الربيع العربي، أظهرت إدراكًا للشعوب لحقيقة أن حلول الرجل الواحد والحزب الواحد والطائفة الواحدة لا تقود إلا إلى حكومات على طريقة السيسي والأسد، ولعل الأوان لم يكن قد فات بعد، حين أدرك الليبيون أن خلفية حفتر – رغم دعاوى الأمن الاستقرار – لا يمكن أن يكون غير حجر عثرة كبير أمام دولة مدنية تكون فيها الحكومات أجيرة عند المواطنين لا أن يكون الشعب عبيدًا للزعيم الأوحد.. واسألوا أهل طرابلس!