أعادت واقعة قصف سفينة “كنارك” الحربية الإيرانية بصاروخ عن طريق الخطأ من مدمرة “جماران” في مياه بحر عمان في أثناء تدريبات عسكرية للجيش الإيراني، مساء الأحد 10 مايو/أيار 2020، الحديث مرة أخرى عن الأخطاء العسكرية المتكررة التي ارتكبتها تلك القوات على مدار العقود الماضية، أسفرت عن سقوط العشرات قتلى.
الحادث أسفر عن مقتل 19 عنصرًا من القوات البحرية التابعة للجيش الإيراني وإصابة 15 آخرين، فيما أبقى بيان المؤسسة العسكرية حيثيات ما جرى غامضة، مكتفيًا بأن ما حدث كان نتيجة “خطأ بحري” حلال التمارين العامة التي كانت تجري بين ميناءي جاسك وجابهار الإيرانيين، المطلين على بحر عمان.
مصدر مقرب من السلطات الإيرانية أشار إلى أن السبب وراء القصف الخاطئ تقني أكثر منه بشري، في حين طالب الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بالبرلمان الإيراني، حشمت الله فلاحت بيشه، بسرعة فتح تحقيق شامل في تفاصيل الحادث وأسبابه الحقيقية.
حالة من الجدل أثارها الغموض الذي خيم على تفاصيل الحادث، وهو ما أثار التساؤلات معها، ففي البيان الأول لقيادة المنطقة البحرية الأولى بعد ساعات قليلة من الواقعة، أشار إلى سقوط قتيل واحد فقط، إلا أن الأمور تطورت بعد ذلك ليعلن مقتل 19 عسكريًا بخلاف المصابين.
الحادث ليس الأول من نوعه، إذ شهدت البلاد منذ قيام الثورة الإسلامية في 1979، العديد من الأخطاء العسكرية، تباينت ضحاياها بين إيرانيين وأجانب، فيما غلف الغموض معظم كواليسها، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات عن القدرات العسكرية لإيران من الناحية التقنية والبشرية، هذا إن نحينا جانبًا مسألة المؤامرة وتعمد وقوع تلك الكوارث بفعل فاعل.
ارتباك مثير للجدل
الارتباك الواضح في إدارة المشهد من الجانب الإيراني، كان مثار تساؤل البعض، غير أن آخرين ذهبوا إلى أن في مثل هذه القضايا الحساسة، الأمنية والعسكرية، تطبق الدولة إجراءات مشددة، كما أشار مصدر مقرب من الجيش الإيراني في تصريحات لـ”الجزيرة“.
المصدر كشف أن هناك سلسلة تدابير يجب أن يتم اتخاذها على المستويات العليا للهرم السياسي للحكم قبل إعلان تفاصيل مثل هذه الجرائم التي تمس أمن الدولة، مرجعًا تأخر القوات الإيرانية في إعلان وقوع هذه الحوادث إلى دراستها بشكل كبير من قبل القيادة السياسية والعسكرية قبل كشفها.
كما انتقد هذا المصدر الأداء الإعلامي للجيش الإيراني، متهمًا إياه بسوء الإدارة التي من شأنها أن تكون نواة لفتح الباب على مصراعيه لتوجيه الاتهامات والانتقادات للسلطات وإثارة الكثير من التساؤلات الجدلية التي ربما تأخذ الأمور إلى منحى آخر.
وفي الأخير أرجع السبب الحقيقي لتلك الحوادث إلى الجانب التقني أكثر منه البشري، لافتًا إلى أن الصورة المأخوذة بشأن دقة الصناعات العسكرية الإيرانية “ليست صحيحة في جميعها”، مستدركًا بأن بلاده رغم ذلك حققت العديد من النجاحات على مستوى صناعاتها العسكرية.
أخطاء متكررة
أول معرفة لإيران ما بعد الثورة بالحوادث العسكرية كان في الـ29 من سبتمبر 1981، حين سقطت الطائرة العسكرية من طراز C 130 التي كانت تقل عددًا من القادة العسكريين من مدينة الأهواز إلى طهران لرفع تقارير لأية الله الخميني، عن الحرب الإيرانية العراقية، حيث انفجرت عقب هبوطها الاضطراري في الصحراء بمدينة قم على بعد 110 كيلومترات من العاصمة.
وسقط في هذا الحادث أكثر من 30 عسكريًا، بينهم قادة كبار في الحرس والجيش، على رأسهم رئيس أركان الجيش ولي الله فلاحي، ووزير الدفاع موسى نامجوي، وقائد سلاح الجو جواد فكوري، ونائب القائد العام للحرس الثوري يوسف كلاهدوز، وقائد قوات الحرس في مدينة خرمشهر جنوب غربي إيران محمد جهان آرا.
وأسفرت التحقيقات وقتها عن أن سبب الحادث انقطاع التيار الكهربائي ما أدى إلى خلل في محركات الطائرة، غير أن شهادة بعض الناجين تذهب إلى أن الجدل لم يحسم بعد بشأن الأسباب الحقيقية وراء الواقعة التي ربما يكون من بينها نيران صديقة عن طريق الخطأ.
فيما ترجع الواقعة الثانية إلى الـ6 من أغسطس 1987، حين استهدف الدفاع الجوي الإيراني عن طريق الخطأ، طائرة عسكرية تقل رئيس عمليات السلاح الجوي للجيش اللواء عباس بابائي، أحد أشهر جنرات طهران إبان الحرب الإيرانية العراقية.
وفي الكواليس تشير التفاصيل إلى أن رئيس عمليات السلاح الجوي انطلق من قاعدة تبريز الجوية متجهًا إلى الأجواء العراقية بطائرة f5 بهدف القيام بمهمة استطلاعية ومباشرة التدريبات، غير أن قائد الطائرة فوجئ خلال عودته بإطلاق قوات الدفاع الجوي في مدينة سردشت”غرب” النار عليه، ليسقط الجنرال الإيراني بعد أن أصيب في رأسه.
أما الخطأ العسكري الأبرز في تاريخ الكوارث العسكرية الإيرانية، فكان إسقاط الطائرة الأوكرانية من طراز بيونغ 737 في الـ8 من يناير 2020، الذي أودى بحياة 176 راكبًا، من جنسيات أوكرانية وكندية وأفغانية وسويدية وبريطانية.
ويعد هذا الخطأ الأكثر جسامة، نظرًا للظروف الإقليمية والزمانية التي وقع فيها، الأمر الذي كان له ارتدادات داخلية وخارجية صعبة على السلطات الإيرانية، إذ وقع في الوقت الذي تخيم فيه أجواء الحرب بين إيران والولايات المتحدة في أعقاب الأخيرة استهداف الجنرال قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، يوم الـ3 من يناير2020.
بين الخطأ البشري والفني
تعد إيران أحد أبرز أقوى جيوش المنطقة عددًا، نظرًا لما تمتلكه من ترسانة بشرية وصاروخية كبيرة، إذ يبلغ قوام قواتها المسلحة 523 ألف من العاملين و350 ألف من الاحتياط، مقسمة إلى أربعة أقسام، الجيش وعدده 350 ألف، الحرس الثوري وعدده 125 ألف، البحرية وعددها 18 ألف، القوات الجوية وعددها 30 ألف.
كما احتلت في 2017 المركز الـ15 عالميًا من حيث حجم الإنفاق العسكري قياسًا للناتج القومي، حيث بلغ المنفق 16 مليار دولار من إجمالي ناتج قومي قدره 428 مليار دولار بنسبة قدرها 3.7%، فيما زاد حجم هذا الإنفاق بنسبة 33% خلال الفترة من 2005 إلى 2015.
ورغم هذا الكم الهائل من العدد والعتاد، هناك مشكلة كبيرة تواجه مستوى التسليح الإيراني، تتعلق بقدم الأسلحة المستخدمة وعدم تطويرها في ظل الحظر الدولي المفروض عليها من الولايات المتحدة وغيرها من الدول، وهو ما أفقد المنظومة العسكرية الكثير من قوتها في ظل الفارق الكبير بينها وبين أحدث التطورات في مجال الصناعات العسكرية.
لفت تقرير بعنوان “القوة العسكرية الإيرانية بين التصريح والواقع” إلى أن رغم امتلاك إيران لأكبر ترسانة صواريخ في الشرق الأوسط، فإنها في مرتبة متأخرة في تصنيف الصواريخ العالمية، بسبب قصر مداها وبطء سرعتها وسهولة رصدها، وغير ذلك من نقاط الضعف الناجمة عن قدمها.
التقرير أوضح أن معظم منظومة التسليح الإيراني، أمريكية وروسية الصنع، وأن نسبة الطائرات الأمريكية الصالحة للعمل التي يمتلكها الجيش الإيراني لا تتعدى 60% أما الطائرات الروسية الصالحة فنحو 80% من إجمالي العدد.
وألمح إلى أن الحصار المفروض على البلاد حال دون استيراد قطع الغيار والمعدلات المطلوبة للتطوير، ما دفع الجيش الإيراني إلى استحداث صناعات محلية الصنع في هذا الشأن، غير أنها لم تكن على مستوى مواكبة التطورات العالمية، ما تسبب في تراجع قدرة وتأثير الأسلحة المستخدمة.
وهذه كلها تقديرات نظرًا لأن الحصار المفروض يشمل قطع الغيار والمعدات اللازمة للطائرات، وعدم وجود علاقات مع أمريكا منذ فترة طويلة، وتقادم الطائرات الأمريكية وعدم قدرة الصناعة المحلية على تعويض ذلك سواء من ناحية المعدات وقطع الغيار أم صناعة بديل محلي.
فيما أشارت تقديرات أخرى إلى أن الصناعات العسكرية الإيرانية رغم قدمها (بدأت منذ 40 عامًا تقريبًا) إلا أنها لم تنجح على المستوى الإستراتيجي إلا في مجال صنع الصواريخ أرض أرض وأرض جو، لكنها لم تنجح في إيجاد حلول ناجعة لمشاكل سلاح الجو والدفاع الجوي، رغم حالة النقص الشديد في هذا السلاح.
ورغم ما تبذله طهران من جهود لتطوير منظومتها التسليحية بما لديها من قدرات وإمكانات، بات من الواضح أن التحديات كبيرة، وهو ما ينعكس بين الحين والآخر على مستوى الأداء، البشري كان أو الفني، الأمر الذي أسفر عن وقوع العديد من الأخطاء العسكرية التي كبدت البلاد العديد من الخسائر كما أساءت للصورة التي طالما حرصت طهران على تصديرها لدول العالم عامة، والمنطقة على وجه الخصوص، المتعلقة بأسطورة التفوق العسكري للجيش الإيراني.