عمّقت جائحة كورونا من الأزمات التي تعانيها إفريقيا، ورغم أن القارة السمراء لم تسجل حجم إصابات ووفيات كبيرة كبقية أنحاء العالم، فإن إغلاق الأسواق والحدود ووقف الأعمال وحركة التجارة والطيران ألقى بظلاله على القارة التي ما زالت أجزاء كبيرة منها تعاني نقصًا في أبسط مقومات الحياة من غذاء ودواء ومياه شرب نظيفة.
إلى جانب الخطط الداخلية لكل دولة من الدول الإفريقية، فإن معظم دول القارة كانت تُعوّل على بدأ سريان اتفاقية التجارة الحرة التي وقعت عليها كل الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي عدا إريتريا، وكان يفترض أن يتم التدشين مطلع يوليو/ تموز القادم لولا انتشار فيروس كورونا.
أكبر منطقة تجارة حرة عالمية
اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) ليست اتفاقية إقليمية عادية، بل تهدف إلى إنشاء أكبر منطقة تجارية خالية من العوائق في العالم منذ تأسيس منظمة التجارة العالمية في 1995، حيث سيكون التكتل الاقتصادي الإفريقي سوقًا مفتوحةً لأكثر من 1.3 مليار مستهلك هم سكان القارة السمراء، وبالتالي فإن نجاحها رهين باتباع نموذج مشترك للتكامل ووضع الخلافات السياسية جانبًا، وقد اتفق القادة الأفارقة العام الماضي على أن يكون بدء تنفيذ الاتفاقية الحدث الرئيسي في الأجندة السياسية للاتحاد الإفريقي عام 2020 بعد أن تم إطلاق المرحلة التجريبية خلال قمة الاتحاد الإفريقي التي استضافتها نيامي عاصمة النيجر في يوليو/تموز 2019.
التوصل للاتفاقية لم يكن أمرًا سهلًا، إذ تطلب ماراثونًا طويلًا من المفاوضات الشاقة بين الدول الأعضاء في الاتحاد استمرت لمدة 7 أعوام، فقد نبعت فكرة التجارة الحرة الإفريقية عام 2012، خلال قمة الاتحاد الإفريقي التي استضافتها بلد المقر “العاصمة الإثيوبية أديس أبابا”، تحت عنوان “تعزيز التجارة البينية في إفريقيا”، بهدف التكامل الإقليمي بين دول القارة السمراء الـ55.
بدأ التخطيط الأولي للاتفاقية عام 2013، ثم عُقدت مفاوضات عام 2015 عبر قمتي الاتحاد الإفريقي، بعدها عُقد منتدى التفاوض الأول في فبراير/شباط 2016، تلته سلسلة من الاجتماعات، وفي فبراير عام 2017، عقدت مجموعات الأعمال التقنية 4 اجتماعات، حيث تمت مناقشة المسائل الفنية في المسودة.
تعد اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية أحد المشروعات الرائدة في أجندة 2063 للاتحاد الإفريقي
وفي الفترة من 8-9 من مارس/آذار 2018 وافق وزراء التجارة بالاتحاد الإفريقي على المشروع، الأمر الذي مهّد إلى توقيع عدد من القادة الأفارقة على اتفاق المنطقة التجارية في مؤتمر القمة الاستثنائي للاتحاد 21 من مارس الذي استضافته العاصمة الرواندية كيغالي، حيث تم التوقيع على عدة اتفاقيات أولها الاتفاق المنشئ لمنطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية لتكون غانا الدولة المستضيفة للمعاهدة، إلى جانب اتفاق إعلان كيغالي وبروتوكول حرية الحركة.
أجندة 2063 للاتحاد الإفريقي
تعد اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية أحد المشروعات الرائدة في أجندة 2063 للاتحاد الإفريقي، وهي كذلك أحد مشروعات الرؤية طويلة المدى للاتحاد الهادفة إلى جعل القارة السمراء متكاملة ومزدهرة وآمنة، ويراهن من خلالها على تعزيز العلاقات التجارية بين الدول الإفريقية.
وتشير دراسات اقتصادية إلى أن إفريقيا ستكون في السنوات القادمة أهم الأسواق الواعدة في العالم، بينما لا يتجاوز حاليًّا حجم المبادلات التجارية البينية نسبة 11% فقط بين دول القارة وهو ما يعطي فكرة عن أهمية هذه الاتفاقية.
كذلك، تكمن أهمية اتفاقية التجارة الحرة في إفريقيا إلى أنها تلزم حكومات الدول الأعضاء لاتخاذ المزيد من إجراءات التكامل الاقتصادي، حيث تبدأ الدول الموقعة عملية متعددة السنوات لإزالة الحواجز التجارية بما في ذلك الرسوم الجمركية على 90% من السلع.
ومن المتوقع أن تؤدي حركة البضائع المعفاة من الرسوم إلى تعزيز التجارة الإقليمية، بينما تساعد أيضًا الدول على الابتعاد عن تصدير المواد الخام بشكل أساسي وبناء القدرة التصنيعية من أجل اجتذاب استثمارات أجنبية.
من المأمول كذلك أن تتيح اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية وتماشيًا مع الأهداف الإستراتيجية لمبادرة أجندة الاتحاد الإفريقي 2063، جملة من الأدوات يمكن استخدامها من أجل تمكين القارة السمراء للاستفادة من مواردها التجارية الهائلة وفرصها الاستثمارية والإسهام إيجابيًا في التحول الهيكلي للاقتصادات الإفريقية، وكذلك القضاء على الفقر والتأثير الإيجابي في حياة المواطنين الأفارقة، لا سيما أن القارة تخطو خطوات جدية نحو تحقيق التنمية الاقتصادية، حيث تستحوذ القارة على 7 من الاقتصادات العشر الأسرع نموًا في العالم.
وتمتاز كذلك القارة بطبقة وسطى سريعة النمو، فمعدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي GDP في القارة السمراء بلغ نحو 2.37% وهو رقم مرتفع نسبيًا إذا قارناه بأمريكا الشمالية (2.76%) والدول العربية (2.10%).
تنفيذ منطقة التبادل الحر القارية سيتم شيئًا فشيئًا على عدة سنوات
عقبات أمام المشروع
مع كل الإيجابيات والطموحات التي تنتظر تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية بعد تأجيلها بسبب تفشي فيروس كورونا، فإن هناك جملة من العقبات قد تعيق تنفيذ الاتفاقية على الوجه الأكمل، منها ضعف البنية التحتية من شبكات الطرق والسكك الحديدية المتهالكة، إلى جانب الاضطرابات في مناطق شاسعة والمعوقات الإدارية على حدود العديد من الدول الأعضاء.
من جانبه، يرى جاكي سيليرز رئيس مركز المستقبل الإفريقي والابتكار بمعهد الدراسات الأمنية ومقره بريتوريا، أن “إفريقيا تزاول التجارة مع باقي العالم، لكن ليس مع نفسها”، مضيفًا “منطقة تبادل حر تكاد تكون شرطًا مسبقًا لعملية التصنيع”.
مؤكدًا “تنفيذ منطقة التبادل الحر القارية سيتم شيئًا فشيئًا على عدة سنوات”، موضحًا أن نجاح المشروع يتوقف إلى حد بعيد على إزالة العقبات “غير الضريبية” مثل الفساد وترهل البنى التحتية وفترة الانتظار على الحدود، وهو ما تعتزم “منطقة التبادل الحر” العمل عليه.
4 تكتلات اقتصادية موجودة حاليًّا
إلى جانب ذلك، هناك معضلة تعدد التكتلات التجارية والاقتصادية في إفريقيا، ففي القارة السمراء 4 مجموعات كبيرة قائمة على اتفاقيات اقتصادية وهي:
– المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) في الغرب.
– مجموعة شرق إفريقيا (إيك) في الشرق.
– مجموعة تنمية الجنوب الإفريقي (سادك) في الجنوب.
– السوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا (الكوميسا) في الشرق والجنوب.
فهذه المجموعات الأربعة لديها اتفاقيات تجارية واقتصادية من الممكن أن تتقاطع مع اتفاقية التجارة الحرة القارية التي وقعت عليها كل دول القارة السمراء باستثناء إريتريا، وإلى جانب التوقيع صادقت على الاتفاقية واعتمدتها بالفعل العديد من دول القارة.
ورغم ذلك يشكل إعلان ديفيد لوك، منسق التجارة في لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا (UNECA)، أن مفوضية الاتحاد الإفريقي “اقترحت في 1 من يناير/كانون الثاني 2021 موعدًا جديدًا لبدء تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية”، بعض الأمل في أن تعوض القارة السمراء جزءًا من خسائرها جراء جائحة كورونا، فقد خفّضت اللجنة الاقتصادية لإفريقيا، ومقرها أديس أبابا، توقعاتها للنمو في الناتج المحلي الإجمالي للقارة السمراء هذا العام من 3.2% إلى 1.8%.
ولذلك فإن معاهدة التجارة الحرة الإفريقية أصبحت الآن أكثر أهمية وإلحاحًا لإنعاش إفريقيا بعد جائحة كورونا، رغم التحديات مثل إلغاء التعريفات الجمركية على 90% من المنتجات التي قد تستغرق سنوات، فقبل الوباء العالمي كانت القارة الإفريقية مجرد ساحةً للتنافس بين القوى التجارية العالمية مثل الصين والولايات المتحدة وروسيا وأوروبا.
عليه، فإن القادة الأفارقة بعد الانتهاء من معركة فيروس كورونا، مطالبون بأن يكونوا أكثر تحمسًا وإصرارًا على تنفيذ كل بنود اتفاقية التجارة الحرة التي ستجعل إفريقيا صاحبة أكبر منطقة تجارية خالية من العوائق في العالم.