بات التصوف ظاهرة عالمية من الدرجة الأولى، وتحولت أدبياته من مجرد طقوس فردية يؤديها مريدوه تقربا إلى الله زهدًا وتجردًا من ملذات الحياة إلى مدارس فكرية وعقلية لها استراتيجيات خاصة وأهداف محددة، وتسعى لتحقيقها عبر أدوات واستراتيجيات مختلفة.
وتجاوز التصوف حدوده الجغرافية كونه إبنا شرعيًا للحركات الدينية في العالم العربي والإسلامي إلى آفاق أكثر رحبة، تخطى معها الحدود والمسافات، ليفرض نفسه على خارطة العالم الفكرية، حتى بات علامة فارقة تصاغ فيها الرسائل العلمية والأبحاث الفكرية.
كما انتقل من مرحلة الدروشة واتهامات “الجنون والجذب والغياب عن الواقع” إلى نفق جديد من الدراسة والعلم، وفق شروط منهجية وأليات فلسفية للترقي، حتى بات أقطابه أعلامًا يشار لهم بالبنان، محاطون بملايين المريدين والأنصار في كل مكان.
وخلال العقود الماضية تساءل البعض عن أسباب الإطراء الذي قوبل به الفكر الصوفي في الغرب، فلطالما صدح المتشرقون به، وتصاعدت دعوات الاهتمام والإعلاء به، حتى تُرجم هذا الاهتمام إلى دعم دبلوماسي وإعلامي للحركات الصوفية في مختلف دول العالم.
وبعيدًا عن بقية الفرق والمذاهب الدينية باتت الصوفية قبلة المهتمين بدراسة الإسلام لدى الغرب، وسارع كبار الساسة والشخصيات العامة في أوروبا وأمريكا إلى التقرب من الصوفية، إلى الحد الذي باتت فيه زيارة الأضرحة وحضور الموالد أحد ثوابت أولويات البعض، وعلى رأس اهتماماتهم.
ورغم ذلك لا زال السؤال قائمًا: لماذا كل هذا الاهتمام؟ وهنا جاءت مجلة us news and world report الأمريكية لتحمل معها الإجابة من خلال تقريرها المعنون بـ «عقول وقلوب ودولارات»المنشور في الخامس والعشرين من إبريل 2005، والذي جاء في أحد فقراته «يعتقد الاستراتيجيون الأمريكيون بشكل متزايد أن الحركة الصوفية بأفرعها العالمية قد تكون واحدًا من أفضل الأسلحة، ولذا فإنهم يدفعون علنا باتجاه تعزيز العلاقات مع الحركة الصوفية، ومن بين البنود المقترحة استخدام المعونة الأمريكية لترميم المزارات الصوفية في الخارج والحفاظ على مخطوطاتها الكلاسيكية التي تعود للقرون الوسطى وترجمتها ودفع الحكومات لتشجيع نهضة صوفية بلادها»
الاتحاد العالمي للطرق الصوفية
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين انبرى أقطاب مشيخة الطريقة العزمية بمصر، بالتعاون مع بعض الجهات الأوروبية المعنية بدراسة مقارنة الأديان، إلى تأسيس كيان دولي يحمل على عاتقه نشر الفكر الصوفي، وتم اختيار عنوان له حمل اسم “الاتحاد العالمي للطرق الصوفية”.
وقع الاختيار على العاصمة الفرنسية باريس لتكون مقرا دائما للاتحاد، أما المقر التنفيذي فكان في العاصمة المصرية القاهرة، حيث سخرت المشيخة العزمية كل فروعها لخدمة أهداف الاتحاد الذي يهدف حسبما أشار في بيانه التعريفي المنشور على موقعه الإلكتروني إلى “الترابط والتعاون بين الطرق الصوفية على مستوى العالم”.
وقد أعلن الكيان عقب تدشينه هدفين فرعيين بجانب الهدف الرئيسي السابق، وهما نشر الفكر الصوفي الوسطي الذي لا يميل إلى الإفراط أو التفريط، وإقامة مجتمع إسلامي يتحلى بأخلاق وآداب الإسلام، والتي تساعد على العمل والإنتاج وبناء حضارة تفخر بها الأجيال القادمة.
أما عن أليات تحقيق تلك الأهداف فحدد لذلك عشرة وسائل تقريبًا، أبرزها، خروج الصوفيين من خلواتهم، وانتشارهم في المجتمعات وتحولهم من صالحين إلى مصلحين، لقيادة عملية الإصلاح في المجتمع، كذلك الاهتمام بالبعد الإعلامي من خلال إصدار مجلة دورية بأكثر من لغة لخدمة الصوفية عالميًا، وتدشين قناة فضائية صوفية.
هذا بجانب تعزيز النشاط الميداني والفكري، من خلال عقد مؤتمرات دورية لبحث أوجه العمل الإيجابي لمصلحة الصوفية والتصوف، والتواصل العلمي عن طريق تبادل المطبوعات بين الطرق الصوفي، إضافة إلى إنشاء صندوق مالي خاص بالاتحاد لتمويل برنامجه الإصلاحى الشامل.
المنتدى الصوفي العالمي
في الحادي عشر من مايو 2018 ومن قلب العاصمة الإندونيسية جاكرتا، أعلن شيوخ وعلماء من قرابة 20 دولة إسلامية، عن تأسيس المكتب الدائم لما أطلق عليه “المنتدى الإسلامي العالمي للتصوف” والذي هدف إلى جمع كلمة الصوفية في مختلف دول العالم، وتكوين كيان صوفي قوي لنشر الوسطية في بلدان العالم الإسلامي والغربي.
الاجتماع شارك فيه علماء الصوفية من عدد من الدول على رأسها السعودية ولبنان والإمارات والعراق والكويت والمغرب والجزائر والسودان، وعلى رأسهم الشيخ رياض بازو شيخ الطريقة النقشبندية بلبنان، والدكتور على البهار نائب شيخ الطريقة المحمدية الصوفية بدولة إندويسيا، ومحمد قريب الله رئيس المجمع الصوفي السوداني وعدد آخر من شيوخ وعلماء الصوفية.
وعن دوافع تدشين هذا المنتدى الذي أثار الجدل وقتها، أشار شيخ الطريقة النقشبندية بلبنان إلى أن الهدف الرئيسي كان تحديد رؤية ورسالة الطرق الصوفية في مختلف دول العالم، وبحث الخطاب الصوفي الوسطي وفق توجيهات الوحي وحاجات العصر.
هذا بجانب جمع قاعدة بيانات شاملة لكل الطرق الصوفية حول العالم، وأعضائها، وفروعها، واستراتيجيات عملها، بهدف تشكيل خطط موحدة وتبني أهداف عامة يلتزم بها الجميع، لتقوية شوكة الصوفية وتعزيز تأثيرها عالميًا.
المشاركون في المنتدى قدموا أنفسهم للغرب بصورة كبيرة، منوهين إلى الدور الذي باتت تلعبه الطرق الصوفية وسط طوفان العولمة وفي ظل تزايد تأثير التيارات المتشددة، لافتين إلى دور كيانهم في إشاعة السلم العالمي وتخفيف حدة التوتر ونشر الطمأنينة بين الناس وقت الأزمات.
كان هذا المنتدى رسالة مغازلة واضحة للأخر، لاسيما أصحاب المواقف المتشددة والعدائية من تيارات الإسلام السياسي، حيث طالب المشاركون بإعادة ترتيب البيت الصوفي بما يؤهله لكسب ثقة الغرب وتقديم الإسلام الوسطي المطلوب، وأن تحل الصوفية بديلا للإسلام الذي يمقته الغرب من وجهة نظرهم، هذا الإسلام الذي يعلي من قيم الجهاد ومقاومة المعتدين وبذل الغالي والنفيس من أجل التمكين.
وللاستدلال على حجم هذا الدعم يذكر أنه في 18 إبريل 2003 عقد في مقر مكتبة الإسكندرية، المؤتمر العالمي للطريقة الشاذلية، وكان ذلك بالتعاون مع منظمة اليونسكو، ووزاتي الخارجية والبحث العلمي الفرنسية، بجانب الكرز الوطني الفرنسي، هذا بخلاف حضور السفير الأمريكي في مصر مولد السيد البدوي بطنطا “شمال” برفقة عدد من أعضاء البعثة الدبلوماسية.
الإسلام البديل
تحولت الصوفية لدى الغرب إلى الصورة الأكثر إشراقًا والأقل توترًا للإسلام، وشيئًا فشيئًا باتت الطقوس الصوفية الممارسة هي الطقوس المعتمدة رسميا في مقابل فرض المزيد من القيود على المراكز الإسلامية السلفية الأخرى، لاسيما في السنوات الأخيرة.
وعليه تنتشر المئات من الطرق الصوفية المختلفة في دول الغرب لاسيما فرنسا وهولندا والولايات المتحدة أكبر من بعض البلدان الإسلامية، بل تصدر أقطاب تلك الطرق ورموزها أغلفة المجلات والصحف وباتوا من مشاهير المجتمع وشخصياته العامة.
وجدت حكومات الغرب في المنتدى العالمي للصوفية ضالتها لاستئصال الإسلام التقليدي الذي ظل ولا يزال صداعا يؤرق مضاجعهم، ولم يكتفوا بفتح الأبواب أمام تلك الفرق والمذاهب في بلدانهم وفقط، بل ساعدوا أنصار الصوفية لتولي المناصب القيادية في أوطانهم كذلك.
القارئ لخارطة الحكومات العربية والإسلامية خلال الأعوام الماضية يجد تقلد كثير من الشخصيات المحسوبة على الصوفية أعلى المناصب، فهناك علي جمعة، مفتي مصر السابق، وأحمد عمر هاشم، رئيس اللجنة الدينية في مجلس الشعب ورئيس جامعة الأزهر الأسبق، كذلك أبو العزايم شيخ الطريق العزمية، عضو مجلس النواب وغيره.
وفي الإمارات مثلا هناك مؤسسة “طابة” التي تتخذ من أبو ظبي مقرًا لها، ويديرها الداعية اليمني المثير للجدل، علي الجفري، المقرب من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تلك المنظمة التي تنتشر بصورة أثارت الكثير من التساؤلات لما تقوم به من أنشطة مثيرة للريبة، كما أن لها مجلس استشاري أعلى يجمع أقطاب الصوفية أمثال محمد البوطي، عبد الله بن بيّه.
وهكذا تنظر الحكومات الغربية للحركات الصوفية وكياناتها العالمية نظرة اهتمام ودعم، فهي التي تقدم لها مفهوم الإسلام بالطريقة التي تتناسب ومنظومتها الفكرية والقيمية، بعيدًا عن الإسلام الشامل لكل نواحي الحياة، الصالح لكل زمان ومكان، والذي لا يروق للغرب ولا لتوجهاته.