ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال الأيام الأولى من اندلاع الربيع العربي سنة 2011، كانت هناك لحظة لا يمكن تحديدها عندما أصبحت احتجاجات الشوارع أكثر من مجرد مجموعة من الناس يرددون شعارات ويحملون لافتات. في الواقع، لقد بدا أن أمة بأكملها تتوحد لإيصال صوتها. بالنسبة لأولئك الذين كانوا في ميدان التحرير في القاهرة، كان هناك شيء قديم بشكل مثير للإعجاب – مثل العودة إلى عصر ميشليه وروسو، عندما تكلم “الشعب” ككيان واحد. يبدو أن هتافات الاحتجاجات – الشعب يريد إسقاط النظام – كانت تنبعث من الحشود وليس من شخص واحد.
لم يستغرق حل مشهد الوحدة العاطفي هذا وقتًا طويلاً مثل الألعاب النارية في سماء الليل. لقد حدث شيء في ميدان التحرير لا يجب محوه بالكامل من المآسي التي تلت ذلك. في كتابه “الشتاء العربي”، تطرق نوح فيلدمان – أستاذ قانون بجامعة هارفارد ذو خبرة كبيرة بما يحصل في العالم العربي – لموضوع “المعنى السياسي العميق للربيع العربي وعواقبه”.
جادل فيلدمان بأن الانتفاضات في خطر محدق من أن يتم رفضها واعتبارها تجربة لا معنى لها، ليس فقط بسبب الفوضى والإرهاب الذي أعقبها، وإنما بسبب الشعور واسع النطاق بأنها لم تترك أي بقايا سياسية حقيقية بصرف النظر عن النجاح الهش لتونس في إرساء الديمقراطية.
في الحقيقة، يريد فيلدمان إنقاذ الربيع العربي من حكم “عدم الوجود الضمني” هذا. كما يعتقد أن الانتفاضات سلطت الضوء على “مرحلة جديدة غير مسبوقة في التجربة السياسية العربية، حيث انخرط المشاركون في عمل جماعي لتقرير المصير لا علاقة له بالقوة الإمبريالية”.
لفهم سبب أهمية ذلك، يجب على المرء أن يتذكر أن جل العالم العربي كان تحت سيطرة إمبراطورية أو أخرى على مدى الألفية الثانية الماضية، بداية من الرومان والمماليك والعثمانيين وصولا إلى المستعمرين الأوروبيين. وحتى بعد أن حصلت الدول العربية على الاستقلال في منتصف القرن العشرين، كانت سياساتها غارقة إلى حد كبير في تنافس القوى العظمى وأجنداتها.
بعبارة أخرى، تخلى العرب سنة 2011 أخيرًا عن تبعيتهم التاريخية لهذه القوى. يعترف فيلدمان بصعوبة مساواة سلسلة الفوضى الناجمة عن احتجاجات الشوارع مع أمة (في حالة مصر) يقرب عدد سكانها من 100 مليون نسمة. لكنه يقول إن هذا النوع من الخطاب الثوري كان ذا معنى لأن الأنظمة القديمة – في مصر ودول أخرى – لم تكن شفافة للغاية لتمثيل إرادة الشعب.
بالاعتماد على كتابات حنة أرنت، يجادل فيلدمان بأن الأشخاص الذين انتقلوا إلى ساحات الاحتجاج سنة 2011 “تصرفوا كوكلاء لمستقبلهم السياسي الخاص”. يعد هذا الإدعاء جريئا لكن فيلدمان أوضح نتائجه بطرق رائعة ومقنعة. فهو يدرك أن المأساة كانت نتيجة طبيعية لهذه الصحوات السياسية في كل مكان شهد اندلاع الانتفاضات.
في مصر، احتشد العديد من المتظاهرين في ميدان التحرير مرة أخرى سنة 2013 ضد أول رئيس منتخب بحرية في بلادهم، زعيم الإخوان المسلمين محمد مرسي. أسفر التمرد الثاني – كما عرفه الكثيرون – عن انقلاب عسكري وعودة الديكتاتورية. ومع ذلك، يجادل فيلدمان بأن “الشعب” تحدث في هذه المرحلة الثانية تمامًا كما فعل في المرة الأولى: سنة 2013 “رفض الشعب المصري الديمقراطية الدستورية – بشكل كبير وعلني وفي ممارسة الإرادة الديمقراطية”، فكانت النتيجة حكما استبداديا أكثر قمعية مما كان عليه مبارك.
استمرت المآسي، لا سيما في سوريا، حيث بدا أن الكثير من السكان “تكلموا” ضد نظام الأسد في الاحتجاجات السلمية المبكرة في ذلك البلد. لكن الانقسامات الداخلية في سوريا كانت أكثر سُمية بكثير، وسرعان ما تبدد وهم الصوت الجماعي لتندلع الحرب. ويخلص فيلدمان إلى أنه على الرغم من الدور المدمر للقوى الأجنبية في تلك الحرب – بما في ذلك الولايات المتحدة – إلا أن المسؤولية تقع في النهاية على عاتق السوريين، الذين اتخذوا القرار المهم في الانتفاضة بشكل جماعي مثل باقي العرب.
تختلف تونس اختلافًا كبيرًا عن البلدان الأخرى التي حدثت فيها الانتفاضات: لا نفط، ولا أقليات عرقية أو دينية رئيسية
من شأن هذا الاستنتاج أن يغضب بعض الناس. ولكن بعد أن ألفتُ كتابي عن الانتفاضات العربية وعواقبها، أميل إلى مشاطرته الرأي. بالنسبة لفريدمان، يعتبر تنظيم الدولة تعبيرًا حقيقيًا عن الإرادة السياسية الجماعية. لقد كان مؤسسوه “يحاولون التصرف كوكلاء في السياسة في كل مرة، على غرار متظاهري الربيع العربي المسالمين أو أولئك الذين حملوا السلاح ضد الأنظمة القمعية”. في بعض النواحي، كان لديهم ادعاء أفضل، حيث كانت لديهم فكرة أكثر دقة عن نوع الدولة والمجتمع الذي قاموا بإنشائه.
بغض النظر عن هذه المذبحة، يمكن للمرء أن يستنتج أن جهود فيلدمان لتحديد وكالة سياسية أو تاريخية جديدة في حركة الاحتجاجات العربية هي خطوة خطيرة، وتأييد أولي لنوع العمل السياسي الثوري الذي انتهى في كثير من الأحيان بكارثة. أتذكر أنني سمعت متظاهرين شبابًا من القاهرة يرفضون الدعوة إلى انتخابات مبكرة سنة 2011 من خلال الاحتجاج بـ “شرعيتهم الثورية” – وهي عبارة يجب أن تجعل دم أي شخص يبرد.
اعتادت الثورات على أكل أطفالها، وكثيرا ما تعزز آثارها النظرة التعويضية القائلة إن السياسة يجب أن تسترشد بإجلال بالاستمرارية والتقاليد رغم أنواع الظلم المختلفة التي تجلبها هذه المبادئ معها. كان هذا هو جوهر أطروحة إدموند بيرك سنة 1790 “تأملات في الثورة في فرنسا”، والتي أصبحت نصًا مؤسسيًا للمحافظين في السياسية الحديثة.
لا يوجد نظير لبيرك في العالم العربي اليوم، لكن البعض قد يرون صدى لآرائه في محمد بن زايد، الحاكم الفعلي للإمارات العربية المتحدة، وهو شخص متمسك بالتقاليد، قاد حملة لترويض الطاقات الثورية لانتفاضات سنة 2011. والجدير بالذكر أن فيلدمان لم يذكر بن زايد، لكنه يعترف بأن مأساة تداعيات الربيع العربي تضفي المصداقية على وجهة نظر بيرك.
في النهاية، يبتعد فيلدمان عن هذا المنظور المحافظ، وهو يفعل ذلك من خلال تسليط الضوء على نجاح السياسة الديمقراطية في تونس. في هذا البلد، عبر الناس عن إرادتهم الجماعية للتغيير، ولكن عندما بدا أن السيناريو المصري لسنة 2013 يهدد البلاد، تمكنت المعسكرات الإسلامية والعلمانية في البلاد من التوصل إلى حل وسط تاريخي لأن التونسيين “لا يتصورون أن شخصًا أو شيئا آخر سينقذهم – لا ديكتاتورا ولا دولة أجنبية ولا الإسلام نفسه”.
يسلط هذا التدريب الوحيد الذي يسميه فيلدمان “المسؤولية السياسية” الضوء على المأساة العربية الأوسع من زاوية مختلفة، ملمحًا إلى إمكانية الخلاص: “ما حدث هناك يمكن أن يحدث في مكان آخر، ولكن لم يحدث”.
في الحقيقة، أشارك فيلدمان إعجابه بالحل الوسط التونسي، لكني أعتقد أنه متفائل للغاية بشأن معناه. تختلف تونس اختلافًا كبيرًا عن البلدان الأخرى التي حدثت فيها الانتفاضات: لا نفط، ولا أقليات عرقية أو دينية رئيسية، وجيش غير مسيس، وتاريخ أقل وحشية. للأسف، إن المآسي المستمرة في الدول العربية الأخرى تشبه إلى حد كبير النوع اليوناني الكلاسيكي. من المرجح أن يستمروا في عيش حالة من الشفقة والخوف الملهمين لفترة طويلة قادمة.
المصدر: نيويورك تايمز