بعد مرور خمسة أشهر على بداية تفشي فيروس كورونا المستجد، وبعد نحو شهرين على ظهور أول حالة إصابة بالفيروس في تركيا، يمكننا اليوم الحديث عن رحلة تركيا في محاولتها لمعالجة هذا الفيروس والسيطرة على الموقف منذ البداية حتى هذه اللحظة.
تركيا بدأت مبكرًا
في حين لم تأخذ الكثير من دول العالم أمر تفشي فيروس كورونا المستجد على محمل الجد، دقت تركيا ناقوس الخطر مبكرًا داخل حدودها، وبدأت بالفعل باتخاذ الإجراءات الصارمة، ففي 6 من يناير/ كانون الثاني الماضي، أطلقت الحكومة مركز عمليات ولجنة علمية لدراسة الفيروس وأعدت دليلًا عنه، ثم بدأت في إجراء الفحوصات على القادمين من الدول المنتشر بها الوباء.
وفي بداية شهر فبراير/ شباط أوقفت الرحلات من وإلى الصين، وأنشأت مستشفيات ميدانية على الحدود مع دول الجوار، ثم أغلقت الحدود مع إيران، وفي نهاية الشهر أوقفت الرحلات مع إيطاليا والعديد من الدول التي تفشى بها الفيروس، ووضعت وزارة الصحة التركية العائدين من هذه البلدان في الحجر الصحي لمدة 14 يومًا.
خطوات جدية منذ أول حالة
بينما ظهرت الإصابة الأولى بشكل رسمي في تركيا يوم 10 من مارس لمواطن تركي عائد من أوروبا، بدأت الحكومة باتخاذ إجراءات عملية وأصدرت قرارات مباشرة بتوقيف رحلات السفر الداخلي والخارجي وتعليق الدراسة وإغلاق المقاهي وأماكن التجمعات ووقف الفعاليات والمباريات ووقف الصلاة في المساجد.
إجراءات خاصة بوسائل المواصلات
كثفت بلدية إسطنبول الكبرى من عمليات تعقيم وسائل النقل العام في المدينة، وعلى هذا النحو البلديات الأخرى، باستخدام معقمات مصادق عليها من دائرة الصحة لدى البلدية، وبعد مدة تم تحديد أوقات عمل المترو وإيقاف كل رحلات سفن نقل البضائع والركاب، بين إسطنبول والولايات الأخرى.
كما قررت السلطات التركية، تشكيل نقاط طبية عند مداخل ومخارج المدن التركية، يتم فيها إخضاع المواطنين المسافرين كافة لإجراء فحص كورونا، وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار أن المسافر بالحافلة أو بسيارته الخاصة، عليه أخذ الإذن من والي مدينته، ويتم الموافقة على سفره وفق شروط معينة.
حظر التجوال نهاية الأسبوع
وفي شهر أبريل/نيسان، طبقت الحكومة التركية قررًا بحظر التجوال على 31 ولاية، أي ثلاثة أرباع سكان البلاد، في نهاية الأسبوع، إما لمدة يومين أو أربعة أيام، أما خلال باقي الأسبوع، فقد شمل قرار الحكومة بأن يبقى في البيوت فقط من هم دون العشرين أو فوق الخامسة والستين من العمر.
أعلنت الدولة حزمة اقتصادية بقيمة 15 مليار دولار لحماية تركيا من آثار الفيروس
أما باقي المواطنين فيُسمح لهم بالخروج ولكن بشكل محدود وبشرط اتخاذهم معايير السلامة المطلوبة كافة، كارتداء الكمامة والقفازات الطبية وحفظ المسافة الاجتماعية بين المواطنين، مع الأخذ بعين الاعتبارات أن البلاد تخضع لإغلاق جزئي لأغلب مؤسساتها.
خدمات منزلية
عملت الحكومة التركية على تخفيف عبء الوباء عن أولئك الذين يتحتم عليهم البقاء داخل بيوتهم، وذلك من خلال إرسال المتطوعين وأفراد الشرطة إليهم، فيطرقون أبوابهم للتأكد من أنهم يحصلون على ما يحتاجون إليه من خدمات.
كما وفرت الحكومة مراكز اتصال مفتوحة في كل حي يتمكن من خلاله كبار السن من الاتصال وطلب أي شيء يحتاجونه من توصيل المشتريات من محال البقالة والصيدليات، وحتى توصيل مخصصات تقاعدهم الشهرية النقدية، فضلًا عن توزيع طرود مساعدة على المحتاجين.
توزيع الكمامات المجانية
في بداية شهر أبريل/نيسان، أعلن رئيس دائرة الاتصال بالرئاسة التركية، فخر الدين ألطون، اعتزام وزارة الصحة، إرسال كمامات طبية إلى أفراد الشعب، ممن تتراوح أعمارهم بين 20 – 65 عامًا، من خلال تعبئة استمارة على موقع تابع للحكومة، بهدف توزيع 5 كمامات أسبوعيًا تصل إلى مكان إقامة المواطنين الأتراك وغيرهم بشكل مجاني، حتى تولت الصيدليات مهمة تلقي الكمامات لتسهيل العملية، كما شمل القرار حظر بيع الكمامات تمامًا.
الحزمة الاقتصادية
أعلنت الدولة حزمة اقتصادية بقيمة 15 مليار دولار لحماية تركيا من آثار الفيروس في إطار برنامج الدرع الاقتصادي، وشمل ذلك تأجيل الضرائب والقروض وتقديم حوافز ودعم القطاعات المتضررة، وضاعفت الدولة صندوق الائتمان الحكومي لحماية البنوك، وأُعلن عن صندوق لدعم العائلات الفقيرة وقُدمت دفعة للمتقاعدين كمكرمة خلال شهر رمضان لتدفع في بداية شهر أبريل.
كما حاولت الدولة تقليل الضرر على المصدّرين من خلال تغيير طرق الشاحنات، وجعل النقل لبعض البلدان من دون تماسٍّ بشري، كذلك فإن امتناع الدولة عن فرض الإغلاق الشامل يخفف الآثار السلبية على الاقتصاد.
النظام الصحي التركي في مواجهة الفيروس
من الممكن معرفة ما إذا كان النظام الصحي يُبلي بلاءً حسنًا في مواجهة فيروس كورونا المستجد من خلال عدة نقاط، وهي:
مستشفيات المدن المجهزة
أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل عدة سنوات، مشروع “مستشفيات المدن” القاضي ببناء مستشفيات عملاقة في كبرى المحافظات التركية وتطوير النظام الصحي في البلاد، تضم أغلبها أكثر من 1000 سرير وغرف عناية مركزة وعمليات ومرافق مختلفة.
هذه المستشفيات الضخمة، بجانب المستشفيات الأخرى الخاصة والحكومية، وفرت اليوم قرابة 31 ألف سرير و20 ألف غرفة و7800 عيادة طبية و1085 وحدة عمليات و5189 وحدة عناية مركزة، تم تكريسهم اليوم للعمل في مكافحة فيروس كورونا واستيعاب أكبر عدد من الحالات، ليزيد نصيب الفرد من عدد غرف العناية المركزة أكثر من الدول الأخرى.
ومما تجدر الإشارة إليه، هو تصريح الحكومة الدائم بأن البلاد تمتلك نظامًا صحيًا قويًا يتفوق على العديد من البلدان، فضلًا عن أن مستشفيات تركيا مجتمعة تضم نحو 100 ألف غرفة جاهزة لتتحول إلى غرف عزل أو عناية مركزة إن قضت الحاجة.
مجانية العلاج
قررت الحكومة التركية في منتصف شهر أبريل الماضي، السماح للمواطنين الأتراك بتلقي علاج فيروس كورونا في المستشفيات مجانًا، حتى لو لم يكن لديهم ضمان اجتماعي أو تأمين صحي، ويتيح القانون للمواطنين الأتراك الوصول المجاني إلى كل الاختبارات والأدوية اللازمة لمعالجة الوباء المستجد.
التعامل مع المرضى
بداية، يتم التعامل مع المرضى الأتراك والأجانب بداخل المستشفيات على حد سواء، وتعمل المستشفيات الحكومية والخاصة بالالتزام بأدق تفاصيل تدابير الوقاية، حيث يجري قياس درجة حرارة القادمين إلى المستشفى عند الباب الخارجي والاستفسار منهم عن وجود أعراض متعلقة بكورونا وتفاصيل أخرى، إضافة لتوفير المطهرات ومستلزمات الوقاية مثل الكمامات والقفازات للمرضى وأقاربهم، مع مراعاة المحافظة على المسافة الاجتماعية.
ويجري توجيه المرضى الذين يعانون من أعراض كورونا مثل الحمى العالية والسعال وضيق التنفس، إلى العيادات المخصصة التي تشمل الطب الباطني وأمراض الصدر وأمراض الأذن والأنف والحنجرة، وذلك بعد الفحص الأولي في قسم الطوارئ.
يستمر علاج المرضى الذين أكدت التحاليل إصابتهم بالفيروس المستجد، في المستشفيات أو المنزل، بناءً على شدة الأعراض والحالة الصحية، ومن يبقى في المستشفى توفر له الاحتياجات اللازمة في غرف خاصة، أولها أجهزة التنفس في حال تطلب الأمر، مع أخذ الطاقم الطبي أعلى التدابير وتطبيق الطرق العلاجية.
أما الذين لا يشتبه في إصابتهم بكورونا، فيتم تقديم الخدمات الصحية لهم، كما يتم التأكد من أن الأطباء والممرضين وموظفي الرعاية الصحية المساعدين الذين يعملون في العيادة الخارجية لا يختلطون مع العيادات المخصصة لمكافحة مرضى الجائحة.
كما تواصل بقية الأقسام في المستشفيات مثل جراحة الأعصاب والجراحة العامة وجراحة العظام والطب الباطني والأعصاب والجلد وأمراض النساء تقديم خدماتها الاعتيادية للمرضى، مع الالتزام بأخذ جميع التدابير الوقائية، وتقديم الخدمات لجميع المرضى.
استخدام العلاجات
من المعروف أنه لا يوجد لقاح لفيروس كورونا المستجد حتى هذه اللحظة، لكن تركيا اعتمدت في خطتها العلاجية على العديد من الأدوية غير المخصصة لعلاج فيروس كورونا، فتسمح باستخدامها كجزء من العلاج، حيث يعمل الأطباء على تغيير العلاج لبعض الحالات السريرية الحرجة وتطبيق طرق علاج مختلفة.
وقد جربت وزارة الصحة التركية منذ شهر دواء جلبته من الصين وأثبت فعاليته هناك، كما استخدموا العقار الياباني المضاد للفيروسات بافيبيرافير، وفي نهاية الشهر الماضي، بدأت الوزارة باختبار العلاج بالبلازما، بعدما نجح الدواء في شفاء أول مريض خضع للعلاج التكميلي.
وفي الوقت ذاته، يعمل العلماء الأتراك على إنتاج وتطوير علاجات للكورونا، فمنذ أيام أنتجت شركة الدواء التركية “كوتشاك فارما” دواءً، مادته الفعالة “هيدروكسي كلوروكين سلفات”، تُستخدم في علاج الإصابة بفيروس كورونا، وهذه المادة موجودة في دواء أجنبي لعلاج الملاريا، وقد طوروه بهدف سد حاجة البلاد من هذا الدواء، والمساهمة في دعم اقتصاده.
كما طورت جامعة العلوم الصحية التركية، بالتعاون مع شركة “VSY” لصناعة الأدوية والتكنولوجيا الحيوية في الأيام الأخيرة، دواءً جديدًا لفيروس كورونا أطلق عليه اسم TR-C 19، على أن يتم ترخيصه رسميًا في أقرب وقت، وأوضحت الجامعة أن العلاج سيكون جاهزًا لإعطائه للمرضى المتطوعين على أن يتم ترخيصه في أقرب وقت.
تعقب مخالطة المرضى
اتخذت تركيا مبكرًا، أسلوبًا مختلفًا في مكافحة فيروس كورونا تتركز على تعقب المخالطة بدلاً من الاختبار العام أو الاختبار بعد الأعراض السريرية، حيث أنشأت فرقًا اسمها “تتبع أثر كورونا”، يعمل أفرادها كمحققين من أجل العثور على مخالطين تواصل معهم المرضى والتأكد من سلامتهم وعدم انتقال العدوى إليهم.
يعمل فريق التتبع على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع، على منع انتشار الوباء من خلال تحديد الأشخاص الذين أصيبوا بالعدوى والأشخاص الذين كانوا على اتصال مع مصابين، وإجراء الفحوصات الطبية عليهم للتأكد من عدم إصابتهم بالعدوى.
انتهاء المرحلة الأولى
في آخر تصريح له، قال وزير الصحة التركي فخر الدين قوجة، إن بلاده “سيطرت على وباء كورنا لكن الحقائق المتعلقة بالفيروس لم تتغير بعد، حيث ما زالت المنازل أكثر الأماكن أمانًا، ولكن تركيا أكملت المرحلة الأولى من مكافحتها ضد كورونا”، وأوضح أن المرحلة الثانية لا تعني عودة الحياة إلى طبيعتها كما كانت قبل الفيروس، إنما تخفيف التدابير الوقائية، والتمتع بحرية جزئية في مواجهة الفيروس.
وأشار إلى أن “خطر فيروس كورونا لم يختف تمامًا”، مشددًا أن “إزالة التهديد تتحقق مع عزل وعلاج آخر ناقل للفيروس”، وأوضح أن بلاده لن تخفض عدد الفحوصات في المرحلة الجديدة من مكافحة كورونا، بل سيزيد عددها وسيكثف فريق التتبع عمله.
ختامًا، أثبت نظام الصحة في تركيا نجاحه في إدارة أزمة فيروس كورونا حتى هذه اللحظة، وما يدلل على ذلك أن عدد الإصابات اليومية، بعد أن كان يزيد عددها على 2000 حالة قبل نحو أسبوع، انخفض عددها لتُسجل 1114 حالة فقط يوم الإثنين 11 مايو.
وعلى الرغم من أن تركيا تأتي ضمن قائمة أعلى عشر دول في العالم من حيث عدد حالات الإصابة المؤكدة بفيروس كورونا، وحصيلة الإصابات فيها وصلت أكثر من 4000 حالة في اليوم الواحد في ذروة تفشي المرض، فإن معدل الوفيات هنا أقل بكثير مما هو عليه في أي مكان آخر.