لم يكن منظر الناس مستغرَبًا وهي تتوافد إلى المحلات لشراء كميات كبيرة من المواد التموينية، خوفًا من شبح كورونا ومن عدم المقدرة على الخروج من المنازل في مدينة ضخمة كإسطنبول، بل كان منظرًا مألوفًا بالنسبة لأمثالي، ممن عانوا ويلات الحصار قرابة الست سنوات، وكان الجلوس في البيت ومنع التجول في الخارج أمرًا أقل من عادي. أتدرون لماذا؟!
لأننا اعتدنا حظر التجول في بلادنا “سوريا” لست سنوات، ولكن ليس كحظر التجول الصحي المفروض اليوم في أكثر بلاد العالم لا، إنه من نوع آخر أشد رهبة وأعظم فتكًا بالبشر.
ومن باب المقارنة بين ما عشناه هناك وما يجري في العالم اليوم، سأتكلم عن الـ50 يومًا الأخيرة في الغوطة الشرقية فقط، حتى لا أطيل فأُمل.
بدأً من يوم 18 من فبراير/شباط 2018 أرادت الحكومة الروسية بقيادة بوتين وبواسطة ميليشيات بشار الأسد والمليشيا الإيرانية الرديفة أن تمنع ما يزيد على الـ300000 إنسان من الحركة والمشي في الطرقات حتى لشراء الخبز والطعام – هذا إن وجد أصلًا – وذلك لتسهيل السيطرة على الغوطة الشرقية، فما كان منهم إلا أن جعلوا الطائرات تحلق فوقنا 24 ساعة دون توقف، وهي تتناوب على ضربنا وتستهدف كل كائن حي يتحرك، لا فرق بين صغير أو كبير أو امرأة أو رجل أو إنسان أو حيوان، حتى فرغت الشوارع والتزم الناس بيوتهم.
ثم كانت المرحلة الثانية، فبدأت الطائرات تستهدف البيوت والأبنية فتدمرها فوق ساكنيها وتظل جثثهم تحت الركام لعدم المقدرة على الوصول إليهم، لأن طيران الاستطلاع سيحدد كل من جاء للإنقاذ على أنه هدف ويُتبعه بقذيفة أو صاروخ، فاضطر الأهالي للنزول إلى الأقبية غير المجهزة للعيش البشري، ولكنه كان خيارًا أفضل من انتظار الموت في البيوت، وحفروا الأنفاق بين الأقبية ووصلوا الأزقة ببعضها لسهولة التحرك.
كان وصول الطعام إلى هذه الأقبية من الصعوبة بمكان، والشباب المتبرعون لأداء هذه المهمة كانوا شبابًا فدائيين عرّضوا أنفسهم للهلاك مرات عديدة
عشرات من الأيام والناس يقبعون في أقبية أشبه بالكهوف لا تصل الشمس إليها، ومن فضول القول أن أذكر أنه لا كهرباء فضلًا عن الكماليات.
تدخل إلى القبو فتجد عشرات العائلات، قد فَصلت كلُّ عائلة بينها وبين الأخرى بغطاء قماشي أو شادر بلاستيكي، الظلمة تعمُّ المكان، وبكاء الأطفال يملأ الأجواء مختلطًا بأنين الجرحى الذين لا يجدون دواءً يسكن ألمهم فضلًا عن الطبيب.
ربما لا تستطيع أن تمكث طويلًا في القبو لفساد الهواء فيه والروائح الكريهة المنبعثة منه بسبب ازدحام المكان واضطرار الناس لقضاء حاجتهم في أطراف القبو، وإلا سيضطر أحدهم للخروج من القبو لقضاء حاجته حاملًا دلو ماء معرضًا حياته لخطر مؤكد، ولك أن تتخيل حالَ الأطفال وأمهاتهم مع انعدام الماء ومع هذا الجو غير الصحي ونحن في شهر فبراير في شتاء الشام وبردها.
كان وصول الطعام إلى هذه الأقبية من الصعوبة بمكان، والشباب المتبرعون لأداء هذه المهمة كانوا شبابًا فدائيين عرّضوا أنفسهم للهلاك مرات عديدة في سبيل إيصال شيء من الطعام للعائلات المختبئة في الأقبية والأنفاق.
وإذا وصل الطعام إلى الناس بسلام، فهو من الأطعمة التي تمنع الإنسان من الموت جوعًا ولكنها لا تشبعه، كالخس وبعض الخضراوات المتوافرة في ذلك الوقت وشيء من بقايا خبز فسد أغلبه.
طبعًا كان هذا كلُّه ترفًا مع ما حصل بعد ذلك، فطائرات المجرم الروسي وذنبه الأسد بدأت بالتركيز على قصف الأقبية، فإذ بالأبنية تنزل ركامًا فوق القبو فتُصيِّره قبرًا لمن مات من انفجار الصاروخ، وتكون موتًا بطيئًا لمن بقي على قيد الحياة ليموت خنقًا بعد ساعات، وإن استطعنا الوصول إلى بعض الجثث فإننا سنضطر لدفنها في طرف قبو أو في حوضِ مزروعات صغير، لعدم المقدرة على الوصول إلى المقبرة.
أحرقت النار كل شيء في ذلك القبو، كانت أصوات الأطفال والنساء تعلو كل شيء
ثم بدأت الطائرات باستخدام الصواريخ المحملة بالغازات السامة كغاز الكلور الذي ينتشر في الأقبية ليقتل أكبر عدد ممكن من الناس، ثم ضربت صواريخ الفوسفور الأبيض والنابالم الحارق الذي يجعل النار تسيل إلى الأقبية كما تسيل المياه وكلما حاولتَ إطفاءه زاد اشتعالًا.
ففي ليلة 22 من مارس/آذار 2018 ألقت طائرات الغدر الروسية عددًا من صواريخ النابالم الحارق على قبو ممتلئ بالعائلات في مدينة عربين، فاشتعل القبو مباشرة بالنار التي لا تنطفئ، وتدمَّرَ مخرجه بفعل الضغط الحاصل من الصواريخ، أحرقت النار كل شيء في ذلك القبو، كانت أصوات الأطفال والنساء تعلو كل شيء، وبكاء الناس العاجزين عن تقديم المساعدة في الخارج هو سيد الموقف.
طلع الصباح وانطفأت النار بعد أن أذابت 44 جثة جلها من الأطفال والنساء من عائلة واحدة، نعم إنها مجزرة آل شحود الكرام رحمهم الله تعالى.
مع هذا التصعيد والإجرام لجأ الناس إلى الجلوس في الأنفاق عند تركيز الطيران على الأقبية، وبقي الحال هكذا، نساءٌ وأطفال وشيوخ ينامون ويستيقظون في الأنفاق، التراب يحيط بهم من كل الجهات والتنفس فيه صعب مع ازدحام الناس فيها، إلى أن أعلن المجرم بوتين انتصاره عليهم، ثم طردَهم من بلادهم، مخيرًا لهم بين التهجير القسري إلى المجهول والرضا بذل العبودية تحت حكم الديكتاتور الظالم بشار الأسد، فتهجّر أكثر من 100000 إنسان خارج وطنه.
نعم، عند جلوسك في بيتك الآن وأنت تنعم بالأمان والاطمئنان، وتأكل وتشرب وتنام، لا تكثر التذمر، وتذكّر أن هناك أشخاصًا عانوا أكثر من هذا بكثير فصبروا، لا بسبب فيروس كورونا، بل بفعل بوتين وبشار الأسد وقاسم سليماني وسط صمت العالم “المتحضر”، وأن هناك آلافًا آخرين حُجزوا في السجون ظلمًا منذ سنوات، دون أدنى مقوّم من مقومات الحياة.
وتذكر قوله عليه الصلاة والسلام “مَن أصبحَ مِنكُم آمِنًا في سِرْبِه، مُعافًى في جسَدِهِ، عندَهُ قُوتُ يَومِه، فَكأنَّما حِيزَتْ له الدُّنْيا بحذافيرها”، رواه الترمذي.