نحن لا نعرف الكثير عن الكاتب الساخر الراحل محمد عفيفي، فقط معلوماتٍ قليلة متناثرة عنه هنا وهناك، حتى أنّ اسمه ليس مألوفًا من ضمن أسماء كتاب الفنّ الساخر الكبار أمثال أحمد رجب ومحمود السعدني.
لم يُكن وجود محمد عفيفي في عصره ساطعًا، بمثل سطوعه بعد وفاته مثلًا، وتحديدًا بعد صدور كتاب ترانيم في ظل تمارا نسخة دار الشروق عام 1984، وهو كتاب محمد عفيفي الأخير، والذي أصرّ على ألّا يُنشر قبل مرور سنة على الأقل من وفاته، ويُقال أنّ صديقه المُقّرب الأديب الكبير نجيب محفوظ، هو من اختار هذا الاسم الرقيق للكتاب.
عاد اسم محمد عفيفي للتداول من جديد بين الشباب في السنوات الماضية، والذين هم على الأغلب تلاميذ الكاتب الكبير الراحل أحمد خالد توفيق، الذي صرّح في أكثر من موضع أنّ أسلوبه الساخر الذي جذب ملايين الشباب إليه، هو في الأصل ناتج عن تأثّره الشديد بأسلوب محمد عفيفي، ومن هنا بدأ الشباب في البحث عن صاحب هذا الاسم، الذي لم ينل حقّه من الشهرة والنجاح في عصره.
غلاف جذّاب، رسومات مُعبّرة، ومُقدّمة مثالية
لا يستطيع أحد أن يُنكر جاذبية طبعة دار الشروق لكتاب ترانيم في ظل تمارا، والتي اختارت رسّام الكاريكاتير والفنّان التشكيلي الكبير حلمي التوني، لرسم صورة الغلاف، هذا بخلاف حوالي 24 صورة أخرى، بداخل الكتاب ذاته، وكلها لوحات مُبهجة، وبسيطة، ومعبرة بشدة عن محتوى الكتاب.
يقول حلمي التوني في مُقدّمة الكتاب:
” إنّ أجمل ما في هذا الكتاب، هو نُكران الذات الفنّي- إذا جاز التعبير- فعفيفي يكتب عن العالم من حوله، وهو في وسطه ومحوره، ولكنّك لا تشعر لحظة بوجوده هو، أي الكاتب، إنّه يحول نفسه إلى إطار أو نافذة سحرية متحركة، يُوجّهها نحو تفاصيل وعناصر الحياة العادية، فترى من خلالها العادي، وقد تحول إلى شيء غير عادي، تحول إلى عمل فنّي، كل الأشياء إذا رأيتها من خلال نافذة محمد عفيفي السحرية، كل الأشياء، تكتسي شفافية غريبة، تبوح لك وتظهر بواطنها، وأسرارها، أسرارها الجميلة.”
كلمات حلمي التوني هذه، وهو فنّان له قيمة كبيرة، تؤكد لك عزيزي القاريء بأنّ هذا السحر الموجود بين دفتيّ الكتاب، لابد وأن يُصيبك بعض منه، حينما تبدأ في قراءة ترانيم في ظل تمارا.
تأثير محمد عفيفي
من قرأ للكاتب الراحل الكبير د. أحمد خالد توفيق، يعلم جيدًا أنّ له نزعة ساخرًة مميزة في كتاباته، هذه النزعة هي في الأصل ناتجة عن وجود مستوى عالٍ من الذكاء، ومشاعر شديدة الرهافة، وقدرة ممتازة على قراءة البشر، وتحليل مُختلف المواقف، كل ذلك بالإضافة لخفة ظل مصرية أصيلة.
يكفي أن تُمسك الكتاب بيديك لتتأمل رسومات حلمي التوني الجميلة، ولتتعجب أمام عناوين الفصول الفريدة من نوعها
كل هذا الوصف، ينطبق بالضبط على محمد عفيفي، لهذا لم يكن غريبًا أن يعتبره أحمد خالد توفيق أستاذه في الكتابة الساخرة.
هكذا كان محمد عفيفي، لمّاحًا، واسع الخيال، فريد الوصف والتشبيه، وبرغم أنّ كتاباته على الأغلب تشعّ سخرية، إلّا أنّ هناك لمساتٌ من الشجن يُمكن للقاريء أن يستشعرها بسهولة.
حينما تقرأ لمحمد عفيفي، ستبتسم على الأغلب، وربما تضحك، ولكنّه بدون شكٍ سيجعلك تُفكّر. هذا هو تأثير محمد عفيفي الذي قلّما لا يُصيب قارئه.
أمّا عن ترانيم في ظل تمارا على الأخص، فهو كتاب مُختلف بحق، مختلف عمّا كتبه عفيفي من قبل، ومُختلف حتى إنّ قارنّاهُ بما يُشابهه من الكُتب، فهو يُعتبر حالة فريدة من التأمل، تُجبر القاريء على أن يقف طويلًا أمام السطور، كي يخوض نفس حالة التأمل هذه، ممّا يجعل تأثيره الساحر، يدوم طويلًا في النّفس.
عناوين الفصول المُدهشة
يكفي أن تُمسك الكتاب بيديك لتتأمل رسومات حلمي التوني الجميلة، ولتتعجب أمام عناوين الفصول الفريدة من نوعها، كي يجذبك الكتاب لقرائته، حتى وإن كنت لا تعلم أي شيءٍ عن محتواه.
تأمّل معي بعض من هذه العناوين، أمثال: ليمونة على دماغ القطة السوداء، الشاي بنكهة نور الضحى، طائر مهاجر في مطابخ لندن، ساقية صدئة اسمها شحاتة، عروس وضيعة، من أين جاءت الشجرة الغريبة التي عندها كلام؟، هل يتنافى الحزن مع الزهور؟، السقوط العظيم.
وهكذا تجد هذه العناوين اللافتة للنظر، وقد أغرتك بقراءة كل فصلٍ من الكتاب، لتفهم سرّها، وحكايتها الغريبة.
يوميات رجل عجوز ذو قلب كبير
“مُلاحظات في حديقة مُشمسة على نماذج من الحيوان والطير والشجر، وبعض بني البشر، لرجلٍ عجوز يجلس على الكرسي القشّ الأصفر العتيق.”
كتب محمد عفيفي هذه الكلمات المُختصرة والبليغة، كمُقدمة للكتاب. ولا تخدعك هذه الكلمات التي تبدو وقورة ومملة بعض الشيء، فإنّ هذا الرجل الذي يسرد علينا يومياته، بصحبة زوجته العجوز، وقطته التي تخطت العشرون عامًا، قد يكون من أمتع الشخصيات التي يُمكنك الاستماع إليها، والتي ستجعلك بالتبعية تصغى باهتمام لما يحكيه.
هذا الرجل العجوز ذو القلب الكبير، الذي يخشى على طابور النمل من الدهس، ويحزن على زهور الياسمين حينما تنعتها زوجته بالـ”هباب”، وينفطر قلبه على كلبٍ وُصم بالنّجاسة مدى العمر، بدون أي ذنبٍ اقترفه.
الطبيعة هي البطلة، والبشر ضيوف شرف
طوال الوقت نحن نتواجد داخل عقل الرجل العجوز، ولا يوجد أحد من البشر في الكتاب، باستثناء زوجته أمينة، وجمعة حارس المنزل الذي يظهر في بعض الأحيان.
أما أبطال الكتاب فأوّلهم تمارا، التي تم ذكرها في العنوان، وهي شجرة التمر حنة، زهيرة أو بنزهيرة وهي شجرة الليمون، الكرسي القش الأصفر العتيق، القطة موني، كلب جمعة المُسمى بفيدو، الفراشة البيضاء فرّوشة، الضفدع ضفدوع، عدد من العصافير ، هُدهد شريّر، حشرة فرس النّبي، والعديد من مخلوقات الله الأخرى.
تفرّد الوصف، ودقة التفاصيل
يصف محمد عفيفي في الكتاب، كل الأشياء من حوله، بدقّة بالغة، فتشعر وكأنّك تراها حقًا، تتجسد أمامك الصورة كاملة بتفاصيلها. فمثلًا حينما يصف لون خشب الترابيزة المستديرة، لا يكتفي بقول أنّ لونه أبيض، بل يصفه قائلًا:
“أبيض غامق، إن جاز التعبير.”
كما يصف سقوط ضوء الشمس في الصباح الباكر على كوب الشاي، متخلّلًا شجرة التمر حنّة، وكأنّه قرش فضي، فيقول:
” وقرش فضي سقط على سطح الشاي، مُتلاعبًا كأنّه عين تغمز، سيكون لطيفًا أن أذوق شاي بنكهة من نور الضحى.”
وحينما يتحدث عن القطة موني، يصف ردود أفعالها ببراعة شخص خبير بالقطط، يعرف جيدًا ما هو مدلول نظراتها، وما تعنيه ارتعاشة شفتيها مع شاربها، وتحركاتها البلهاء تمامًا في أحوالٍ أخرى.
هذا المقال دعوة صريحة لقراءة كتاب ترانيم في ظل تمارا، والذي ستشعر بعد قرائته، وكأنّ جزءًا من انسانيتك
وحينما يصف زوجته، تنغمس كلماته في كثيرٍ من العطف والرقة قائلًا:
“آخذ في الامتلاء جسم أمينة، حتى لتوشك أن تُصبح سيدة بدينة، غزال زمان الرشيق الأسمر، الذي في أعماق عيونه العسلية ترقص لمسة لذيذة من خضرة مُتهربة، أمونة الحلوة، أمونتي.”
وفي وصفٍ ذكيّ لطريقة مشيتها التي تغيرت مع تقدمها في العُمر يقول:
“مُتثاقلة سارت أمينة، مُتمايلة لكي توزع على ساقيها، أوجاع الروماتيزم بالعدل.”
حتى أنّه لاحظ شيئًا طريفًا بخصوص صوت نباح كلب جمعة، فقال عنه:
“ونبح الكلب احتجاجًا على منعه من الدخول، وكان في صوته بحّة مثل صوت جمعة، فهل كان غريبًا منّي أن أُسميه صوت سيده؟”
وحينما سمع صوت زوجة جمعة وهي تتشاجر معه، شبههُ بتشبيهٍ غريبٍ وساخر، قائلًا:
“تنهال الكلمات من فمها أشبه بأكداس الزلط، حين تنسكب على الأرض دفعة واحدة، من قلّاب على ظهر لوري.”
خيال خصب كخيال طفل
يسير الخيال الواسع جنبًا إلى جنب مع تفرّد التفاصيل، كأكثر ما يُميز أسلوب محمد عفيفي في هذا الكتاب على الأخص. كما يظهر مثلًا في العلاقة الفريدة، التي تجمع ما بين الرجل العجوز وأشجاره، حيث أنّه أعطى لكل واحدة منهم اسمًا، وكان يُحادثهم يوميًا، ويهتمّ لأمرهم بصدق، ويخجل منهم أحيانًا، ويعتب عليهم في أحيانٍ أخرى.
يتوسع خيال محمد عفيفي أكثر، في تصوراته للأحاديث التي تدور بينه وبين الأشياء أو الحيوانات
“فأرجو إذا سقطت، أن لا تكون أمينة موجودة، ولا جمعة، ولا حتى موني، أمّا الأشجار فلا بأس بالسقوط أمامها لأنها لا تضحك، أو على الأقل تعرف كيف تُداري ضحكتها.”
ويتوسع خيال محمد عفيفي أكثر، في تصوراته للأحاديث التي تدور بينه وبين الأشياء أو الحيوانات، أو بين الحيوانات وبعضها، مثل حواره مع قطته موني، المُتحسّرة على حالها في هذا الزمن، الذي يضطرها للتمسّح في أقدام البشر من أجل الطعام، بينما كان الفراعنة يُقدسونها قديمًا، ويضعونها في مكانة الإله ذاته.
وذهب عفيفي بخياله بعيدًا أيضًا، وبشكل ساخر، حينما اعتقد أنّ زقزقة العصافير اليومية في الصباح، والتي نظنّها نحن أنّها نوع من أنواع الغناء، وتبادل للحب بين الأزواج من العصافير، في الحقيقية ما هي إلا شجار، وتبادُل لأقذر أنواع الشتائم فيما بين العصافير وبعضهم.
حتى أنّه ذات يومٍ، حينما وجد شجرة غريبة في حديقته، تصور ببساطة وبشكل تلقائي، أنّها شجرة من الفضاء الخارجي، وصلت إلى الأرض عن طريق نيزك صغير، أتى بها إلى حديقته مباشرة.
لمساتٌ من الشجن
برغم أجواء السَكينة التي تغلب على الكتاب، إلّا أنّه لم يخلو من لمساتٍ من الشجن، وهو كما ذكرنا من قبل، أسلوب محمد عفيفي المميز، الذي يجعل سخريته أقرب إلى السواد والمرارة. ولكن ف ترانيم في ظل تمارا، أتى أكثر الشجن من الطبيعة ذاتها، التي كما تمنح بسخاءٍ، تأخذ بعدلٍ.
يطلّ الحزن في الكتاب دائمًا حينما يموت كائن حي، سواء كان من الحيوانات كالكلب والقطة، والبطة التي كان موتها مأساويًا، حيث ذُبحت بإهمال، فلم تمت على الفور، أو من الأشجار كشجرة الكوزورينا التم تم قطعها رُغمًا عن العجوز في مشهد حزين، ومُضحك في نفس الوقت.
ظهر الحزن أيضًا، مع البُكاء، والأنين المستمر لطفل جمعة الرضيع، والذي صار مصيره كمصير ابني جمعة اللذين سبقاه.
وصف محمد عفيفي الموت قائلًا على لسان العجوز:
“للموت رائحة أقوى من كافة الروائح، حتى رائحة النجاسة.”
وقال عنه أيضًا:
“صورة للسكون الذي هو سكون، والذي لا يُدرك الإنسان معناه إلا وهو ينظر إلى كائنٍ ميت، اللا نبض، واللا حركة، واللا وجود بأي شكلٍ من الأشكال.”
وإن كان الحزن الأكبر الذي تحدث عنه العجوز في أول الكتاب ، ولم يُصرّح به إلا بعدها بفترة، هو مأساة فقده لابنه الأكبر في الحرب، وأثر ذلك على زوجته، وعلى حياتهما، التي اختلف فيها كل شيء، من بعد هذه الحادثة الأليمة.
“ما كان أحد ليلوم أمينة أو يطالبها بأن تظل هي أمينة القديمة بعد ذلك الذي حدث، فلو أنهم قالوا لها إنه قد استشهد، لكان ذلك أرحم بها من تلك الكلمة الجافة المُقتضبة الباردة/ مفقود.”
ترانيم عذبة
كتاب ترانيم في ظل تمارا هو كتاب موجه للقلب مباشرة، خرج من قلب رجل خبر طبيعة الحياة، وواجهها بابتسامة ساخرة.
لغة الكتاب السلسة سواءًا كانت فُصحى راقية كما في تأملات العجوز مع نفسه، أو عامّية عفوية، كما في حواره مع زوجته، أو مع جمعة، أضفت عليه بساطةً وجمالًا.
“من فوق خيوط التريكو تأمّلتها بحب ورثاء وهي لا تراني، ثم ملت نحوها قائلًا: أحبك يا أمونة. فاختلست نحوي نظرة مستغربة، ثم ابتسمت وقالت: حبّتك العافية.”
هذه الترانيم العذبة، فيها من كل شيءٍ شيء، ففيها من الفلسفة شيء، ومن الفكاهة شيء، ومن الشجن شيء، ومن الحكمة أشياء وأشياء.
“حاسب النمل يا جمعة هكذا هممت أن أصرخ فيه لولا أن أمسكت لساني في آخر لحظة، إذ أنّ كلمة كهذه كفيلة أن تثير عند جمعة دهشة بالغة، قد تبلغ حد الشك في قواي العقلية، ولربما صرت أضحوكة في الحتّة لزمنٍ طويل.”
وأخيرًا، فإنّ هذا المقال دعوة صريحة لقراءة كتاب ترانيم في ظل تمارا، والذي ستشعر بعد قرائته، وكأنّ جزءًا من انسانيتك، التي نفقدها جميعًا كلما تقدمنا في العُمر، وقد رُدّت إليك حقًا، وياله من شعورٍ.