تسعى بعض الأطراف الحكومية في تونس إلى تشكيل كتلة برلمانية جديدة لقلب المعادلة تحت قبة مجلس نواب الشعب، الأمر الذي حذرت منه حركة النهضة لما له من تداعيات كبيرة على المشهد السياسي التونسي المتوتر بطبعه، خاصة أن هذه الكتلة ستفتح الباب أمام السياحة الحزبية التي كان أثرها سلبيًا جدًا على عمل سلطات البلاد الثلاثة ما بعد عام 2011.
النهضة تندد
نددت حركة النهضة بما قالت إنها مساعٍ تهدف إلى تغذية الانشقاقات في بعض الكتل النيابية، لتشكيل كتلة جديدة، كما قالت في بيان لها، إن أحاديث تدور في أروقة مجلس نواب الشعب عن تحركات لتشكيل كتلة نيابية جديدة، وتغذية الانشقاقات في بعض الكتل النيابية.
الحزب الأول في تونس اعتبر أنه من شأن تلك المساعي تغذية المزيد من الاحتقان السياسي والتمزق والشتات، بينما البلاد أحوج ما تكون إلى التوافق وجمع الكلمة، لتأكيد النجاح في الحرب على فيروس كورونا والفقر.
ويتشكل مجلس النواب التونسي من كتل حركة “النهضة” (54) ، والكتلة الديمقراطية (39 نائبًا)، و”قلب تونس” (29)، و”ائتلاف الكرامة” (19)، و”الحزب الدستوري الحر” (16)، و”الإصلاح الوطني” (16)، و”تحيا تونس” (14)، و”الكتلة الوطنية” (9) و”كتلة المستقبل” (9)، إضافة إلى 13 نائبًا غير منتمين إلى كتل.
يفهم من تحذيرات النهضة وجود مخاوف من أن تفتح هذه المساعي باب السياحة الحزبية على مصرعيه
يشرف على هذه المساعي رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ والمحيطين به، ويسعى هؤلاء إلى استثمار الانشقاقات في حزب “قلب تونس”، و الاستقالات الأخيرة لعدد من نوابه، حتى يكونوا كتلة جديدة.
ويأمل الفخفاخ في إعادة تجربة رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد، الذي انشق في البداية عن حزب نداء تونس، ثم كون كتلة جديدة في البرلمان وبعدها أسس حزب حاكم يقوده وهو الذي لم يخض أي انتخابات.
وسبق أن قال رئيس الكتلة البرلمانية لقلب تونس أسامة الخليفة، إن حكومة الفخفاخ: “تبحث عن تكوين كتلة برلمانية، وهناك من ينصح فيها بذلك، وجل المستشارين الذين تم تعيينهم بالقصبة هم من حزب التكتل، رغم أنه حزب خاض الانتخابات وفشلوا، ورغم ذلك فهم يسيرون البلاد، فتعيين المستشارين يكون عادة من داخل الائتلاف الحاكم وليس من خارجه، وهذا نوع من التحايل على إرادة الناخبين”.
فتح الباب أمام السياحة الحزبية
يفهم من تحذيرات النهضة وجود مخاوف من أن تفتح هذه المساعي باب السياحة الحزبية على مصرعيه، لا سيما أن “هذه الظاهرة تبقى من أهم الظواهر السلبية التي عرفتها الساحة السياسية التونسية منذ الثورة لليوم”، وفق المحلل السياسي سعيد عطية.
وأوضح عطية في حديث خاص مع “نون بوست”، قائلًا: “ساهمت هذه الظاهرة في العديد من المرات في إرباك خيوط اللعبة وغيرت الواقع التي أفرزته الانتخابات وأفرزت واقعًا جديدًا وكائنات سياسية جديدة دون أن تشارك في الانتخابات أصلًا”.
بدورها تقول الباحثة في علوم الإعلام والاتصال عائشة الغربي، إن “تونس لم تكن بمنأى عن السياحة الحزبية والبرلمانية منذ سنة 2011. تاريخ انتخابات المجلس التأسيسي التي أضفت بشرعيّتها مصداقية أكبر على المشهد السياسي في البلاد، إلا أن هذا المشهد بدأ يتهاوى مع تقلبات داخل الأحزاب والكتل ألقت بضلالها على السلطة التشريعية”.
نعني بـ”السياحة الحزبية”، أي أن يتجول النائب بين الكتل النيابية غير عابئ بإرادة الناخب الذي لم يصوت لشخصه بل لقائمة حزبية تخص حزبًا بعينه، سلوك جديد بدأه حزب نداء تونس سنة 2012، فهذا الحزب لم يشارك في انتخابات 2011 ولم يكن موجودًا أصلًا حينها إلا أنه سرعان ما أقنع عددًا مهم من النواب للانسلاخ عن كتلهم البرلمانية الأصلية والانضمام إليه، فتمكّن من تشكيل كتلة نيابية بالمجلس التأسيسي تضم أحد عشر عضوًا من أحزاب مختلفة التوجّه.
هذه الظاهرة، ساهمت في التفكك داخل البرلمان على حساب إرادة الناخب تحت ذريعة الوضع الاستثنائي ومصلحة البلاد، حتى صارت السياحة تحت قبة البرلمان هواية مغرية، بحسب حديث عائشة الغربي مع “نون بوست”.
وتسعى النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة لوضع حد للساحة الحزبية، حيث صادقت لجنة النظام الداخلي في البرلمان على مقترح تعديل الفصل الـ45 من النظام الداخلي للمجلس تقدمت به كتلة النهضة وساندها فيه قلب تونس وائتلاف الكرامة، بهدف وضع حد للسياحة الحزبية وتنقل النواب بين الكتل البرلمانية.
يخشى العديد من التونسيين أن تؤثر السياحة الحزبية التي سنّها حزب نداء تونس سنة 2012، على الاستقرار في المشهد السياسي في البلاد
جاء في التعديل أنه في حال استقال النائب من الحزب أو القائمة أو الائتلاف الانتخابي الذي ترشح عنه أو الكتلة التي انضم إليها فإنه يفقد بشكل آلي صفته نائبًا للشعب. وأضرّت الاستقالات بقلب تونس الذي خسر 9 نواب، وكتلة “ائتلاف الكرامة” التي خسرت ثلاثة من أعضائها، وحزب “الرحمة” الذي خسر نوابه الثلاثة، و”ائتلاف أمل وعمل” الذي بقي بنائب وحيد بعد أن استقالت نائبته الثانية إيمان بالطيب.
توتر بين الرئاسات الثلاثة
ما يحصل داخل أروقة البرلمان، وتدخل الرئيس سعيد كان سببًا في توتر العلاقات بين القصبة وباردو وقرطاج، كما حصل سنة 2016 عندما استغل يوسف الشاهد أزمة نداء تونس وشكل كتلة جديدة لدعمه في عمله وحتى لا يبقى رهينة من عينه في منصب رئاسة الحكومة.
ترى عائشة الغربي أن نفس السيناريو يتكرر الآن، لكن هذه المرة مع إلياس الفخفاخ الذي فشل هو وحزبه التكتل في الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة. وتؤكد الغربي أن البلاد ستعرف توترًا كبيرًا بين الرئاسات الثلاثة في ظل رفض حركة النهضة لأي انقلاب على أصوات ناخبيها داخل البرلمان.
وكان الرئيس قيس سعيد قد وصف في كلمة ألقاها بمناسبة تدشين مستشفى عسكري في محافظة قبلي، مشروع منع السياحة الحزبية بـ”الخرق الجسيم للدستور”، معبرًا عن أسفه للنقاشات المتصاعدة داخل أروقة البرلمان بشأنه، وهو الذي كان قبل وصوله للرئاسة يندد بهذه الظاهرة ويدعو لوضع حد لها.
تدخل الرئيس بهذه الطريقة وتنكره لوعوده السابقة بالتصدي للسياحة الحزبية واصطفافه إلى جانب رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ في وجه البرلمان، يؤكد حجم الأزمة التي وصلت لها العلاقة بين رؤساء البلاد في القصبة وباردو وقرطاج.
ويخشى العديد من التونسيين أن تؤثر السياحة الحزبية التي سنّها حزب نداء تونس سنة 2012، على الاستقرار في المشهد السياسي في البلاد، ذلك أن عدم استقرار الكتل النيابية، سينعكس سلبًا على المشهد العام، وسيساهم في عدم وصول المسار السياسي إلى بر الأمان.
من شأن فتح الباب أمام السياحة الحزبية، أن يزيد في حجم الاستقالات داخل الكتل، وأن يؤدي إلى إعادة تشكيل الكتل داخل البرلمان بشكل جعل الخريطة الحزبية غير مستقرّة، وهو ما يهدّد عمل البرلمان ونظام الحكم واستقرار الدولة.
فضلًا عن ذلك، يخشى التونسيون أن تقوّض هذه منسوب الثقة بين الناخبين والسياسيين، وتساهم في مزيد ابتعاد التونسيين خاصة الشباب منهم عن العمل السياسي وترسيخ ثقافة المقاطعة لديهم، فهم ينتخبون شخصًا على أساس الحزب الذي ينتمي إليه والبرنامج الذي يقدمه ثم يجدوه في حزب أخر يدافع عن برنامج مخالف.