وجه وزير التعليم السعودي حمد آل الشيخ، مديري التعليم في مناطق المملكة باتخاذ قرار بإقصاء جميع المعلمين المخالفين فكريًا، بدعوى أنه لن يسمح باستغلال المؤسسات التعليمية للترويج لما أسماه الفكر المتطرف أو ما يخالف سياسة وتوجهات السعودية، مشددًا في الوقت ذاته على عزم بلاده معالجة ما وصفها بالمخالفات الفكرية.
وأكد الوزير في كلمة خلال الملتقى الافتراضي لتعزيز الانتماء الوطني ضرورة خلو المكتبات والمراجع العلمية والمقررات من أي إشارة إلى كتب المنتمين لهذه النوعية من الأفكار المخالفة، كذلك إزالة أي مؤلفات أو منشورات تتبع أنصار الجماعات الإرهابية كجماعة الإخوان المسلمين، وفق تعبيره.
لم يكن هذا القرار هو الأول من نوعه، حيث تتبنى المملكة منهجية جديدة في هذا الشأن، بدأتها فبراير/شباط الماضي بإعفاء عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بسبب ما قيل وقتها “استضافته لأشخاص عليهم مخالفات فكرية“، حيث كشفت بعض وسائل الإعلام السعودية أن قرار الإعفاء جاء بناء على توصية رفعها رئيس الجامعة أحمد العامري، الأمر الذي أثار جدلًا وقتها.
وزير التعليم السعودي لم يوضح في قراره الضوابط والشروط المتعلقة باستبعاد المعلمين، وإلى أي مدى ُيعتبر المعلم متهمًا بـ”المخالفة الفكرية”، وهو ما أثار انتقادات واسعة، وسط مخاوف من أن يفتح هذا القرار الباب للدعاوى الكيدية وتصفية الحسابات الشخصية، ويحول منظومة التعليم إلى حرب جواسيس، كل يتربص بالآخر ويراقبه ويحسب عليه أنفاسه وتحركاته.
التطهير بالوشاية
في عام 334 قبل الميلاد وحين اجتاح الإسكندر المقدوني، بلاد العراق وفارس، ووجد فيها مقاومة شرسة حالت دون إحكام سيطرته على تلك البلاد، لجأ إلى خبراء السياسة والاجتماع لديه يستشيرهم في هذا الأمر، فأشار عليه معلمه أرسطو باتباع سياسة “فرق تسد” وهي السياسة التي اتبعها فيما بعد السومريون والمصريون وقدماء اليونانيين بهدف تفكيك قوى خصومهم وتحييدها من خلال بث روح الوشاية والفرقة التي تحول دون اتحاد الجميع على قلب رجل واحد.
ورغم مرور مئات القرون على هذا الفكر الذي طالما رافق الأنظمة الديكتاتورية يبدو أن النظام السعودي اكتشف أخيرًا جدواه في تحقيق أهدافه لكن بعد صبغه بالصبغة العصرية المناسبة لهذا الزمان، التي تراعى أوجه الاختلاف في الشكل والمضمون، وإن كان الهدف في النهاية متطابقًا إلى حد كبير.
من أبرز الأسباب التي أدت إلى فشل نظام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والانتقادات العديدة التي وجهت له، اعتماده نظام الوشاية لإرساء دعائم حكمه، حتى وصلت بعض الأقوال المأثورة في هذا الشأن أن نصف الشعب كان يتجسس على النصف الآخر، ومن كان يريد حظوة النظام وقتها فعليه تقديم قرابين الولاء والطاعة من خلال الوشاية بعشرات المواطنين بدعوى مخالفتهم للنظام، وهو السبب الذي أودى بآلف الأبرياء داخل السجون والمعتقلات.
وزير التعليم السعودي في قراره لم يحدد أي تفاصيل بشأن مفهوم “المخالفة الفكرية” فيما أعطى مديري التعليم في مناطق المملكة الضوء الأخضر لحق الإبعاد لكل من يُرى عليه مظاهر تلك الأفكار التي تتعارض وتوجهات الملك ونجله، دون ذكر لأي معايير يمكن الاستناد إليها، وعليه فلا حق لأي معلم في التظلم أو التقاضي جراء وقوعه تحت مقصلة الإقصاء تلك.
وبحسب هذا القرار يمكن لأي مدير منطقة أن يصدر قرارًا فوريًا ودون إبداء أي أسباب بإقالة أي معلم من منصبة وتحويله للعمل الإداري حتى البت في الأمر الذي ربما يقوده للحبس لاحقًا، وهو ما يفسد مناخ العمل داخل أي مؤسسة ويحولها إلى ثكنة عسكرية، الكلمة فيها للمدير والمقربين منه ومن يخالف التعليمات أو يغرد خارج السرب، فليس أمامه إلا انتظار مصيره المجهول، وهكذا يتحول القرار إلى سكين على رقاب المعلمين لإرهابهم بدلًا من تطهير البلاد من الفكر المنحرف كما يروج الوزير.
الفساد.. حجة الترهيب
منذ تنصيبه وليًا للعهد على حساب عمه محمد بن نايف، اتخذ محمد بن سلمان من الفساد فزاعة لإرهاب معارضيه، حيث لجأ إليها كحجة سهل تمريرها شعبيًا لتبرير حملات الاعتقالات المتتالية التي شنها ضد الجميع، أبناء عائلته ورجال الأعمال والسياسيين والمفكرين وعلماء الدين والنشطاء ورائدات العمل النسوي وغيرهم، حتى وصل الحال إلى إرهاب المعلمين.
في مارس 2020 ذكرت هيئة مكافحة الفساد بالمملكة في تغريدة لها على توتير تعليقًا على حملة الاعتقالات الأخيرة التي شملت عددًا كبيرًا من السعوديين على رأسهم شقيق الملك، الأمير أحمد بن عبد العزيز، أنها باشرت التحقيق في عدد من “القضايا التأديبية والجنائية، منها التحقيق مع 219 موظفًا نتيجة الإخلال بواجبات الوظيفة العامة، كما باشرت إجراءات التحقيق الجنائي وسماع أقوال 674 شخصًا تم إيقاف 298 منهم”.
وخلال الأعوام الثلاث الماضية استخدم ابن سلمان شعار محاربة الفساد كـ”حصان طروادة” لتحقيق أهدافه ومآربه في الجلوس على عرش المملكة، وفق ما ذهب الباحث في العلاقات الدولية عادل المسني، الذي أشار إلى أن استخدام فزاعة الفساد “أسلوب قديم للزج بالمنافسين السياسيين المحتملين في السجن في عدة دول، وفي مقدمتها المملكة”.
المنسي أشار إلى أن المملكة “تحكم بنظام تتركز فيه سلطات الدولة الثلاثة في شخص الملك وولي عهده، لذا فإن أي اتهامات أو محاكمات، وآليات الشفافية والمساءلة والمراجعة، غير موجودة، سواء في هذه الاعتقالات أم في غيرها”، وذلك حسب تصريحاته لـ”الخليج أونلاين“.
البعض يرى في سياسة ابن سلمان مقامرة محفوفة المخاطر لخلافة والده، فالكرسي عنده غاية لا يثنيه عنها أي معايير أخلاقية أو قيمية أو سياسية، فضرب مرتكزات المملكة الثابتة وإسقاط أعمدتها الراسخة على مدار عقود طويلة بخلاف تشويه صورتها الخارجية وزيادة الاحتقان الداخلي وإن كان ملازمًا للصدور دون الحناجر، هي الوسيلة الأقصر والأسرع التي يراها الأمير الشاب لتحقيق حلمه.
السياسات التي اتبعها الملك وولي عهده خلال السنوات الأخيرة، على المستويات كافة، في الداخل والخارج، كانت سببًا كبيرًا في امتعاض الكثير من السعوديين، خاصة الخسائر التي منيت بها المملكة جراء تلك السياسات، الأمر الذي انعكس سلبًا على الحياة المعيشية للمواطن في دولة كانت حتى وقت قريب من أعلى معدلات دخول المواطنين في العالم.
وأمام هذا الاحتقان المتزايد كان لا بد من عصا لترهيب الجميع، بدأت بإسقاط الرموز حيث اعتقال أعمامه وأبناء عمومته، مرورًا بإعادة هيكلة القطاعات السيادية في الدولة كالدفاع والأمن العام، ومعه تصفية الهالة الدينية للعلماء عبر الاعتقالات والتنكيل والملاحقة، وصولًا إلى الوشاية وإخضاع بقية تيارات المجتمع لموجات من التخويف المستمر.
#هيئة_الرقابة_ومكافحة_الفساد تباشر عدداً من القضايا التأديبية والجنائية#معاَ_لمكافحة_الفسادhttps://t.co/y1xHmzdvvS pic.twitter.com/ieMoyTRYUe
— هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (@nazaha_gov_sa) March 15, 2020
سجل حقوقي مشين
ليس غريبًا على ابن سلمان ورجاله الانتهاكات المتواصلة بحق مواطني المملكة، فللبلاد سجل حقوقي مشين في هذا الشأن، وهو ما توثقه التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية الدولية، ففي نوفمبر 2019 ومن خلال تقرير صادر في 57 صفحة حمل عنوان “الثمن الفادح للتغيير: تشديد القمع في عهد محمد بن سلمان يشوّه الإصلاحات”، وثقت منظمة هيومان رايتس ووتش الانتهاكات الحقوقية للسلطات السعودية.
التقرير وثق بشكل تفصيلي بناء على شهادات حية، الممارسات التعسفية التي تستهدف بها سلطات المملكة المعارضين والنشطاء منذ منتصف 2017، بجانب الغياب التام لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، حيث رأت المنظمة أنه رغم الإصلاحات التي قامت بها الرياض لصالح المرأة والشباب، فإن الانتهاكات المستمرة تكشف وبصورة كبيرة أن سلطة القانون لا تزال ضعيفة وقد تتقوّض متى شاءت القيادة السياسية في المملكة.
كما تحدث التقرير كذلك على مساعي ابن سلمان التخفي وراء ما سمته المنظمة “المظاهر البرّاقة المستجدة والتقدم الذي أحرزه لنساء المملكة وشبابها”، مستدركة أنه “يقبع خلف حقيقة مُظلمة، مع سعي سلطاته إلى إزاحة أي شخص في المملكة يجرؤ على الوقوف في طريق صعود ابن سلمان السياسي”.
نائب مديرة قسم الشرق الأوسط لدى المنظمة، مايكل بَيْج، يقول في تعليقه على التقرير: “أنشأ محمد بن سلمان قطاعًا للترفيه وسمح للمرأة بالسفر والقيادة، لكن السلطات السعودية حبست العديد من المفكرين والنشطاء البارزين الإصلاحيين في المملكة خلال ولايته، الذين دعا بعضهم إلى تطبيق هذه الإصلاحات نفسها. إذا كانت السعودية تسعى إلى إصلاحات حقيقية، فعليها ألا تعرّض أبرز نشطائها إلى المضايقة والاحتجاز وسوء المعاملة”.
بقرار وزير التعليم السعودي تنجح المملكة في تسجيل صفحة مشينة جديدة في سجلها الحقوقي الذي بات ينافس سجلات الأنظمة الديكتاتورية المتهمة بجرائم حرب ضد الإنسانية على مر التاريخ، ليؤكد الأمير الشاب مرة تلو الأخرى تمسكه بالمبدأ الميكافيللي من أجل الوصول إلى الكرسي والتمسك به مهما كان الثمن.