التحقت الجزائر رسميًا بالإمبراطورية العثمانية سنة 1518، بعد أن استنجد الجزائريون بالأخوة عروج وإسحاق وخير الدين بربروس لإنقاذهم من التهديد الصليبي الذي يتربص بالبلاد قبالة البحر المتوسط. امتد حكم العثمانيين في تلك الأراضي إلى سنة 1830، وتركوا فيها بصمتهم وآثارهم من قصور ومساجد ومدارس أيضًا، استطاعت البقاء والصمود في وجه الزمن لتحكي للأجيال المتعاقبة عظمة عمران العثمانيين وحضارتهم.
جامع كتشاوة
أبرز المساجد العثمانية في الجزائر على الإطلاق هو مسجد كتشاوة، ويعود تاريخ بنائه إلى أكثر من أربعة قرون، وفي سنة 1792 وسعه الداي حسين باشا حاكم البلاد، وترجع التسمية إلى الكلمة التركية التي تعني باللغة العربية “العنزة”، وأطلق الاسم على المسجد نسبة إلى سوق الماعز القائم في الساحة المقابلة للمسجد التي تحول اسمها لاحقًا إلى ساحة الشهداء تخليدًا لذكرى الـ4 آلاف شهيد الذين استشهدوا دفاعًا عنه.
استخدم الفرنسيون المسجد التاريخي كمستودع للسلاح ومسكن لرؤساء الأساقفة إبان احتلالهم للجزائر، ثم حوله الجنرال روفيغو إلى إسطبل، في محاولة لضرب كل ما يمت بصلة للشريعة الإسلامية والقضاء على مقومات الجزائر، وبعدها تم تحويله إلى كنيسة حملت اسم “سانت فيليب”.
يتميز جامع كتشاوة بزخارفه العثمانية
بعد استقلال الجزائر سنة 1962 أعيد مسجد كتشاوة إلى دائرة الدين الإسلامي الحنيف، وأُزيلت كل الصلبان التي كانت منتصبة فوق مآذنه وقبابه، وأقيمت به أول صلاة في الجمعة الأولى التي تلت الاستقلال في الـ5 من يوليو/تموز 1962، وكان خطيبها العالم الجزائري الشهير البشير الإبراهيمي، أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
رغم ما مر به في أثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر وتغييره إلى كنيسة وتضرره من الزلزال الذي ضرب البلاد سنة 2003، بقي الجامع محافظًا عبر مآذنه وصومعته وأعمدته المرمرية وفسيفسائه ونقوشه البديعة، على طابعه العمراني العثماني والإسلامي.
الجامع الجديد
يقع هذا الجامع العثماني بالقصبة السفلى بساحة الشهداء بالعاصمة مطلًا على البحر، وكان رؤساء البحرية يحيونه عند الخروج للغزو بالطلقات النارية تيمنًا بالنصر، عُرف سابقًا بجامع “الحواتين” نسبة إلى المكان الموجود به المعروف عند عامة الناس بـ”لا بيشري” أو “السماكة” حيث يصطاد ويباع السمك طازجًا.
يعود تاريخ تشييده إلى الفترة العثمانية، تحديدًا سنة 1660 في عهد الداي مصطفى باشا، وقد مزج بين الطراز البيزنطي والعثماني وكان مسجدًا للمذهب الحنفي طوال الفترة العثمانية، وتم بناؤه بتمويل من مؤسسة سبل الخيرات التي تدير الصدقات التي تجمع لفائدة طائفة الأحناف العثمانيين.
يتميز الجامع الجديد بوفرة النقوش والفسيفساء ويضم مجموعة من التحف النادرة منها أربعة كراسي من الخشب يتربع عليها مشايخ العلماء في أثناء حلقات العلم وشمعدان مصنوع من النحاس الخالص، ويحتوي المسجد على منبرين أولهما منبر خشبي عتيق يتوسط قاعة الصلاة، أما المنبر الثاني جيء به من ”مسجد سيدة” الذي أحرقته فرنسا بعد عامين من احتلالها الجزائر وهو مصنوع من الرخام، فضلًا عن محراب، وتوجد به نوافذ صغيرة مصنوعة من الرخام الأبيض تستعمل لإضاءة المكان.
يتزين الجامع بقبة مركزية بصلية الشكل تحملها دعائم ضخمة، وبزخارف جصية منقوشة ومخرمة تحمل موضوعات كتابية وهندسية ونباتية، فضلًا عن الرخام الأبيض المطعم بالحجارة الملونة، ولهذا الجامع الذي يتميز بمظهره الشرقي، مئذنة من النوع المغربي مربعة الشكل تتوجها الشرفات والجوسق، وتحلي واجهاتها أشكال إهليجية موضوعة داخل أطر مستطيلة.
مسجد الباشا
مساجد العثمانيين لم تتركز في العاصمة فقط، بل انتشرت في أغلب المدن الجزائرية، ففي وهران نجد مسجد الباشا الذي شيد سنة 1797 في عهد الباي محمد الكبير بأمر من بابا حسن باشا الجزائر العاصمة.
يتميز جامع الباشا بمنارة مرتفعة وهي مثمنة الطراز، واجهتها مغطاة ببلاطات خزفية وتنتهي بشرفة يقف فوقها المؤذن ليرفع الأذان، ويزين مدخل مسجد الباشا الذي شيد على شكل الهلال، مجموعة من المنحوتات وآيات من القرآن الكريم بالخط الكوفي.
قصر مصطفى باشا
فضلًا عن المساجد، خلف العثمانيون قصورًا عدةً في الجزائر، كانت مقرات لحكامهم وأمرائهم وقادتهم، وتتميز هذه القصور بدرجة عالية من الجمال والجاذبية، فهي ذات هندسة معمارية بديعة.
من هذه القصور، قصر مصطفى باشا في القصبة السفلى بالقرب من البحر بالعاصمة، وتم تشييد سنة 1798، على شكل قلعة ويحتوي على ثلاثة طوابق، وقد حولته السلطات الاستعمارية حتى 1948 إلى مكتبة وكانت أول مكتبة فرنسية بالجزائر، قبل أن يصبح بموجب مرسوم وزاري بتاريخ 7 من نوفمبر 2007 مقرًا لمتحف الزخرفة والمنمنمات وفنون الخط.
زينت جدران القصر بأنواع رائعة من الرخام الخالص، كما زركش بلاطه بأشكال هندسية فائقة الجمال، أما قاعة الاجتماعات فقد زخرفت بأشكال ورسومات مختلفة تعود للقرن الـ18، توجد في جميع غرف القصر وعلى أحد جدرانها الخارجية ثلاث فتحات تسمى “الريحيات”، وثلاث فتحات أخرى قرب سقف الغرفة تسمى “الشمسيات”، تستعمل لتهوية الغرفة.
صنعت جميع أبواب القصر الكبيرة من الحطب، وفي كل باب كبير آخر صغير يسمى “خوخة” يفتح دائمًا في فصل الصيف، ويحتوي القصر على أكثر من 500 ألف قطعة بلاط رفيعة تملأ كل مكان فيه، وهي ذات ألوان جذابة ومرتبة بذوق فني رفيع.
قصر رياس البحر
أسفل القصبة نجد أيضًا قصر رياس البحر الذي شيّد بأمر الحاكم العثماني للجزائر رمضان باشا 1576، واستمر بناؤه سنوات طويلة، حيث كانت السلطات توسعه في كل مرة وتطوره لزيادة مساحته وقدرته على مواجهة الهجمات الأوروبية.
كان أشهر المقيمين في القصر الرايس مامي أناؤوط، أحد أشهر رياس البحر في البحرية الجزائرية في نهاية القرن 16، وكان إقامة رسمية لكثير من رياس البحر ومنه كانوا يصدون غزوات الأوروبيين خاصة الإسبان الطامعين في الجزائر.
يتكون القصر ذو الجمال الأخاذ لثقافات وحضارات ولت، من ثلاث بنايات متشابهة ومتلاصقة ببعضها البعض هي القصر 17 والقصر 18 والقصر 23 و6 منازل بسيطة تسمى الدويرات أحدهما مصلى، وقد صنف سنة 1990 كمعلم تاريخي، ليبقى شاهدًا على تعاقب الحضارات والثقافات الإنسانية.
يتميز القصر الذي يتربع على مساحة إجمالية قدرها 4000 متر، بإطلالة جميلة على واجهة البحر الأبيض المتوسط، حاكيًا تاريخ العثمانيين للتصدي للغزاة من خلال المدافع التي ما زالت صامدة وتحكي لأبناء الجزائر نضالها وكفاحها من أجل الحرية.
قصر أحمد باي
إلى جانب تلك القصور، نجد قصر أحمد باي أو الحاج أحمد باي (حكم بايلك الشرق لمدة 16 سنة) الذي شيد بين 1825 و1835 بحي القصبة العتيق في قلب مدينة قسنطينة بطريقة جعلت منه إعجازًا عمرانيًا، يحمل بين جدرانه هوية دولة وتاريخ شعب، ويمتد على مساحة تقدر بـ5600 متر مربع.
يتكون من 121 غرفة و45 بابًا و60 نافذة و2300 متر مربع من الأسقف الخشبية، صُنعت من خشب شجر الأرز، وعليها نقوش إسلامية مختلفة، تم طلاؤها بالألوان الصفراء والحمراء والخضراء، وهي نفس الألوان التي تم اعتمادها في دهان جميع أسقف القصر وزجاج النوافذ وباحات الاستقبال.
تزين جدرانه رسومات على مساحة 2000 متر مربع، وتعتبر مرجعًا يؤرخ لحياة الحاج أحمد باي، وتعكس مختلف التجارب والرحلات التي قام بها على مدار 15 شهرًا، فضلًا عن المعارك التي شارك فيها ومختلف إنجازاته في مدينة قسنطينة والجزائر.
يشتمل طابق القصر الأرضي على حدائق عدة وفناءات رحبة، ويحيط بالقصر خمسة أقواس تقابلها حدائق مفتوحة على مصراعيها لاحتضان الطبيعة، فيما يتوسطه حوض كبير، أما الطابق العلوي فيؤدي إلى فناء كبير مزين بأروقة ذات أقواس وشقق شبيه بالطابق السفلي.
هذه المعالم التاريخية وغيرها التي انتشرت في مختلف ربوع الجزائر، مازالت إلى الآن شاهدة على عظمة الحضارة العثمانية التي مرت على البلاد، رغم محاولات الاستعمار الفرنسي طيلة أكثر من 130 سنة طمسها وطمس كل أثر إسلامي في البلاد لضرب الثقافة العربية الإسلامية للجزائريين.